{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}(الصف: 14).
لقد كان الحواريّون أنصار النبيّ عيسى عليه السلام، اثنَيْ عشر رجلاً من المؤمنين، وكانوا يرافقونه دائماً، يسمعون منه ويسألونه حتّى أشرقت قلوبهم بنور المعرفة.
ما معنى الحواريين؟
هناك من يقول: إنّ حواريين هي من مادّة حَوَر أو حَوِر، بمعنى البياض؛ لأنّ قلوب هؤلاء كانت بيضاء وسط الظلم والظلام السائد آنذاك. وقد سمعت قلوبهم النقيّة دعوة عيسى عليه السلام واستجابت لها. ويقول بعض المفسّرين: إنّ سبب التسمية يرجع إلى أنّهم كانوا يلبسون عباءات بيضاء، أو أنّهم كانوا يبيّضون ثيابهم؛ بمعنى أنّهم كانوا ينظّفونها من الأوساخ ويطهّرونها من القذارات. وأنا أقدّم احتمالاً آخر وهو أنّ اسم الحواريّين جاء من الحوار؛ أي المحاورة والمحادثة. وهذا الاحتمال يمكن أن يكون مقبولاً، وهو قد ورد في القرآن ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ (المجادلة: 1). ومن الواضح أنّ مصدر تحاور هو حوار. والسبب في أنّه يُقال لهم حواريون أيضاً هو أنّهم كانوا دائماً مرافقين لعيسى عليه السلام يُحدّثونه ويستمعون إليه، ويسألونه ويتلقّون إجاباته العميقة والناضجة والمختصرة بكلّ ما فيها من صعوبات وغموض.
أنصار عيسى عليه السلام المقرّبون
ما نُقل في رواياتنا عن حضرة النبي عيسى المسيح عليه السلام يدلّ على أنّ دور حضرة النبي عيسى عليه السلام في ذلك الزمان كان تليين القلوب بخطابه. فقد كان عليه السلام يستجلب القلوب إلى الحقائق الإلهيّة بالخطاب. أجل، كانوا يُسمّون الحواريّين بهذا الاسم؛ لأنّهم كانوا المصاحبين لحضرة عيسى الّذين يُحادثونه ويتحاورون معه. وعلى كلّ حال، هؤلاء الحواريّون كانوا أنصار عيسى المقرّبين.
أمّا عبارة: ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾، فقد قال بعض المفسّرين: إنّ ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ تعني "مع اللّه"؛ أي من هم أنصاري مع اللّه.
وأرى أنّ هناك احتمالاً آخر كأن نقول إنّ النبيّ عيسى عليه السلام قصد من هم أنصاري في سبيل اللّه ونحو اللّه، أني في الحركة والسلوك اللّذين نسير فيهما نحو الله أحتاج إلى أنصار، فمن هم أنصاري؟
جهاد الحواريّين
بعد الحوار الذي جرى بين النبي عيسى عليه السلام والحواريّين، وصيرورة الحواريّين أنصار الله، لا تُبيّن لنا الآية هنا ما الذي فعلوه، لكن يتّضح أنّ عيسى عليه السلام والحواريّين قد بدأوا بجهاد عظيم.
تقول الآية (52) من سورة آل عمران: ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ﴾؛ أي فلمّا شعر عيسى عليه السلام من بني إسرائيل الكفر، ورأى عدم استعدادهم لقبول الدين الإلهيّ والإيمان الحقيقيّ، ﴿قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ﴾. في ذلك العالم الظالم الّذي لم يكن الناس فيه مستعدّين لسماع كلمات الحقّ والحقيقة، استجاب الحواريّون لنبيّ الله وانخرطوا في الجهاد.
وبالطبع، هذا الجهاد لم يتوقّف على زمن حضور النبي عيسى عليه السلام فقط، فبعد أن عرج عيسى المسيح عليه السلام إلى السماء، واصل الحواريّون عملهم وكانوا يُبلّغون دين اللّه، رغم ازدياد ضغوط حكومة الروم الظالمة -الذين كانوا يعبدون الأصنام- على الحواريّين، واشتدّ ظلمهم لهم كثيراً بحيث فقدوا القدرة على العمل العلنيّ والظاهر، وبدأت مرحلة العمل السرّي. لقد استمرّ ذلك مدّة من الزمن، لعلّها حوالي مئتَيْ سنة أو ثلاثمئة سنة، بحيث بقيت كلّ جهودهم في ترويج الدين وبيان الحقائق والمعارف الإلهيّة سرّية ومخفية وفي الظلام، وكانت كلمات النبي عيسى عليه السلام تُتناقل في ما بينهم مشافهةً ومن لسان إلى لسان.
أيّدنا الذين آمنوا:
بعد إصرار الحواريين على مواصلة النضال والجهاد المعنويّ دون تعب أو تراجع أو يأس، نصرهم الله سبحانه وتعالى على أعدائهم في نهاية المطاف. فبعد أن آمن إمبراطور الروم وصار مسيحيّاً ضيّق على كلّ أعداء المسيحية. وقد أشير إلى ذلك في الآية القرآنية حيث تقول: ﴿فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الصف: 14)، يعني قبلت طائفة من بني إسرائيل تعاليم عيسى عليه السلام،﴿وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ﴾ أخرى فلم تقبل المعارف العيسويّة. بعد أن تتشكّل هاتان الطائفتان، وعلى أثر الجهاد الّذي بذله الحواريّون وتلاميذ الحواريّين والمؤمنون بدين عيسى -وهؤلاء جميعاً هم جزء من مفاخر تاريخ البشريّة – رتّب الله سبحانه وتعالى على جهادهم هذا الأثر حيث يقول: ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا﴾؛ أي ساعدنا أولئك الأشخاص الذين آمنوا ﴿عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾؛ أي أصبحوا منتصرين وغالبين.
الغلبة غلبة الدين
يقول بعض المفسرين: إنّ المقصود من غلبة أصحاب عيسى عليه السلام وانتصارهم على أعدائهم لا يتعلّق بذلك الزمان، بل هو يرتبط بزمان ظهور الإسلام؛ فعند ظهور الإسلام ورفع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لواء التوحيد، أصبح دين عيسى عليه السلام حيّاً من جديد، فعيسى كان مبشّراً بالمعارف الإلهيّة نفسها التي جاء بها رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم مبشّراً ومبيّناً لها. ونحن نعلم أنّ الأنبياء الإلهيّين والمؤمنين بالله والرجال الإلهيّين والروحانيّين، لا تكون غلبتهم هي غلبة أشخاصهم دائماً، بل إنّ غلبتهم هي غلبة الدين، وانتصار قيمه وأهدافه؛ ولذلك في بحث النبوّة، نحن نقول وندّعي أنّ جميع الأنبياء قد انتصروا، حتّى ذلك النبيّ الذي نشروه بالمنشار إلى نصفين، قد انتصر أيضاً؛ لأنّه استطاع أن يتقدّم بذلك الحمل الذي كان على كاهله، بمقدار حياته، بحسب زمانه، وبما في وسعه، إلى الأمام، وتمكّن من إيصاله إلى من يحمله من بعده.
من يد إلى يد لتصل الأمانة
في الزمن القديم، كان حملة الرسائل ينقلون هذه المغلفات والأمانات التي تخصّ الحكومات، بين حكّام تلك الأزمنة، فيحملها شخص ويسير بها مسافة ما، ثم يودعها شخصاً ثانياً ويعود إلى متابعة شؤونه، فقد أنجز ما عليه، ثمّ يطوي هذا الشخص الثاني مسافة من الطريق حتّى يوصل تلك الرسائل إلى مكان معيّن بسرعة محدّدة، فيسلّمها إلى شخص ثالث، وهكذا حتّى تصل هذه الأمانات في نهاية الأمر إلى مقصدها. إنّ هؤلاء الأشخاص الذين ساروا على هذا الطريق حتّى وصلت هذه الأمانات إلى محلّها كانوا موفّقين وناجحين في عملهم.
التوحيد وخاتمة النبوّات
وعليه، عندما نفترض أنّ الدين الإلهيّ سيصل في نهاية هذا التاريخ وفي ختام تاريخ النبّوات إلى نقطة يغلب عندها التوحيد، وتعمّ تعاليم الدين الإلهيّ العالم، ينبغي أن نقول: "إنّ كلّ الرسل الإلهيّين منذ آدم عليه السلام حتّى آخر نبيّ، قبل النبيّ الخاتم، كانوا جميعاً موفّقين؛ لأنّهم استطاعوا أن يؤدّوا ذلك العمل الذي كان على عهدتهم، وأن يوصلوا ذلك الحمل إلى الشخص الذي يليهم، ويُقرّبوا البشريّة خطوة إلى الأمام، ويتقدّموا بهذه الرسالة مقداراً في التاريخ. لقد استطاعوا أن يُنجزوا هذا العمل؛ ولهذا، كلّ الأنبياء كانوا منتصرين".
المصدر: مجلة بقية الله