منذ البداية.. أي بعدما إرتفعت روح النبي (ص) المقدّسة إلى بارئها الكريم، وبعد أن أرسى دعائم الدين القويم، أبتلي الإسلام والمسلمون بنماذج من الأشخاص والجماعات من ذوي الأفق الضيّق المحدود، ممن انغلق عليهم فهم الدين الصحيح ومراميه. فذهب بعضهم يمنة وذهب بعضهم يسرة، وراحوا يعملون على فرض فهمهم المحدود للدين ومفاهيمهم الخاطئة على الآخرين، بما أتيح لهم من وسائل الهيمنة والقوّة. وقد وجد هؤلاء موقعاً لهم إلى جانب الحكّام الظلمة، الذين قادتهم الأهواء والمصالح وقلّة الدين، إلى العمل على إفساد عقيدة الناس وأخلاقهم وإلى إفراغ الدين من مضمونه الحقيقي، حتى يتسنّى لهم السيطرة السهلة على البلاد والعباد، كما فعل ذلك أغلب الحكّام الأمويين والعباسيين.
وكان أشدّ ما ابتلي به المسلمون وعانوا منه في تاريخهم نهج ومواقف فئتين هما: أصحاب الغلو بشتّى طوائفهم واتجاهاتهم، وأصحاب التشدّد الأعمى والتكفير الذين ما زال ضررهم وخطرهم ماثلاً حتى الآن.
فالصنف الأول، ذهبوا بعيداً في الانحراف عن الإسلام، عندما جعلوا قادتهم «وأئمتهم» في مرتبة تفوق مكانة النبي الأكرم (ص)، بل جعلوهم والعياذ بالله قريباً من العزّة الإلهية، كما استبدلوا أكثر ما في العقيدة والشريعة الإسلاميتين، بفلسفات قديمة وبمفاهيم غنوصية غير إسلامية، وهو ما ظهر في أغلب الحركات الباطنية المعروفة.
أما الصنف الثاني الذي ساق بجموده وتحجّره وتعصّبه، الويلات على الإسلام والمسلمين، فهو من جعل التشدّد الأعمى والتطرّف منهجاً له فيما يحسبه عناداً بأنه حق وصواب، من دون أن يعطي للعقل والحكمة أو الطرق الشرعية المقرّرة، أي دورٍ في فهم النصوص الدينية المقدّسة. فقاده الالتباس والجمود وقلّة التدبّر إلى رمي من يخالفونه الرأي من المسلمين بالكفر والشرك أو بالضلال والتبديع. وتبعاً لذلك فقد استحلّ بكل سهولة وجرأة أساليب العنف والقتل والاستئصال تجاه مخالفيه، ولو كانت المخالفة أحياناً في مسألة جزئية. هذا ما فعله الخوارج الذين كفّروا وصي النبي (ص) علياً أمير المؤمنين (ع) كما كفّروا سائر المسلمين بعد التحكيم، وهذا ما فعله فقهاء ومتكلمون اتهموا بالشرك والزندقة مخالفيهم في مسائل كلامية، كالرأي في خلق القرآن أو حدوثه، أو حتى في مسائل تتعلق بأحكام شرعية غير أساسية كمسألة زيارة القبور وتكريم الأولياء، وأمثال هذه المسائل التي جرّدوا السيف ضدّ مخالفيهم بشأنها، ظناً منهم أنهم يدافعون عن الحق الذي اختلط عليهم وأضاعوا بوصلته.. ولقد طال أذى هؤلاء وشرّهم المستطير أكثر ما طال أتباع مدرسة أهل البيت والأئمة الأطهار (ع)، مع أنه لم يسلم منهم أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى. ولقد ذهب هؤلاء عكس ما ذهب إليه عامة علماء المسلمين بمذاهبهم المختلفة، الذين نأوا عن هذا التوجّه التكفيري الشاذ، امتثالاً لتعاليم الرسول (ص) والإسلام القائلة بعدم جواز تكفير أحد من أهل القبلة أو رميه بالشرك، ما دام يعتقد بأصول الدين ويعمل بفروعه، ولا ينكر ضرورة من ضرورات الدين. ولذلك كانوا وما يزالون يعذرون بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه وتوصّلوا إليه في مسائل العقيدة والشريعة ضمن الضوابط الآنفة الذكر.. مع أنهم لم يتخلّوا عن مناقشة بعضهم بعضاً في هذه المسائل الخلافية، وهذا أمر لا ضير فيه.
ولئن كان الغلو قد خبا تأثيره، واستكانت جماعاته إلاّ أن حاملي لواء التكفير والشرك على قلّتهم ما زالوا حاضرين فاعلين، وهم يستولدون باستمرار فقهاءهم، وينشرون حركاتهم، ويظهرون في غير مكان من العالم الإسلامي، ليوجّهوا سهامهم المؤذية والقاتلة أحياناً إلى أتباع مذاهب إسلامية بكاملهم، أو إلى أشخاص ومجتمعات إسلامية شتّى، من دون تبصّر ولا ورع. ولقد استفحل أمرهم بشكل خاص في السنوات الأخيرة، حيث تصاعدت هجمتهم ولهجتهم في أكثر من ساحة إسلامية. وقد أخذوا أخيراً بأسباب وسائل الإعلام الحديثة، ليبثّوا سموماً فكرية وأحقاداً هدفها إيجاد الحواجز والفرقة والتناحر بين المسلمين، ما يسبِّب الشقاق والأذى للجميع، ويخلخل الصف الإسلامي الذي ينبغي أن يكون موحّداً ومتراصّاً، خاصة في هذه الأيام العصيبة، التي تتوالى فيها الهجمات المتنوّعة من المتربصين بأمتنا الإسلامية جمعاء.
إننا مع سائر المخلصين، ومن منطلق المعايير والقواعد الإسلامية الشرعية نفسها، لا من منطلق التصنيفات والاعتبارات المغرضة والموجّهة نحو المسلمين وحركاتهم العاملة، ندعو علماء المسلمين ومفكّريهم الواعين، من مختلف المذاهب والاتجاهات الذين يحملون هم تماسك هذه الأمّة ومنعتها وعزّتها، أن يتصدّوا بشكل جدّي، بالكلمة والموقف لأصحاب هذا المنحى التكفيري الخطر والضال، ويعملوا على محاصرة أفكاره وتوجّهاته الخاطئة، التي استشرت بحق الإسلام والمسلمين. كما ندعوهم للعمل على إحلال لغة التسامح والحوار والتعاون، التي دعانا إليها الإسلام الحنيف ونبيّه الأعظم (ص) محل هذه اللغة البغيضة وآثارها المدمّرة.
المصدر: مجلة نور الإسلام