ودوافع هذه التهويل متعددة تبدأ بالتسريبات المشبوهة مروراً بتصريحات رسمية أمريكية تتضمن التهديد العلني، وما تبع ذلك من مواقف روسية أعلنت بوضوح أنها سترد على واشنطن إذا استخدمت في عدوانها أي نوع من أنواع الأسلحة النووية وعلى أي مستوى كان، أو إذا استهدفت دمشق أو الوجود الروسي المباشر، وتلا ذلك تصريحات للأركان الروسية عن وجود مؤشرات على تحضيرات أمريكية لضرب سوريا، إضافة إلى كم كبير من الدراسات والتحليلات الصادرة عن مراكز دراسات وأبحاث، ووجهات نظر خاصة بباحثين ومحللين متعددين، وهي بمجملها تركز على حتمية الضربة الأمريكية الإسرائيلية بمعطيات متعددة متقاربة حيناً ومتناقضة حيناً آخر، والملفت للانتباه أن العديد ممن تناولوا هذا الأمر يعبرون عن خشية حقيقية مردها الخوف من المجهول، واليقين بإجرام الإدارات الأمريكية المتعاقبة، واستعداد الإدارة الحالية لتحطيم كل الأرقام القياسية لما ارتكبته قوى الطغيان العالمي من إرهاب وإجرام عبر قرن ونيف، وقد تكون مثل هذه الخشية مبررة موضوعياً، لكن طريقة التعبير عنها تسهم بشكل أو بآخر في تحقيق الأهداف الإستراتيجية للحرب المفروضة على سورية ومحور المقاومة منذ سبع سنوات على الأقل، فالتعامل مع السيناريوهات المحتملة شيء، وتعميم الخوف أو التسويق ـ بقصد أو بغير قصد ـ لما يريده الأعداء شيء آخر.
صحيح أنه في الاستراتيجيا العسكرية يجب وضع كل السيناريوهات المحتملة على الطاولة، ولا يجوز استبعاد أي سيناريو مهما كانت نسبة احتمال حدوثه متدنية، لكن الصحيح أيضاً وضع تلك السيناريوهات للدراسة والتحليل وفق مبادئ أساسية من أهمها :/ التكلفة والمردودية ـ ماذا بعد؟ أي ما هي الخطوة التالية؟ ـ ما هي الردود المحتملة التي يمكن أن ينفذها الطرف الآخر، ومدى القدرة على التعامل مع التداعيات؟ ـ إلى أي مدى يمكن أن يصل التصعيد الجديد؟ ـ إمكانية التنبؤ بالنتيجة المسبقة للتصعيد ـ هل يمكن التحكم بالنهاية إذا كان إشعال الفتيل ممكناً لأي طرف؟؟./، والإجابة على أي من هذه التساؤلات المشروعة والمحددات الرئيسة لاتخاذ قرار استراتيجي يتضمن توسيع دائرة الحرب تؤكد أن إمكانية التوسيع والتصعيد الفعلي هي في حدودها الدنيا، فلماذا التهويل من عدوان أمريكي ـ إسرائيلي ضد سوريا وحزب الله؟ وهل توقف هذا العدوان يوما؟ أم هل توسيع العدوان يمكِّن المعتدين من تنفيذ ما عجزوا عنه منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران؟.
لا شك أن لدى واشنطن من الطاقة التدميرية ما هو كفيل بإفناء البشرية عدة مرات، لكن من الذي قال أن استخدام ذلك ممكن مع المحافظة على الوجود الأمريكي؟ وصحيح إن ما تمتلكه واشنطن وأتباعها من عوامل قوة عسكرية مباشرة يفوق عشرات الأضعاف ما تمتلكه أطراف المقاومة، فلماذا لم يستخدموا فائض القوة تلك حتى عندما كانت روسيا شبه مغيبة عن الفاعلية الدولية؟ وإذا عدنا إلى صلب الموضوع الخاص بحصر التصعيد الجديد ضد سورية وحزب الله فمن الطبيعي أن يتساءل المتابع الموضوعي عن الجديد المتبدل الذي يدفع واشنطن للإقدام على ذلك، فإذا كانت الذريعة غير مهمة ويمكن اختلاق ذرائع متعددة فلماذا تنتظر واشنطن حدوث ذريعة محددة " التيقن من استخدام السلاح الكيماوي"، وثانياً لماذا لم توعز لأتباعها ليكلفوا أدواتهم الإرهابية في الغوطة الشرقية أو غيرها بتنفيذ مسرحية استخدام الكيماوي حتى الآن مع أنه تم تطهير أكثر من 70% من الغوطة الشرقية؟
باختصار شديد يمكن الإشارة إلى العديد من النقاط التي تساعد على فهم حقيقة ما يجري، ووضع تصور موضوعي للسيناريوهات المحتملة في المستقبل القريب، ومن أهم هذه النقاط:
ـ ما يحصل على الجغرافيا السورية منذ سبع سنوات أعاد وما يزال يعيد الاصطفافات الجيوبوليتيكية المتعارف عليها تقليدياً، وعلى ضوء نتائج هذه الحرب سيعاد رسم هيكلية النظام العالمي الجديد، كما أنه على ضوء نتائج معركة الحسم في الغوطة الشرقية تتوقف النتيجة النهائية للحرب التي هي أكبر من إقليمية وأقل من عالمية على الجغرافيا السورية.
ـ التهديدات الأمريكية ليست جديدة وتحرك المدمرات والبوارج الأمريكية أو الأطلسية لا يعني بدء العدوان، فما يهم أصحاب تلك الأساطيل أن تحركها مدفوع الكلفة بشكل مسبق ولعدة أضعاف من خزائن مشيخات النفط والغاز الخليجية، وبالتالي مثل هذه التهديدات تصب في إطار الحرب النفسية والإعلامية أكثر مما تصب في خانة البدء بتوسيع دائرة الحرب بشكل فعلي.
ـ ما يمنع واشنطن وتل أبيب عن الجنون هو قدرات محور المقاومة وليس التهديدات الروسية بالرد، لأن التهديدات الروسية مشروطة بخطين أحمرين: /استخدام سلاح نووي، أو استهداف دمشق/ وبالتالي يمكن لواشنطن إن كانت قادرة على تحمل تداعيات التصعيد أن توسع دائرة الحرب دون كسر الخطين المذكورين، وهذا لا يقلل قط من أهمية الموقف الروسي والدور الفاعل الذي اضطلعت به روسيا دبلوماسيا حتى صيف 2015م.، ومساهمتها الفعلية في الحرب على الإرهاب وتقويض سيطرته على مساحات جغرافية واسعة، وتمكين الجيش العربي السوري والقوى الحليفة والرديفة من دحرجة مدحلة الحسم الميداني بوتائر مرتفعة إلى أن وصلت الغوطة الشرقية.
ـ بعضهم يبني على إقالة وزير الخارجية الأمريكية "تيلرسون" فرضيته التي تؤكد إقدام واشنطن الحتمي على العدوان وتوسيعه، ومن حق المتابع العادي هنا أن يتساءل: من الذي عين تيلرسون وزيراً للخارجية ترامب أم أحد أطراف محور المقاومة؟ ألم ينتشر الحديث عند تعيين تيلرسون بأنه من أشد أنصار الكيان الصهيوني تعصباً واندفاعا لخدمة مصالح ذاك الكيان اللقيط؟ وما الذي سيتغير بتبديل مسؤول أمريكي أو أكثر في إدارة ترامب بشخصيته الإشكالية التي تعبر عن حقيقة المجتمع الأمريكي القائم على بسط السيطرة والنفوذ والهيمنة بغض النظر عن الإدارة ديمقراطية كانت أم جمهورية.
ـ التصعيد الأمريكي بخاصة والأطلسي الخليجي العثماني بعامة شهد مستويات غير مسبوقة منذ أن تم الإعلان عن إصرار الدولة السورية على تطهير الغوطة الشرقية، وأشكال التصعيد كانت كثيرة، وهذا التهويل بالحرب أحد تلك الأشكال، لكنه بدأ بعد أن أصبح الحسم في الغوطة تحصيل حاصل ومسألة وقت، ولا يخفى على متابع متخصص أن تطهير ما حول العاصمة دمشق من الإرهاب وداعميه يعني تحطيم الحلقة الأكثر خطورة في مشروع التشظية والتقسيم.
ـ دراسة أوراق القوة والضعف لدى أطراف محور المقاومة ولدى أعدائهم يبين أن واشنطن هي الأكثر قدرة على الأذى والإيلام والتدمير عندما تكون المواجهة من بعيد، فهي تستطيع إطلاق الصواريخ المجنحة من أية قاعدة لها في المنطقة أو في خارجها، ومن قطع أسطولها المنتشر في المياه الكونية، فكيف إذا كانت بعض قطع ذاك الأسطول ترابض في البحر المتوسط أو تقترب منه، وفي الوقت ذاته فإن واشنطن هذه تصبح الأضعف في المواجهة القريبة، وما يحسم الميدان هو عنصر المشاة القادر على مواجهة الجيش العربي السوري، وجميع المكونات المسلحة التي أشرفت واشنطن على إنتاجها وتفريخها تبين أنها عاجزة عن تحقيق هذا الأمر.
ـ وجود القواعد العسكرية الأمريكية فوق الجغرافيا السورية بقدر ما هو عامل قوة لواشنطن، إلا أنه في الوقت ذاته يعدُّ عامل ضعف في حال خرجت الأمور عن السيطرة وذهبت باتجاه المواجهة الشاملة المضبوطة بخطوط حمراء عنوانها عدم المواجهة النووية بين العملاقين روسيا وأمريكا، وفي هذه الحالة يمكن أن يتحول أي وجود عسكري أمريكي على الجغرافيا السورية وما حولها إلى هدف مشروع وبشكل مباشر، فليتصور أي متابع ما الذي سيحدث لو تم استهداف القاعدة الأمريكية في التنف أو بقية القواعد شرق الفرات بعدة صواريخ تصيب أهدافها بدقة، وليتابع بعض المرجفين والقانطين والمتخوفين ما الذي قاله إيهود باراك بخصوص الداخل الإسرائيلي واعترافه بأنه غير جاهز وغير مهيأ لحرب شاملة، ولا للتعامل مع تداعيات توسيع دائرة ألسنة اللهب إلى خارج الجغرافيا السورية، ومن الجدير بالذكر هنا إن أحد أهداف هذه الحرب المفروضة على سورية ومحور المقاومة هي سلامة الكيان الصهيوني، وبقاء ما يسمى " البطن الرخو" أي الداخل الصهيوني بعيداً عن أية خضات لا يستطيع تحملها، فكيف ستكون الحال عندما تزرع كل مئة متر مربع إن لم يكن أقل بصاروخ؟.
ـ الخلاف التركي ـ الأمريكي الظاهري هو جزء من التضليل الاستراتيجي المطلوب، ولعل أحد أهداف التهديد بالعدوان ضمان تمدد الاحتلال التركي والدخول إلى عفرين وتحويل أنظار الرأي العام عن هكذا عدوان سافر وإشغالهم بكيفية لملمة الأوراق وعدم انفجار المنطقة بمن فيها.
خلاصة ونتيجة:
تطهير أكثر من 70% من الغوطة الشرقية أصاب أصحاب المشروع الإرهابي التفتيتي بالذهول، وولد شعوراً بالإحباط، ولاسيما بعد افتضاح حقيقة التضليل الاستراتيجي الذي مارسوه على امتداد سنوات فيما يتعلق بالسكان المدنيين وخروج عشرات الآلاف من سكان الغوطة طالبين حماية الجيش والدولة السورية، وهذا ما سحب الكثير من الأوراق التي كانت بيد واشنطن وحلفائها، وللتعامل مع هكذا تداعيات دراماتيكية جاءت التهديدات الأمريكية غير المسبوقة، ولا يستبعد أن تقدم واشنطن فعلاً على توجيه بعض الضربات الموضعية خارج دمشق إذا تأكدت أن ذلك يبقي الأمور تحت السيطرة، ويمكن تدوير الزوايا قبل السقوط في حافة الهاوية بالتنسيق مع الدبلوماسية الروسية الكفوءة والمهنية العالية التي أثبتتها في التعامل مع أكثر قضية شائكة في القرن الحادي والعشرين، فالمهم ليس حشر واشنطن في الزاوية الضيقة ورحى الحرب دائرة، بل تحقيق الإنجاز تلو الإنجاز، وتطهير الجغرافيا السورية بقعة بقعة، وفي نهاية المطاف ستجد واشنطن نفسها أمام الحقيقة المرة وهي الاعتراف القسري بهزيمة مشروعها التفتيتي، والعجز عن منع محور المقاومة من التجذر وإثبات الذات والفاعلية إقليمياً ودولياً، وإلى أن يأتي ذلك الوقت لا أرى ضيراً في تقديم كوب عصير صناعي يساعد أبرهة العصر على ابتلاع مرارة الهزيمة والانحسار.
* بقلم حسن أحمد حسن .. متخصص بالدراسات العسكرية والإستراتيجية