تركت القوى التي كانت تستعمر دولاً في الشرق الأوسط، بذور نزاعات طائفية وعرقية من أجل استمرار السيطرة على هذه الدول بعد الخروج منها، ولكن هذا المستعمر لا يزال يمارس نفس الدور، حتى أصبحت أغلب دول المنطقة مهيأة للانفصال والتشرذم.
وبهذه النظرة يرى موقع LobeLog الأميركي في مقال للباحثة في شؤون الشرق الأوسط شيرين هنتر، الجمعة 23 فبراير/شباط 2018، أن المنطقة مقبلة أيضاً على مزيد من التشرذم والتفكك الذي طالها بشكل واضح ومباشر عقب دخول القوات الأميركية للعراق عام 2003.
نماذج من التفكك
وبحسب المقال، بدأت عملية التفكيك في عام 2003، مع الغزو الذي تعرَّضت له العراق بقيادة الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، تلاشت تقريباً قابلية الدولة العراقية للحياة بعد سقوطها في ويلات الفوضى والحرب الأهلية. إذ أصبحت المناطق التي يسكنها الأكراد شبه مستقلة، وطُرِحَت مقترحاتٌ مختلفة حول تقسيم الدولة إلى ثلاثة كياناتٍ مختلفة بناءً على معايير عرقية وطائفية.
وبعد ذلك، أسفر القصف الذي تعرَّضت له ليبيا من جانب قوات حلف شمال الأطلسي في عام 2008 عن إصابة البلاد بتفكُّكٍ شديد. وانقسمت السودان إلى جزءٍ شمالي وآخر جنوبي، وما زال جنوب السودان واقعاً في قبضة الصراعات وسوء أوضاعه الاقتصادية والإنسانية، بحسب المقال.
وسرعان ما تحوَّلت الأزمة السورية التي اندلعت في عام 2011 إلى حربٍ أهلية. والآن بعد سبع سنواتٍ من الصراع والمآسي الإنسانية المُفجعة، صار من الواضح بدرجةٍ متزايدة أنَّ سوريا لا يمكن أن تستعيد وحدتها.
وما يجري في سوريا سيؤثر حتماً في لبنان وربما الأردن كذلك.
وينطبق الأمر نفسه على اليمن، حيث تشنّ السعودية حرباً وحشيةً بمساعدة الإمارات. وحتى إذا كان الصراع الدائر في اليمن قد اقترب من نهايته، فمن الصعب تصوُّر طريقة يمكن بها إعادة البلاد إلى ما كانت عليه في وقتٍ معقول، بحسب الموقع الأميركي.
دول هشة
وتعتبر كاتبة المقال أن الدول التي تقسّمت دول هشة؛ إذ يقول بعض المؤرخين والمحللين إنَّ القوى الاستعمارية خلقت هذه الهياكل الاصطناعية مع اهتمامها بمصالحها الخاصة والتنافسات الدائرة بينها، أكثر من اهتمامها بقدرة هذه الدول على البقاء والنمو في المستقبل. وذلك فضلاً عن أنَّ النخب السياسية أساءت إدارة السياسات الداخلية في هذه الدول الجديدة، وفشلت في تشكيل هويات وطنية تتجاوز الانقسامات العرقية والطائفية. وأسفرت الحرب الباردة وموجاتٌ من القومية المُفرطة والحركات الثورية عن تفاقم هذه المشكلات.
من السمات المميزة للنهج الاستعماري في بناء الدول الحفاظ على التوترات بين الأقليات العرقية والطائفية كوسيلة للاحتفاظ بنفوذ القوة الاستعمارية التي غادرت هذه الدول، عن طريق تمكينها من التلاعب بالدول التي كانت مُستعمَرة إذا ظهرت الحاجة إلى ذلك.
نُفِّذت هذه الاستراتيجية على أكمل وجهٍ خارج الشرق الأوسط، حين ضم فلاديمير لينين وجوزيف ستالين زعيما الاتحاد السوفيتي الأسبقين معظم الإمبراطورية الروسية إلى الاتحاد السوفيتي. ولا شك في أنَّ العديد من الصراعات الإقليمية الدائرة في المناطق التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي هي إرث سياسة ستالين القومية. أمَّا في الشرق الأوسط، فقد استغلت بريطانيا وفرنسا هذه الاستراتيجية عبر فن "فرِّق تسُد"، بحسب المقال.
وبحسب المقال توضِّح أحدث حلقات التلاعب الخارجي المتمثلة في الأقلية الكردية في العراق وسوريا هذه الممارسة الإمبريالية القديمة. بيد أنَّ المشكلة تتمثل في أنَّ ذلك التلاعب بنقاط الضعف هذه لا يسفر دوماً عن تحقيق النتائج المرجوة. فعلى سبيل المثال، لم يُسفر استخدام الولايات المتحدة الأكرادَ ضد الأقلية العلوية في سوريا ونظام بشار الأسد إلَّا عن غضب تركيا، وأثار أزمة ثقة في العلاقات التركية الأميركية. ولم تُسفر دعوة مسعود بارزاني الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق إلى استقلال الإقليم عن العراق، إلَّا عن تفاقم المشكلات القائمة في البلاد.
ومع ذلك، فما دامت القوى العظمى ترى أنَّ تكلفة هذه الاستراتيجيات ما زالت مقبولة، فستواصل استخدامها لتحقيق أهدافٍ على المدى القصير، حتى إذا تسببت في إثارة مشكلاتٍ على المدى الطويل لهذه الدول نفسها.
إيران.. والاستهداف الأميركي الدائم
وبحسب الموقع الأميركي تُطرَح الآن أفكارٌ واستراتيجيات مشابهة من أجل التعامل مع إيران. فلطالما أُثيرت فكرة أنَّ إيران كبيرةٌ جداً إلى حدٍّ يقلق راحة القوى العظمى، حتى حين كان يُفترَّض أنَّها حليفةٌ لدولٍ غربية.
وتمثَّلت إحدى طرق التعامل مع هذه القضية على مرِّ العقود الأخيرة في الترويج لفكرة أنَّ إيران ليست دولةً قومية، بل إمبراطورية مكوَّنة من جماعاتٍ عرقية مختلفة.
ومن هذا المنطلق، فلا حرج في تفكيك إيران إلى عناصرها العرقية المختلفة، أو "تقليصها إلى أصلها الفارسي"، على حد قول بعض المعلقين.
ويُمثِّل استخدام اسم "بلاد فارس" بدلاً من "إيران" جزءاً من هذه الاستراتيجية. وتروِّج إحدى الخرائط التي تُظهِر إيران تحت اسم محافظة فارس كمجرد جزءٍ من الإمبراطورية الفارسية ترويجاً بصرياً لهذه الفكرة.
وحتى الآن، تتبع دولٌ غربية (أبرزها الولايات المتحدة) ومعارضون آخرون لوحدة إيران هذه الاستراتيجية بوسائل غير مباشرة، تتمثل في تشجيع الحركات الانفصالية. وواصلوا كذلك تقويض الاقتصاد الإيراني بعقوبات وضغوط أخرى، حتى بعد التوصُّل إلى خطة العمل الشاملة المشتركة التي كان من المفترض أن تُنهي معظم العقوبات. وبتعزيز السخط العام على الحكومة المركزية في العاصمة الإيرانية طهران، فمن شأن هذه الضغوط نظرياً أن تُحفِّز الحركات الانفصالية، بحسب المقال.
جديرٌ بالذكر أنَّ بعض منافسي إيران الإقليميين جاهروا بدعم هذه السياسة حتى لو أدت الى تفكك بلدانهم في نهاية المطاف، باعتبار انهم ايضا يواجهون نفس التنوع العرقي والمذهبي والقومي.. فعلى سبيل المثال، قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إنَّ بلاده ستنقل معركتها إلى إيران.
هل نجحت هذه الاستراتيجية
وبحسب الموقع الأميركي في الوقت الراهن، تتحدث بعض القوى المناهضة لإيران داخل المنطقة، وفي بعض الدول الغربية علانيةً عن شنِّ حرب على إيران من شأنَّها إلى جانب أمور أخرى أن تُفكِّك البلاد. ومع ذلك، فهناك سؤالٌ واضح نادراً ما يُطرَح: هل عزَّزت جميع المغامرات العسكرية الأخيرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أمن الدول الإقليمية، أو صانت مصالح القوى العظمى؟ هل أدى تدمير سوريا إلى زيادة أمان "إسرائيل"؟ هل عزَّزت حرب اليمن أمن المملكة العربية السعودية؟ هل أسفرت حرب العراق عن زيادة أمان تركيا؟ هل استفادت أوروبا أو أميركا من هذه الحروب؟ وهل تحسَّنت أوضاع حقوق الإنسان وازدهرت الديمقراطية؟ فبالرغم من كل شيء، كان الهدف الظاهري لهذه المغامرات العسكرية هو إنهاء الديكتاتورية ونشر الديمقراطية وضمان حقوق الشعوب الإقليمية.
لا شك في أنَّ الإجابة عن كل سؤالٍ من هذه الأسئلة هي "لا".
فعلى سبيل المثال، أسفرت الحرب السورية عن تمركز قوات خارجية بالقرب من الحدود الإسرائيلية. ومع أنَّ النظام السوري لم يرتكب تصرفاتٍ متهورة تجاه الكيان الإسرائيلي على مرِّ عقود، فمن المستحيل معرفة ما قد تفعله الميليشيات الموجودة هناك، وفي أماكن أخرى بالقرب من حدود فلسطين المحتلة.
وتجد أوروبا صعوبةً بالغة بالفعل في التعامل مع فيضان اللاجئين الوافدين عليها، مما تسبب في ظهور قوى سياسية مُقلِقة، لطالما اعتُقِد أنَّها اختفت، وإثارة ما يمكن القول إنَّه أسوأ أزمات الاتحاد الأوروبي، بحسب المقال.
وختمت الباحثة مقالها "نظراً إلى سِجِل الأعوام الـ15 الماضية، دعونا نُجرِّب سياسةً مختلفة تتمثل في تركيز القوى الخارجية على وقف تشجيع استمرار الحروب الإقليمية أو مساعدتها، والاهتمام ببناء السلام وإعادة توحيد هياكل الدول المتشرذمة في الشرق الأوسط.
الصعب في الأمر هو أنَّ كل طرف يريد السلام بشروطه الخاصة، وغير مستعد لتقديم تنازلات. ولكن بدون تقديم بعض التنازلات والتوصُّل إلى حلٍّ وسط، سيظل السلام بعيد المنال، وستبقى المنطقة مُلبَّدةً باحتمالات اندلاع المزيد من الحروب المُدمِّرة، وسيظل شبح الدمار مخيماً عليها. وبدون هذا السلام، سيموت كذلك حلم احترام حقوق الإنسان ووجود أنظمةٍ أكثر ديمقراطية.
* هاف بوست عربي