ونحن إذ نذكر شذرات منها على سبيل المثال لا الحصر للدلالة على ما يتمتّع به عليه السلام من القداسة، والقرب، والكرامة عند الله سبحانه وتعالى.
في ظهور آياته في الاستسقاء
عن أبي يعقوب يوسف بن محمّد بن زياد، وعلي بن محمّد بن سيّار، عن الحسن بن علي العسكري، عن أبيه عليّ بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ النقي عليهم السلام، قال: إنّ الرضا عليه السلام لمّـا جعله المأمون وليّ عهده، جعل بعض حاشية المأمون والمتعصّبين على الرضا عليه السلام يقولون: انظروا إلى الذي جاءنا من عليّ بن موسى الرضا وليّ عهدنا، فحبس الله عزّ وجلّ علينا المطر.
واتّصل ذلك بالمأمون فاشتدّ عليه، فقال للرضا عليه السلام: لو دعوت الله عزّ وجلّ أن يمطر للناس. فقال: نعم. قال: ومتى تفعل ذلك؟ وكان ذلك يوم الجمعة، فقال: يوم الاثنين، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أتاني البارحة في منامي ومعه أمير المؤمنين عليه السلام وقال: يا بني، انتظر يوم الاثنين، وابرز إلى الصحراء واستسقِ، فإنّ الله عزّ وجلّ يسقيهم، وأخبرهم بما يريك الله ممّـا لا يعلمون كي يزداد علمهم بفضلك ومكانك من ربّك عزّ وجلّ.
فلمّـا كان يوم الاثنين عمد إلى الصحراء، وخرج الخلائق ينظرون، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: اللهمّ يا ربّ، إنّك عظّمت حقّنا أهل البيت، وتوسّلوا بنا كما أمرت، وأمّلوا فضلك ورحمتك، وتوقّعوا إحسانك ونعمتك، فاسْقِهِم سقياً نافعاً عامّاً غير رائث ولا ضائر. وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى مستقرّهم ومنازلهم.
قال: فوالذي بعث محمّداً صلى الله عليه وآله بالحقّ نبيّاً، لقد هبّت الرياح والغيوم، وأرعدت وأبرقت، وتحرّك الناس كأنّهم يريدون التنحّي عن المطر.
فقال الرضا عليه السلام: على رِسلكم أ يّها الناس، فليس هذا الغيم لكم، إنّما هي لبلد كذا، فمضت السحابة وعبرت.
فجاءت سحابة أخرى تشتمل على رعد وبرق، فتحرّك الناس، فقال: على رِسلكم، فما هذه لكم إنّما هي لبلد كذا. فمضت، فما زال كذلك حتّى جاءت عشر سحائب وعبرت، وهو يقول: إنّما هي لكذا.
ثمّ أقبلت سحابة جارية، فقال: أ يّها الناس، هذه بعثها الله لكم، فاشكروا الله على فضله عليكم، وقوموا إلى منازلكم ومقارّكم، فإنّها مُسامِتة لرؤوسكم، ممسكةٌ عنكم إلى أن تدخلوا مقارّكم، ثمّ يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله وجلاله.
ونزل عن المنبر وانصرف الناس، فما زالت السحابة ممسكة إلى أن قربوا من منازلهم، ثمّ جاءت بوابل مطر، فملأت الأودية والحياض والغدران والفلوات، وجعل الناس يقولون: هينئاً لولد رسول الله صلى الله عليه وآله كنز آيات الله.
في استجابة دعواته عليه السلام
1- روى محمّد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن محمّد بن الفضيل، قال: لمّـا كان في السنة التي بطش فيها هارون بآل برمك، بدأ بجعفر بن يحيى، وحبس يحيى بن خالد، ونزل بالبرامكة ما نزل، كان الرضا عليه السلام واقفاً بعرفة يدعو، ثمّ طأطأ رأسه حتّى كادت جبهته تصيب قادمة الرحل، ثمّ رفع رأسه، فسُئل عن ذلك فقال: إنّي كنت أدعو على هؤلاء القوم -يعني البرامكة- منذ فعلوا بأبي ما فعلوا، فاستجاب الله لي اليوم فيهم. فلمّـا انصرفنا لم نلبث إلاّ أيّاماً حتّى بطش بجعفر، وحبس يحيى، وتغيّرت أحوالهم.
2- وعن موسى بن عمر بن بزيع، قال: كان عندي جاريتان حاملتان، فكتبت إلى الرضا عليه السلام اُعلمه ذلك، وأسأله أن يدعو الله أن يجعل ما في بطونهما ذكرين، وأن يهب لي ذلك. قال: فوقّع عليه السلام: أفعل إن شاء الله.
ثمّ ابتدأني عليه السلام بكتاب مفرد نسخته:بسم الله الرحمن الرحيم، عافانا الله وإيّاك بأحسن عافية في الدنيا والآخرة برحمته، الأمور بيد الله تعالى، يمضي فيها مقاديره على ما يحبّ، يولد لك غلام وجارية إن شاء الله، فسمِّ الغلام محمّداً، والجارية فاطمة على بركة الله تعالى.
قال: فولد لي غلام وجارية على ما قال عليه السلام.
3- وعن محمّد بن إسحاق الكوفي، عن عمّه أحمد بن عبد الله بن حارثة المرخي، قال: كان لا يعيش لي ولد، وتوفّي لي بضعة عشر من الولد، فحججت ودخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فخرج إليّ وهو متّزر بإزار مورّد، فسلّمت عليه، وقبّلت يده، وسألته عن مسائل، ثمّ شكوت إليه بعد ذلك ما ألقى من قلّة بقاء الولد، فأطرق طويلاً ودعا مليّاً، ثمّ قال لي: إنّي لأرجو أن تنصرف ولك حمل، وأن يولد لك ولد بعد ولد، وتمتّع بهم أيّام حياتك، فإنّ الله تعالى إذا أراد أن يستجيب الدعاء فعل، وهو على كلّ شيء قدير.
قال: فانصرفت من الحجّ إلى منزلي، فأصبت أهلي -ابنة خالي- حاملاً، فولدت لي غلاماً سمّيته إبراهيم، ثمّ حملت بعد ذلك، فولدت غلاماً سمّيته محمّداً، وكنّيته بأبي الحسن، فعاش إبراهيم نيّفاً وثلاثين سنة، وعاش أبو الحسن أربعاً وعشرين سنة، ثمّ إنّهما اعتلاّ جميعاً، وخرجت حاجّاً، وانصرفت وهما عليلان، فمكثا بعد قدومي شهرين، ثمّ توفّي إبراهيم في أوّل الشهر، وتوفّي محمّد في آخر الشهر، ثمّ مات بعدهما بسنة ونصف، ولم يكن يعيش له قبل ذلك ولد إلاّ أشهراً.
اقرأ ايضا: قصة رائعة .. لماذا لقب الامام الرضا عليه السلام بضامن الغزال؟
في علمه عليه السلام بالمنايا والبلايا
1- من ذلك ما أورده الحاكم ورواه بإسناده، عن سعد بن سعد، عن الرضا عليه السلام، أ نّه نظر إلى رجل، فقال له: يا عبد الله، أوصِ بما تريد، واستعدّ لما لا بدّ منه، فمات الرجل بعد ذلك بثلاثة أيّام.
2- وعن يحيى بن محمّد بن جعفر، قال: مرض أبي مرضاً شديداً، فأتاه الرضا عليه السلام يعوده، وعمّي إسحاق جالسٌ يبكي، فالتفت إليّ وقال: ما يبكي عمّك؟ قلت: يخاف عليه ما ترى. قال: فقال لي: لا تغتمنّ، فإنّ إسحاق سيموت قبله. قال: فبرئ أبي محمّد، ومات إسحاق.
3- وعن الحسين بن بشّار، قال: قال لي الرضا عليه السلام: إنّ عبد الله يقتُل محمّداً، فقلت: عبد الله بن هارون يقتل محمّد بن هارون !
فقال لي: نعم، عبد الله الذي بخراسان يقتل محمّد بن زبيدة الذي هو ببغداد، فقتله.
4- وبإسناده عن موسى بن مهران، قال: رأيت الرضا عليه السلام وقد نظر إلى هرثمة بالمدينة، فقال: كأنّي به وقد حُمل إلى مرو، فضرب عنقه، فكان كما قال.
في علمه بالمغيبات وما يكون
1- عن عليّ بن إبراهيم، عن بعض أصحابنا، قال: خرج الرضا عليه السلام من المدينة في السنة التي خرج فيها هارون، وهو يريد الحجّ، وانتهى إلى جبل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكّة، يقال له فارع فنظر إليه وقال: باني فارع وهادمه يُقطّع إرباً إرباً، فلم أدرِ ما معنى ذلك.
فلمّـا وافى هارون نزل بذلك الموضع من الجبل، وصعد جعفر بن يحيى ذلك الموضع من الجبل، وأمر أن يُبنى له فيه مجلس، فلمّـا رجع من مكّة صعد إليه وأمر بهدمه، فلمّـا انصرف إلى العراق قُطّع إرباً إرباً.
2- وعن عليّ بن أحمد الوشّاء الكوفي، قال: خرجت من الكوفة إلى خراسان، فقالت لي ابنتي: يا أبه، خُذ هذه الحلّة فبعها، واشترِ لي بثمنها فيروزجاً.
قال: فأخذتها وشددتها في بعض متاعي، وقدمت مرو، فنزلت في بعض الفنادق، فإذا غلمان عليّ بن موسى - المعروف بالرضا عليه السلام - قد جاؤوني، وقالوا: نريد حلّة نكفّن بها بعض علمائنا. فقلت: ما هي عندي.
فمضوا ثمّ عادوا، وقالوا: مولانا يقرأ عليك السلام، ويقول لك: معك حلّة في السفط الفلاني، دفعتها إليك ابنتك، وقالت: اشترِ لي بثمنها فيروزجاً، وهذا ثمنها، فدفعتها إليهم، وقلت: والله لأسألنّه عن مسائل، فإن أجابني عنها فهو هو، فكتبتها وعدوت إلى بابه، فلم أصل إليه لكثرة ازدحام الناس، فبينما أنا جالس إذ خرج إليّ خادم، فقال: يا عليّ بن أحمد، هذه جوابات مسائلك التي جئت فيها، فأخذتها منه، فإذا هي جوابات مسائلي بعينها.
3- وعن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن الحسين بن موسى بن جعفر، قال: كنّا حول أبي الحسن الرضا عليه السلام ونحن شُبّان من بني هاشم، إذ مرّ علينا جعفر بن عمر العلوي، وهو رثّ الهيئة، فنظر بعضنا إلى بعض، وضحكنا من هيئته، فقال الرضا عليه السلام: سترونه من قريب كثير المال كثير التبع، فما مضى إلاّ شهر أو نحوه حتّى ولي المدينة، وحسنت حاله، فكان يمرّ بنا ومعه الخصيان والحشم.
في علمه بحديث النفس
1- عن الحسن بن علي بن فضّال، قال:قال عبد الله بن المغيرة: كنت واقفيّاً، فحججت على تلك الحالة، فلمّـا صرت بمكّة اختلج في صدري شيء، فتعلّقت بالملتزم، ثمّ قلت: اللهمّ قد علمت طلبتي وإرادتي، فأرشدني إلى خير الأديان، فوقع في نفسي أن آتي الرضا عليه السلام، فأتيت المدينة، فوقفت ببابه، وقلت للغلام: قل لمولاك: رجل من أهل العراق بالباب.
فسمعت النداء: ادخل يا عبد الله بن المغيرة. فدخلت، فلمّـا نظر إليّ قال لي: قد أجاب الله دعوتك وهداك لدينه. فقلت: أشهد أنّك حجّة الله وأمينه على خلقه.
2- وعن أبان، عن معمر بن خلاّد، قال: قال لي الريّان بن الصلت: أردت أن تستأذن لي على أبي الحسن الرضا عليه السلام فاُسلّم عليه، واُحبّ أن يكسوني من ثيابه، وأن يهب لي من الدراهم التي ضُرِبت باسمه.
فدخلت على الرضا عليه السلام فقال مبتدئاً: إنّ الريّان بن الصلت يريد الدخول علينا، والكسوة من ثيابنا، والعطيّة من دراهمنا، فأذن له، فدخل وسلّم، فأعطاه ثوبين وثلاثين من الدراهم التي ضُرِبت باسمه.
3- وعن عليّ بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدّثني الريّان بن الصلت، قال: لمّـا أردت الخروج إلى العراق، عزمت على توديع الرضا عليه السلام وقلت في نفسي: إذا ودّعته سألته قميصاً من ثياب جسده الشريف، لأُكفّن فيه، ودراهم من ماله الحلال الطيّب، لأصوغ لبناتي منه خواتيم.
فلمّـا ودّعته شغلني البكاء والأسى على مفارقته عن مسألته، فلمّـا خرجت من بين يديه صاح بي: يا ريّان، ارجع. فرجعت، فقال لي: أما تُحبّ أن أدفع إليك قميصاً من ثياب جسدي تُكفّن فيه إذا فني أجلك، أو ما تحبّ أن أدفع إليك دراهم تصوغ منها لبناتك خواتيم؟
فقلت: يا سيّدي، قد كان في نفسي أن أسألك ذلك، فمنعني الغمّ لفراقك.
فرفع عليه السلام الوسادة، وأخرج قميصاً، فدفعه إليّ، ورفع جانب المصلّى فأخرج دراهم، فدفعها إليّ، وكانت ثلاثين درهماً.
في ظهور آياته في الحيوان والجماد
1- عن أبي يعقوب يوسف بن محمّد بن زياد، وعلي بن محمّد بن سيّار، عن الحسن العسكري، عن أبيه، عن محمّد بن عليّ التقي عليهم السلام، قال: لمّـا اتّسق الأمر للرضا عليه السلام وطفق الناس يتذاكرون ذلك، قال للمأمون بعض المبغضين: يا أمير المؤمنين، أُعيذك بالله أن يكون تأريخ الخلفاء في إخراجك هذا الشرف العميم والفضل العظيم من بيت ولد العبّاس إلى بيت ولد علي، لقد أعنت على نفسك وأهلك، وجئت بهذا الساحر ابن الساحر، وقد كان خاملاً فأظهرته، ووضيعاً فرفعته، ومنسيّاً فذكّرت به، ومستخفّاً فنوهّت به، قد ملا الدنيا مخرقةً وتزويقاً بهذا المطر الوارد بدعائه، فما أخوفنا أن يخرج هذا الأمر من ولد العبّاس إلى ولد عليّ، ما أخوفنا من أن يتوصّل بالسحر إلى إزالة نعمتك والوثوب سراعاً إلى مملكتك ! هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل ما جنيت؟
قال المأمون: جئنا بهذا الرجل وأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاءه إلينا، ويعترف بالخلافة والملك لنا، وليعتقد المقرّون به أ نّه ليس ممّـا ادّعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه، فالان إذ قد فعلناه، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه به على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره، لكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً، حتّى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحقّ هذا الأمر، ثمّ ندبّر فيه.
فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، خوّلني مجادلته، فإنّي أُفحمه وأصحابه، وأضع من قدره، ولولا هيبتك في صدري لأنزلته منزلته; وبيّنت للناس قصوره عمّـا رشّحته له.
فقال المأمون: ما شيء أحبّ إليّ من هذا.
قال: فاجمع جماعة من وجوه أهل مملكتك، من القُوّاد والقضاة وجملة الفقهاء، لأُبيّن نقصه بحضرتهم، فيكون أخذاً له عن محلّه الذي أحللته فيه، على علم منهم بصواب فعلك.
قال: فجمع الخلق الفضلاء من رعيّته في مجلس واحد واسع قعد لهم فيه، وأقعد الرضا عليه السلام بين يديه في مرتبته التي جعلها له، فانتدب هذا الحاجب المتضمّن للوضع من الرضا عليه السلام وقال: إنّ الناس قد أخبروا عنك الحكايات، وأسرفوا في وصفك، بما أرى أنّك إن وقفت عليه برئت إلى الله منه.
فأوّل ذلك أنّك دعوت الله تعالى في المطر المعتاد مجيئه، فجعلوا ذلك معجزة، أوجبوا لك بها آية، وأنّه لا نظير لك في الدنيا، وهذا أمير المؤمنين -أدام الله تعالى مملكته- لا يوازن بأحد إلاّ رجح عليه، وقد أحلّك المحلّ الذي قد عرفت، وليس من حقّه عليك أن تسوّغ الكذّابين لك وعليه ما يكذّبونه.
فقال الرضا عليه السلام: ما أدفع عباد الله عن التحدّث بنعم الله عليّ، وأمّا ذكرك صاحبك الذي أحلّني ما أحلّني، فما أحلّني إلاّ المحلّ الذي أحلّه ملك مصر يوسف الصدّيق عليه السلام، فكان حالهما ما قد عرفت.
فغضب الحاجب عند ذلك وقال: يا عليّ بن موسى، لقد عدوت طورك، وتجاوزت قدرك، أن بعث الله بمطر مقدور في وقته، لا يتقدّم ولا يتأخّر ; جعلته آيةً تستطيل بها، وصولةً تصول بها، كأنّك جئت بمثل آية إبراهيم الخليل عليه السلام لمّـا أخذ رؤوس الطير بيده، ودعا أعضاءها التي كان فرّقها على الجبال، فأتينه سعياً، ونزلن على الرؤوس، وخفقن وطرن بإذن الله تعالى، فإن كنت صادقاً فيما تزعم فأحيي هذين السبعين، وسلّطهما عليّ، فإنّ ذلك حينئذ يكون آيةً معجزة، فأمّا المطر المعتاد، فلست أنت أحقّ بأن يكون قد جاء بدعائك دون دعاء غيرك الذي دعا كما دعوت.
وكان الحاجب قد أشار إلى أسدين مصوّرين على مسند المأمون الذي كان يستند إليه، وكانا متقابلين على المسند، فغضب الرضا عليه السلام وصاح بالصورتين: دونكما الفاجر، فافْتَرِساه في المجلس، ولا تبقيا له عيناً ولا أثراً.
فوثبت الصورتان والقوم ينظرون متحيّرين، فلمّـا فرغا منه أقبلا على الرضا عليه السلام وقالا: يا وليّ الله في أرضه، ماذا تأمرنا أنفعل به ما فعلنا بهذا؟ يشيران إلى المأمون، فغشي على المأمون منهما، فقال الرضا عليه السلام: قفا. فوقفا، ثمّ قال: صبّوا عليه ماء ورد وطيّبوه. ففعل ذلك به، وعاد الأسدان يقولان: أتأذن لنا أن نلحقه بصاحبه الذي افترسناه؟ قال: لا، فإنّ لله عزّ وجلّ فيه تدبيراً ممضيه. فقالا: فماذا تأمرنا؟ فقال: عودا إلى مقرّكما كما كنتما. فعادا إلى المسند، فصارا صورتين كما كانتا، فقال المأمون: الحمد لله الذي كفاني شرّهما وشرّ حميد بن مهران -يعني الرجل المفترس-.
فقال للرضا عليه السلام: هذا الأمر لجدّكم صلى الله عليه وآله ثمّ لكم، ولو شئت لنزلت عنه لك.
2- عن علي بن أسباط، قال: ذهبت إلى الرضا عليه السلام في يوم عرفة، فقال لي: اسرج لي حماري، فأسرجت له حماره، ثمّ خرج من المدينة إلى البقيع يزور فاطمة عليها السلام، فزار وزرت معه، فقلت: سيّدي على كم اُسلّم؟ فقال لي: سلّم على فاطمة الزهراء البتول، وعلى الحسن والحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى محمّد ابن علي، وعلى جعفر بن محمّد، وعلى موسى بن جعفر عليهم أفضل الصلاة وأكمل التحيّات فسلّمت على ساداتي ورجعت.
فلمّـا كان في بعض الطريق، قلت: يا سيّدي إنّي معدم، وليس عندي ما أُنفقه في عيدي هذا. فحكّ الأرض بسوطه، ثمّ ضرب بيده، فتناول سبيكة ذهب، فيها مائة دينار، فقال لي: خذها، فأخذتها فأنفقتها في أموري.
3- ومثل ذلك ما رواه إبراهيم بن موسى، قال: ألححت على أبي الحسن الرضا عليه السلام في شيء طلبته منه لحاجتي، وكان يعدني، فخرج ذات يوم ليستقبل والي المدينة، وكنت معه، فجاء إلى قرب قصر فلان ونزل تحت شجرة ونزلت معه، وليس معنا ثالث، فقلت له: جعلت فداك، هذا أوان ما وعدتني مراراً، وأنا معدم درهماً فما سواه.
قال: فحكّ بسوطه الأرض حكّاً شديداً، ثمّ ضرب بيده، فتناول سبيكة ذهب من موضع الحكّ، وقال: خذها وانتفع بها، واكتم عليّ ما رأيت.
في الاستشفاء
أحمد بن علي بن الحسين الثعالبي، قال: حدّثني أبو أحمد عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بالصفواني، قال: خرجت قافلة من خراسان إلى كرمان، فقطع اللصوص عليهم الطريق، وأخذوا منهم رجلاً اتّهموه بكثرة المال، وأقاموه في الثلج، وملأوا فاه منه، فانفسد فمه ولسانه، حتّى لم يقدر على الكلام، ثمّ انصرف إلى خراسان، وسمع بخبر الرضا عليه السلام وأنّه بنيسابور، فرأى فيما يرى النائم كأنّ قائلاً يقول: إنّ ابن رسول الله صلى الله عليه وآله قد ورد خراسان، فسله عن علّتك ليعلمك دواءً تنتفع به، قال: فرأيت كأنّي قد قصدته، وشكوت إليه ما كنت وقعت فيه، وأخبرته بعلّتي، فقال: خُذ من الكمّون والسعتر والملح ودقّه، وخُذ منه في فمك مرّتين أو ثلاثاً، فإنّك تُعافى.
فانتبه الرجل من منامه، ولم يفكّر فيما كان رأى في منامه حتّى ورد باب نيسابور، فقيل له: إنّ عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قد ارتحل من نيسابور وهو برباط سعد، فوقع في نفسه أن يقصده، ويصف له أمره، فدخل إليه، فقال له: يا ابن رسول الله، كان من أمري كيت وكيت، وقد انفسد عليّ فمي ولساني حتّى لا أقدر على الكلام إلاّ بجهد، فعلّمني دواءً أنتفع به، فقال: ألم أُعلّمك؟ فاذهب فاستعمل ما وصفته لك.
قال: فقال الرجل: يا ابن رسول الله، إن رأيت أن تعيده عليّ؟ فقال لي: خذ من الكمّون والسعتر والملح فدقّه، وخُذ منه في فمك مرّتين أو ثلاثاً، فإنّك تُعافى. قال الرجل: فاستعملت ما وصفه لي فعوفيت.
قال الثعالبي: سمعت الصفواني يقول: رأيت هذا الرجل وسمعت منه هذه الحكاية.
في علمه عليه السلام باللغات
1- عن أبي إسماعيل السندي، قال: سمعت بالسند أنّ لله تعالى في العرب حجّة، فخرجت منها في الطلب، فدُللت على الرضا عليه السلام، فقصدته، فدخلت عليه وأنا لا اُحسن من العربيّة كلمةً، فسلّمت عليه بالسنديّة، فردّ عليّ بها، فجعلت اُكلّمه بالسنديّة وهو يجيبني بها، فقلت له: إنّي سمعت بالسند أنّ لله في العرب حجّة، فخرجت في الطلب.
فقال: أنا هو. ثمّ قال: فسل عمّـا تريد. فسألته عمّـا أردت، فلمّـا أردت القيام من عنده، قلت: إنّي لا اُحسن من العربية شيئاً، فادعُ الله أن يُلهمنيها لاتكلّم بها مع أهلها، فمسح بيده على شفتي، فتكلّمت بالعربيّة من وقتي ببركته.
2- وعن أبي هاشم الجعفري، قال: دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال: يا أبا هاشم، كلّم هذا الخادم بالفارسيّة، فإنّه يزعم أ نّه يحسنها. فقلت للخادم: «زانويت چيست؟». فلم يجبني. فقال عليه السلام: يقول ركبتك. ثمّ قلت: «نافت چيست؟» فلم يجبني. فقال عليه السلام: يقول سرّتك.
3- وعن أبي هاشم الجعفري، قال: كنت أتغدّى مع أبي الحسن عليه السلام، فيدعو بعض غلمانه بالصقلبيّة والفارسية، وربما بعثت غلامي هذا بشيء من الفارسية فيُعلمه، وربما كان ينغلق الكلام على غلامه بالفارسيّة، فيفتح هو على غلامه.
في طيّ الأرض
1- عن محمّد بن الفضل الهاشمي، قال: لمّـا توفّي الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أتيت المدينة، فدخلت على الرضا عليه السلام، فسلّمت عليه بالأمر، وأوصلت إليه ما كان معي، وقلت: إنّي سائر إلى البصرة، وعرفت كثرة خلاف الناس، وقد نُعي إليهم موسى عليه السلام، وما أشكّ أ نّهم سيسألوني عن براهين الإمام، ولو أريتني شيئاً من ذلك؟
فقال الرضا عليه السلام: لم يخفَ عليّ هذا، فأبلغ أولياءنا بالبصرة وغيرها، أ نّي قادمٌ عليهم، ولا قوّة إلاّ بالله، ثمّ أخرج إليّ جميع ما كان للنبيّ صلى الله عليه وآله عند الأئمّة عليهم السلام من بردته وقضيبه وسلاحه وغير ذلك.
فقلت: ومتى تقدم عليهم؟ قال: بعد ثلاثة أيّام من وصولك ودخولك البصرة، فلمّـا قدمتها سألوني عن الحال، فقلت لهم: إنّي أتيت موسى بن جعفر عليه السلام قبل وفاته بيوم واحد. فقال: إنّي ميّت لا محالة، فإذا واريتني في لحدي، فلا تقيمنّ وتوجّه إلى المدينة بودائعي هذه، وأوصلها إلى ابني عليّ بن موسى عليه السلام فهو وصيّي، وصاحب الأمر بعدي. ففعلت ما أمرني به، وأوصلت الودائع إليه، وهو يوافيكم إلى ثلاثة أيّام من يومي هذا، فاسألوه عمّـا شئتم.
فابتدر الكلام عمرو بن هذّاب من القوم -وكان ناصبيّاً، ينحو نحو التزيّد والاعتزال- فقال: يا محمّد، إنّ الحسن بن محمّد رجلٌ من أفاضل أهل هذا البيت في ورعه وزهده وعلمه وسنّه، وليس هو كشابّ مثل عليّ بن موسى، ولعلّه لو سئل عن شيء من معضلات الأحكام لحار في ذلك.
فقال الحسن بن محمّد -وكان حاضراً في المجلس-: لا تقل يا عمرو ذلك، فإنّ عليّاً على ما وصف من الفضل، وهذا محمّد بن الفضل يقول: إنّه يقدم إلى ثلاثة أيّام، فكفاك به دليلاً، وتفرّقوا.
فلمّـا كان في اليوم الثالث من دخولي البصرة، إذا الرضا عليه السلام قد وافى، فقصد منزل الحسن بن محمّد، وأخلى له داره، وقام بين يديه، يتصرّف بين أمره ونهيه، فقال عليه السلام: يا حسن بن محمّد، أحضر جميع القوم الذين حضروا عند محمّد ابن الفضل وغيرهم من شيعتنا، وأحضر جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، ومر القوم أن يسألوا عمّـا بدا لهم. فجمعهم كلّهم والزيدية والمعتزلة، وهم لا يعلمون لماذا يدعوهم الحسن بن محمّد، فلمّـا تكاملوا، ثني للرضا عليه السلام وسادة، فجلس عليها، ثمّ قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل تدرون لِمَ بدأتكم بالسلام؟ قالوا: لا. قال: لتطمئنّ أنفسكم.
قالوا: من أنت يرحمك الله؟
قال عليه السلام: أنا عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليه السلام وابن رسول الله صلى الله عليه وآله. صلّيت اليوم صلاة الفجر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله مع والي المدينة، وأقرأني - بعد أن صلّينا - كتاب صاحبه إليه، واستشارني في كثير من أموره، فأشرت عليه بما فيه الحظّ له، ووعدته أن يصير إليّ بالعشيّ بعد العصر من هذا اليوم، ليكتب عندي جواب كتاب صاحبه، وأنا واف له بما وعدته، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله، الحديث. وقد ذكرنا طرفاً منه في مناظراته عليه السلام.
2- وفي الحديث المتقدّم، قال محمّد بن الفضل: فلم يزل الرضا عليه السلام معهم في ذلك إلى وقت الزوال، فقال لهم حين حضر وقت الزوال: أنا اُصلّي وأصير إلى المدينة للوعد الذي وعدت به والي المدينة ليكتب جواب كتابه، وأعود إليكم بكرةً إن شاء الله.
قال: فأذّن عبد الله بن سليمان وأقام، وتقدّم الرضا عليه السلام فصلّى بالناس، وخفّف القراءة، وركع تمام السنة وانصرف، فلمّـا كان من الغد عاد إلى مجلسه ذلك...