السيد الشهيد محمد باقر الصدر
{قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُلُمَاتِ إلَى النُورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
إنّ الشرط الأساسيّ لنهضة الامّة- أيّ امّةٍ كانت- أن يتوفّر لديها المبدأ الصالح الذي يحدّد لها أهدافها وغاياتها، ويضع لها مثلها العليا، ويرسم اتّجاهها في الحياة، فتسير في ضوئه واثقةً من رسالتها، مطمئنةً إلى طريقها، متطلّعةً إلى ما تستهدفه من مثلٍ وغاياتٍ مستوحية من المبدأ وجودها الفكري وكيانها الروحي. ونحن نعني بتوفّر المبدأ الصالح في الامّة وجود المبدأ الصحيح أوّلًا، وفهم الامّة له ثانياً، وإيمانها به ثالثاً، فإذا إستجمعت الامّة هذه العناصر الثلاثة فكان لديها مبدأ صحيح تفهمه وتؤمن به أصبح بإمكانها أن تحقّق لنفسها نهضةً حقيقية، وأن توجد التغيير الشامل الكامل في حياتها على أساس ذلك المبدأ، فما كان اللَّه ليغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم، كما دلّ على ذلك التنزيل الحكيم.
وأمّتنا الإسلامية الكريمة لا تفقد في الحقيقة من عناصر الشرط الأساسيّ لنهضتها البنّاءة إلا واحداً منها، فالمبدأ موجود لديها متمثّل في دينها الإسلامي العظيم الذي لا يزال وسيبقى أبد الدهر أقوى ما يكون على تحمّل أعباء القيادة المبدئية، وتوجيه الامّة وجهتها المثلى، والإرتفاع بها من نكستها إلى مركزها الوسطيّ من امم الأرض جميعاً كما شاء اللَّه لها، والامّة الإسلامية كلّها مجمعة على الإيمان بهذا المبدأ وتقديسه ديناً وعقيدة، غير أنّ هذا الإيمان ضعيف في الغالب ومحدود لدى كثيرٍ من الأشخاص، وأكبر سببٍ في ذلك عدم امتلاك الامّة بصورةٍ عامةٍ وغالبيةٍ العنصر الثالث وهو فهم المبدأ، فالامّة تؤمن بالمبدأ الإسلامي إيماناً إجماعياً ولكنّها لا تفهمه فهماً إجماعياً، وهذا هو التناقض الذي قد يبدو غريباً لأول وهلة، فكيف تؤمن الامّة بالمبدأ وتدين له بالولاء وهي لا تفهمه حقّ الفهم ولا تعرف من مفاهيمه وأحكامه وحقائقه إلّانزراً يسيراً؟! ولكنّ هذا هو الواقع الذي تعيشه الامّة منذ منيت بالمؤامرات الدنيئة المستترة تارةً والسافرة اخرى من أبناء الصليبيّين المستعمِرين، أعداء الإسلام التاريخيّين، تلك المؤامرات الهائلة التي شنّوها على الامّة وكيانها حتى انتهت بالغزو الاستعماري المسلّح، فلم يكن للغزاة من همٍّ بعد القضاء على كيان الإسلام الدولي إلا أن يباعدوا بين الامّة ومبدئها. وقامت عملية الفصل هذه بين الامّة والمبدأ على قدمٍ وساقٍ، وهي تعني سلب الامّة إيمانها بالمبدأ وفهمها له، ولكن لمّا كان إيمان الامّة بالإسلام أقوى من تلك المؤامرات والمخطّطات الاستعمارية جميعاً استطاع أن يثبت وينتصر في المعركة، فظلّت محتفظةً بإيمانها بإسلامها العظيم. وأمّا فهم الامّة للمبدأ ومفاهيمه وحقائقه فقد كان هو نقطة الضعف التي نجحت فيها عملية الفصل بين الامّة والمبدأ، فقد استعمل الغزاة الآثمون كلّ الطرق والأساليب للقضاء على وعي الإسلام من ذهنية الامّة وحجب أضوائه وأنواره عنها بما نثروه هنا وهناك من مفاهيمهم وأفكارهم وتشويهاتهم للإسلام المشرق العظيم.
وهكذا أصبحت الامّة بعد أن نفّذ أعداؤها فيها مخطّطهم الفظيع وهي لا تعرف من الإسلام شيئاً واضحاً محدّداً أو تعرف ما زوّره المستعمِرون من أفكاره وحقائقه. وبهذه الطريقة وجد التناقض العجيب في كيانها، فأصبحت لا تفهم الإسلام فهماً صحيحاً كاملًا بالرغم من أ نّها ظلّت باقيةً على إيمانها به.
وبطبيعة الحال أنّ انخفاض الوعي وحجب الصور الحقيقية الزاهية للإسلام عن الأنظار كان سبباً في انخفاض الدرجة المعنوية للإيمان نفسه وفقدانه لكثيرٍ من طاقاته الحرارية الجبّارة، فمسألة الامّة اليوم- وهي تملك المبدأ الصحيح وتؤمن به- أن تقبل على تفهّم إسلامها ووعي حقائقه واستجلاء كنوزه الخالدة ليملأ الإسلام كيان الامّة وأفكارها، ويكون محرّكاً حقيقيّاً لها، وقائداً أميناً إلى نهضةٍ حقيقيةٍ شاملة. فالفهم العامّ للمبدأ الإسلامي إذن هو ضرورة الامّة بالفعل التي تستكمل الامّة به الشرط الأساسيّ لنهضتها.
المصدر: موقع البشائر