ففي السادس من شباط عام 1984 كانت الانتفاضة التي قادها الرئيس نبيه بري وأنهت النسخة الأهمّ للمشروع الأميركي الذي حمله الاجتياح «الإسرائيلي» لبيروت وترجم باتفاق السابع عشر من أيار بين لبنان و»إسرائيل» برعاية أميركية وبمجيء المارينز كقائد للقوات المتعدّدة الجنسيات. ومن رحم هذه الانتفاضة بدأت مسيرة الشرعية الشعبية والسياسية لزعامة وطنية عنوانها نبيه بري. وفي 6 شباط 2006 كان اتفاق مار مخايل بين العماد ميشال عون والسيد حسن نصرالله كتعبير عن خيار تكاملي للتيار الوطني الحرّ وحزب الله في حماية المقاومة وقيام الدولة. وهو التفاهم الذي شكل ظهيراً للمقاومة في حرب تموز 2006، ومن ثم ظهيراً للخيار الرئاسي للعماد عون الذي تحمّل حزب الله في سبيل بلوغه وتحقيقه كلّ التهم والضغوط.
– من شرعيتين منبثقتين من مضمونين وطنيين تاريخيين لهذا اليوم يأتي كلّ من الرئيسين اللذين يلتقيان اليوم، وحول كلّ منهما مَن يحاول ويظنّ نفسه مصيباً، وضع شرعية زعيمه و«سادسه من شباط» في مواجهة الزعيم الآخر و«سادسه من شباط»، فنظرة الكثيرين في التيار الوطني الحر لانتفاضة السادس من شباط محكومة بذاكرة عنوانها وجود العماد ميشال عون آنذاك ضمن معادلة الانقسام الوطني بين مناطق شرقية وغربية، وهو لم يكن بعد عنواناً لخيار سياسي مستقلّ وخاص به، ولا كان قائداً للجيش، فيرون الانتفاضة بعين أقرب ما تكون كتائبية وقواتية منها عونية، ويسمّونها بالفتنة، بينما ينظر كثيرون في حركة أمل لتفاهم مار مخايل بصفته استقواء للتيار على أمل بتحالف يعرض على حزب الله دعم مقاومته وسلاحه مقابل دعم مشروعه في السلطة وهو مشروع يحمل الكثير من الذاكرة التي تريد بنظرهم الانقلاب على معاني انتفاضة السادس من شباط، ببعدها الداخلي الذي جسّده الصعود الشيعي، وبعدها الإقليمي المتمثل بالعلاقة مع سورية والابتعاد عن الخيارات الغربية.
– يجهل الكثير من المقرّبين من العماد ميشال عون حقائق عن انتفاضة السادس من شباط، كما يجهلها الكثيرون من المؤثرين في شارع حركة أمل ومزاج هذا الشارع. ومحور هذه الحقائق أنها تجعل تفاهم السادس من شباط في مار مخايل التتمة الطبيعية لانتفاضة السادس من شباط. فحزب الله الذي لم يكن مع انتفاضة السادس من شباط قد صار حزباً معلناً، كان جزءاً عضوياً من الانتفاضة مشاركاً مع القوى الوطنية بقيادة حركة الرئيس نبيه بري، بصورة بلغت حدّ التماهي، ترجمه الدور الذي لعبه القيادي في الحزب والمقاومة الشهيد الكبير الذي تحلّ ذكراه قريباً، الحاج عماد مغنية، ويمكنني بتواضع التحدث هنا عن شاهد على العصر والمرحلة وشريك كامل فيها، وفي أحداثها. وبالتالي ليست الانتفاضة فتنة أمل التي صحّح مسارها حزب الله كما يتوهّم كثيرون في التيار، بل هي خيار استراتيجي مشترك لأمل وحزب الله معاً، وللعلم أيضاً أنّ من نتاج هذه الانتفاضة كان إضافة للمكاسب التاريخية الكبرى الخاصة بخيار المقاومة الذي كان رمزه الأول الرئيس بري آنذاك، إسقاط مشاريع الثنائية المارونية الشيعيّة التي قدّمها الرئيس السابق أمين الجميّل بدعم فرنسي وعرضها على الرئيس نبيه بري، في لقاءات لوزان وبعدها في لقاءات بكفيا، تأكيداً على مشروع دولة الشراكة، كما إسقاط معادلة المقايضة بين البعدين الإقليمي للبنان وبناء الدولة فيه، وقد كان بري رمز هاتين المعركتين وخاضهما بكفاءة وشجاعة ووطنية خالصة رافضاً منصب نائب رئيس جمهورية بتقاسم مع الرئيس الماروني السلطة التنفيذية مرة، ورافضاً معادلة نعطيكم الهوية الإقليمية للدولة فاعطونا التفرّد في ممارسة السلطة، ولمن لا يعلمون أيضاً أنه كما أفضت «إصلاحات» ما بعد الانتفاضة إلى إلغاء السابع عشر من أيار وإقفال مكتب ضبيه للتنسيق «الإسرائيلي»، تشكلت أوّل حكومة شراكة وطنية برئاسة الراحل الكبير الشهيد رشيد كرامي، وكان من أولى إصلاحاتها استبدال قائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية وتعيين قائد منزّه مُجمَع عليه للجيش هو العماد ميشال عون، الذي ربما يندهش الكثيرون إذا قلنا إنّ الرئيس الجميّل لم يكن متحمّساً لتعيينه، وإنّ الرئيس بري كان من شكل اللوبي الحكومي، لهذا التعيين خصوصاً في الوسط الإسلامي، وأخذ الأمر على عاتقه مع النائب وليد جنبلاط، المحكوم بتاريخ دور العماد عون في معارك سوق الغرب آنذاك.
– من شرعيته المنبثقة من انتفاضة السادس من شباط كان مشروع الرئيس بري في الثمانينيات يقوم على السعي لرئيس للجمهورية مشهود له بأنه رجل وطني وولاء للدولة وبُعد عن العصبيات، يخلف نهاية عهد الرئيس مينأمين الجميّل تفادياً لمساعي التمديد، ومخاطر الفراغ، ويعلم الذين تابعوا حوارات الرئيس بري في تلك الفترة مع القيادة السورية، أنّ الاسم الأول على مفكّرة بري كان اسم العماد ميشال عون، الذي يقول إنّ سعيه للحوار مع سورية قبل انفجار المواجهة المعلومة وما ترتب عليها، عطّله نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، خدمة لمشاريع تعاكس مصلحة سورية ولبنان، واستثمر بصورة مسيئة رغبة العماد عون بلقاء الرئيس الراحل حافظ الأسد كرجل عسكري لرجل عسكري، كما تقول الرسالة، ليشوّه الموقف ويوحي بضعف وتنازل من العماد عون، فيما كان بري يشجّع التواصل بين سورية والعماد عون ويسعى إليه. ويستطيع الكثيرون من الذين عايشوا تلك المرحلة الحديث عن مزيد من الوقائع هنا، بما فيها قول لبري إنه يتوسّم خيراً بالرجل الذي يذكره بفؤاد شهاب المؤسّسي بما يصله عنه.
– على المقلب الآخر، وفي ما خصّ تفاهم السادس من شباط في مار مخايل، يتوهّم الكثيرون أنّ حزب الله ذهب منفرداً للتفاهم، أو أنه لعب لعبة تكتيكية للحصول على تغطية مسيحية. والحقيقة التي أستطيع أن أشهد بها أيضاً لكوني من الذين تحاوروا مبكراً مع الرئيس بري وسماحة السيد حسن نصرالله، حول المرحلة الجديدة التي يمثلها العماد عون بعد خروج القوات السورية من لبنان، وفقاً لحوار إعلامي جمعني بالعماد عون على محطة «بي بي سي» قال فيه كلاماً غاية في الأهمية حول تنقية العلاقات اللبنانية السورية وطيّ صفحة الخلاف وحول استراتيجية وطنية للدفاع الوطني يُبحث سلاح المقاومة ضمنها. وقمتُ بناء على ذلك بصياغة أوّل مسودة لمشروع تفاهم بين حزب الله والتيار قد يأتي وقت نشرها في توقيت مناسب، فالتفاهم توّج سعياً مشتركاً لثنائي أمل وحزب الله لكسر حدة التوترات الطائفية بتفاهمات وطنية، تولاها الحزب هنا، كما تولّتها أمل على ضفاف أخرى لتحصين المقاومة وخياراتها من كلّ خطر لفتنة، وتحصين السلم الأهلي وفتح الطريق لاستعادة مشروع بناء الدولة.
– في خاتمة كتابي عن انتفاضة السادس من شباط، الذي نشر عام 1985 وكتب مقدّمته الرئيس نبيه بري يومها، أنتهي بالقول، إنّ الانتفاضة ثورة لم تنته، ولا تزال تبحث عن شريكها المسيحي، وفي كتابي الآخر قبيل حرب تموز 2006، «حروب كبيرة في شرق أوسط صغير»، أقول إنّ تفاهم مار مخايل هو، ترجمة لوصيّة معلقة من وصايا انتفاضة السادس من شباط، بظهور شريك مسيحي في الاستقلال الوطني الخالص وبناء دولة الشراكة وصولاً لدولة مدنيّة، ومن موقع هذه القناعات التي يشاركني فيها كثيرون أتطلّع معهم ليكون لقاء الرئيسين الرمزين لتاريخين ومعنيين مختلفين لهذا اليوم التاريخي، فرصة تكامل لتاريخين ومسارين ومسيرتين، لا لمجرد هدنة ومصالحة عابرة. فالمصالحة المطلوبة هي بين المعاني المتعددة لتاريخ السادس من شباط وما يرمز إليه، وجعلها تتكامل لا تتقابل ولا تتقاتل.
* ناصر قنديل .. البناء