جاء في قوله تعالى في سورة التّحريم: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}[التّحريم: 10].
نأتي أوّلاً على معنى الخيانة في اللّغة. قال الراغب: "الخيانة والنفاق واحد، إلّا أن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة، والنّفاق يقال اعتباراً بالدين ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحقّ بنقض العهد في السّرّ، ونقيض الخيانة: الأمانة، يقال: خنت فلاناً وخنت أمانة فلان".[مفردات الرّاغب، ص 162].
ما هو معنى خيانة امرأة نوح وامرأة لوط؛ هل الخيانة الزّوجيّة المعروفة كالزّنا مثلاً، أو هي خيانة للأمانة ولمكانتهما كزوجتين لنبيّين كريمين؟
نستعرض ما ورد في بعض التفاسير، بما يدلّ على أنّ الخيانة هي خيانة أمانة الرّسالة والموقع، وذلك من خلال تآمرهما مع الكافرين على الرّسالة، وتعاونهما معهم ضدّ زوجيهما.
فالعلّامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض)، يوضح في تفسيره خيانتهما لدورهما، من خلال تسخير قوّتهما في خدمة الكفر وأهله، وخذلانهما لمنطق الحقّ وأهله، وما كانتا عليه من صفات ذميمة. يقول سماحته:
"{ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ}، فكانتا زوجتين لنبيّين من أنبياء الله هما نوح ولوط، {فَخَانَتَاهُمَا} في موقفهما المضاد للرسالة، حيث اتبعتا قومهما في الكفر، ولم تنسجما مع طبيعة موقعهما الزوجي الذي يفرض عليهما أن تكونا من أوائل المؤمنين بالرسالة، لأنهما تعرفان من استقامة زوجيهما وأمانتهما وصدقهما وجدّيتهما ما لا يعرفه الآخرون، فلا يبقى لهما أيّ عذرٍ في الانحراف عن خطّ الرّسالة والرسول. ولكنّ المشكلة أنهما كانتا غير جادّتين في مسألة الانتماء الإيماني والالتزام العملي، فلم تنظرا إلى المسألة نظرةً مسؤولةً، بل عاشتا الجوّ العصبي الّذي يربطهما بتقاليد قومهما، فكانتا تفشيان أسرار النبيّين في ما قد يسيء إلى مصلحة الرّسالة والرّسول، وكانتا تبتعدان في سلوكهما عن منطق القيم الروحية الإيمانية لتبقيا مع منطق الوثنيّة، ما يجعل البيت الزوجي النبويّ يتحرّك في دائرة الجاهلية إلى جانب دائرة الإيمان، ولعلّ ضلال ابن نوح كان خاضعاً لتأثير والدته. ويقال: إنَّ امرأة لوط كانت تخبر قومها بالضّيوف الذين يزورون زوجها، ليقوموا بالاعتداء عليهم، فكانت خيانتهما للموقف وللموقع".[تفسير من وحي القرآن، ج 22، ص 328].
يقول الشّيخ أبو جعفر الطوسي في كتاب "التبيان في تفسير القرآن"، عند تفسير قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا}: "قال ابن عباس: كانت امرأة نوح وامرأة لوط منافقتين، (فخانتاهما) قال ابن عباس: كانت امرأة نوح كافرة، تقول للناس إنَّه مجنون، وكانت امرأة لوط تدلُّ على أضيافه، فكان ذلك خيانتهما لهما". ثم قال الشيخ الطوسي (رحمه الله): "وما زنت امرأة نبيّ قطّ، لما في ذلك من التنفير عن الرسول وإلحاق الوصمة به، فمَن نسب أحداً من زوجات النبيِّ إلى الزّنا، فقد أخطأ خطأً عظيماً، وليس ذلك قولًا لمُحصِّل".[التبيان في تفسير القرآن، الشيخ أبو جعفر الطّوسي، ج10، ص52].
أمّا الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، فيعلق بالقول: "{فَخَانَتَاهُمَا} بالنِّفَاقِ والتَّظَاهُرِ على الرَّسُولَيْنِ، فامرأةُ نُوح قَالَتْ لقَومِهِ: إنَّه مجْنُونٌ، وامرأةُ لُوط دَلَّتْ على ضَيفَانِهِ، وعن الضَّحَّاكِ: خَانَتَاهُما بالنَّميمةِ إذا أَوْحَى اللهُ إِليْهِما أَفْشَتَاهُ إلى المُشْركينَ، ولا يَجُوزُ أَن يُرادَ بالخِيَانَةِ الفُجُورُ، لأنَّه نَقِيصَةٌ عندَ كلِّ أَحَد، سَمِجٌ في كلِّ طبيعة، بخِلاَفِ الكُفْرِ، لأنَّ الكُفَّارَ لا يَسْتَسمجُونَهُ، وعن ابنِ عبَّاس: ما زَنَتِ امرأةُ نَبيٍّ قَطٌّ؛ لِمَا في ذلكَ من التَّنفيرِ عن الرَّسُولِ، وإْلحَاقِ الوَصْمَةِ بِهِ".[جوامع الجامع، الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، ج3، ص 597].
وكذلك السيِّد الشّريف المرتضى، قال: "ولأنَّ الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) يجب أن يُنزَّهوا عن مثل هذه الحال، لأنَّها تَعرُّ وتشين وتغضُّ مِن القدر، وقد جنب اللهُ تعالى أنبياءه (عليهم الصلاة والسلام) ما هو دون ذلك، تعظيماً لهم وتوقيراً ونفياً لكلِّ ما يُنفِّر عن القبول منهم، وقد حمل ابنُ عباس ظهور ما ذكرناه من الدّلالة على أنْ تأويل قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط {فخانتاهما}، على أنَّ الخيانة لم تكن منهما بالزّنا، بل كانت إحداهما تُخبر الناس بأنَّه مجنون، والأخرى تدلّ على الأضياف".[أمالي المرتضى، غرر الفوائد ودرر القلائد، السيِّد الشّريف المرتضى، ج2، ص 145].
هذا بعض ما جاء في التفاسير عن معنى خيانة امرأتي نوح ولوط (عليهما السلام)، وما اتصفتا به من خصال أكّدت حجم نفاقهما وتظاهرهما.
المصدر: بينات