صادف السبت، 27 يناير/كانون الثاني، الذكرى السنوية لتحرير معسكر الموت أوشفيتز، اليوم العالمي للتذكير بالهولوكوست.
يحث قرار الأمم المتحدة الذي أقرَّ موعد إحياء الذكرى ذاك جميع الدول على "تطوير برامج تعليمية تُرسِّخ ذكرى المأساة لدى الأجيال القادمة لمنع حدوث إبادة جماعية مجدداً".
يُحسَب للسعودية أنَّها قد اتَّخذَت خطوةً أولى هامة في سبيل تحقيق تِلك المسؤولية، وفق ما جاء في تقرير كتبه روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في صحيفة New York Daily News الأميركية.
يضيف روبرت ساتلوف أن البلاد التي كان 15 من أصل 19 مسؤولاً عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، من بين مواطنيها وصدَّرت هَرَميتُها الدينية التعصُّب واللاتسامح للمساجد والمدارس عبر العالم لعشراتٍ من الأعوام، مؤجِّجةً بذلك نيران الكراهية التي ازدهرت في إثرها الجماعات المتطرفة، بدأت تتغير.
يقول ساتلوف إنه زار العاصمة السعودية مع وفد من القادة العلمانيين من معهد أبحاث شؤون السياسة الخارجية، في بداية شهر ديسمبر/كانون الأول، وكان بين المسؤولين مِن أعلى المستويات ممَّن التقوا بهم خلال الزيارة التي استمرت لثلاثة أيامٍ الدكتور محمد العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
يضيف أن رابطة العالم الإسلامي منظمةٌ أُشير لها مُطوَّلاً باعتبارها الوسيط الرئيسي لجهود السعودية العالمية لتصدير نسخة مُتطرِّفة، وتعج بالكراهية، ومعادية للغرب، ومعادية للسامية، من الإسلام. وفي العام الماضي للتو، صنَّف معهد أبحاثٍ بريطانيّ بارز السعودية بصفتها المصدر الرئيسي للتطرُّف الإسلامي في المملكة المتحدة، وأشار لكون رابطة العالم الإسلامي عنصراً حيوياً في تنفيذ هذا المشروع.
وعملياً، يبدو أنَّ التغيير داخل صفوف رابطة العالم الإسلامي قد بدأ بتعيين العيسى، وقد كان وزير العدل الأسبق، في أغسطس/آب عام 2016. يتبع العيسى خطى محمد بن سلمان، وهو وليّ العهد الحالي الذي تعهَّد بتطهير بلاده من التطرُّف والعودة بها إلى "الإسلام المعتدل"، ويبدو وفق الكاتب روبرت ساتلوف أنَّ العيسى لديه تفويضٌ مُحدَّدٌ بتحويل رابطة العالم الإسلامي من منظمة تُرادف التطرُّف إلى أخرى تعظ بالتسامح.
تحدث باعتزاز عن زيارته لمعبد يهودي
يقول الكاتب إنه خلال "اجتماعنا المعقود في شهر ديسمبر/كانون الأول، ترك العيسى انطباعاً مثيراً للإعجاب. إذ لم يؤكَّد فقط على التزام السعودية الأكيد مع الأمم المتحدة بالتوعية الدينية، مُتحدِّثاً باعتزازٍ عن زيارته الأخيرة لمعبدٍ يهودي بباريس، بل إنَّه رفض أيضاً الوقوع في الفخ عندما سُئِل عن اعتراف الرئيس ترامب بالقدس عاصمةً لإسرائيل. إذا كُنت قد توقَّعت من أيِّ مسؤول سعوديّ أنَّ يضرب بيديه على الطاولة، ملقياً خطبةً عصماء عن الصلة الإسلامية بالقدس، وأن يشجب قرار الرئيس بالاعتراف بسيادة الدولة اليهودية في أيَّة بقعة من المدينة، فإني توقَّعت ذلك من السكرتير العام لرابطة العالم الإسلامي. لكن بدلاً من ذلك، رفض العيسى التعليق بتهذيب، قائلاً إنَّ الرابطة مُلتزمةٌ فقط بتحقيق السلام، وإنَّها ليست كياناً سياسياً".
عندما عُدتُ لبلادي، كتبتُ رسالةً للعيسى، شكرته فيها على اجتماعنا ودعوته للحضور إلى واشنطن، وإلقاء خطابٍ بالمؤتمر السنوي الذي يقيمه المعهد الذي أديره في شهر مايو/أيار. لكنِّي أضفت لذلك طلباً آخر، كتبت له: إذا كان سيأتي إلى عاصمة أمتنا، فإنِّي أحثُّه على أخذ جولةٍ بالمتحف التذكاري للهولوكوست ولقاء مديرته، سارة بلومفيلد ولأكثر من 15 عاماً.
شغف بإشراك العرب والمسلمين بنقاش حول الهولوكوست
يضيف الكاتب أنه شغوف بإشرِاك العرب والمسلمين في نقاشٍ حول الهولوكوست. هذا مبنيّ على اعتقادي الخاص بأنَّ تحطيم حواجز إنكار الهولوكوست المنتشرة بكثرة في الثقافة العربية والمسلمة هوَ عنصرٌ حاسم في الحرب الأكبر ضد الكراهية: "لم أتخيَّل ولا في أشد أحلامي جموحاً أنَّ السعودية ستنضم إلى تِلك القائمة من الدول التقدمية".
لكنَّ العيسى فاجأني. تلقيتُ فيما بعد رداً يرحِّب بدعوتي ويوافق على زيارة المتحف. ومع أنَّه لن يكون الشخصية المسلمة البارزة الأولى التي تزور المتحف، لكنَّ السكرتير العام لرابطة العالم الإسلامي سيكون المسؤول الديني الأعلى رتبةً من الزوَّار، وهي خطوةٌ هامة في عملية إضفاء الشرعية على النقاش الإسلامي حول الهولوكوست.
وبعد بضعة أيام، راودتني فكرةٌ أخرى. مع اقتراب يوم 27 يناير/كانون الثاني، راسلتُ العيسى سائلاً إياه ما إن كان بإمكانه إرسال رسالة لسارة بلومفيلد بمناسبة يوم التذكير بالهولوكوست، يكون بإمكانها أن تنشرها علناً. اقترحتُ أن تعكس الرسالة رؤيته هوَ ورابطة العالم الإسلامي تجاه الهولوكوست والمعركة الأكبر في سبيل التسامح والاعتدال.
رسالة العيسى
توقَّعت على الأكثر أن أتلقَّى رسالة موجزة وعقيمة. ففي نهاية الأمر، لا يملك المسؤولون السعوديون دليلاً لكتابة الرسالة التي تحيي ذكرى الهولوكوست. لكنَّ العيسى فاجأني مجدداً. فقد كتب رسالة رسمية مطوَّلة، نُشِرت بكلماتها الـ623 كلها، وبإذنٍ من متحف الهولوكوست، على موقع معهد واشنطن هنا. وفيها، وصف العيسى الهولوكوست بكونها "حادثة هزَّت أعماق الإنسانية، وخلقت حدثاً لا يُمكن إنكار أو التقليل من فظائعه مِن قبل أي شخصٍ مُنصِف أو محب للسلام".
أقتبس من الرسالة: "لن ينسى التاريخ هذه المأساة الإنسانية التي ارتكبتها النازية الشريرة، ولن تلقى تأييد أحد، سوى النازيين المجرمين وأمثالهم. إنَّ الإسلام الحقيقي يقف ضد هذه الجرائم، ويضعها في أشدِّ منزلةٍ من الكبائر وبين أسوأ الأعمال الوحشية المُرتَكَبة ضد الإنسانية على الإطلاق".
وكتب العيسى: "قد يسأل المرء، مَن في عقله الصحيح قد يقبل، أو يتعاطف، أو حتى ينتقص من حجم هذه الجريمة الوحشية. ومع ذلك، فإنَّ عزاءنا هوَ أنَّ ذاكرة التاريخ منصفة وقوية. ومن العدل، المُتحرِّر من أية ميول، الحداد على هذه الجريمة باسم الإنسانية جمعاء. لقد ضحى الضحايا بحياتهم البريئة لتكون تذكاراً لنا للعزيمة والحرية، ومثالاً على مدى الكراهية النازي التي أغرقت العالم في الحروب والكوارث".
وعن إنكار الهولوكوست، كتب العيسى كلماتٍ صارمة:
"إنَّ التاريخ مُنصِف مهما حاول المزوِّرون التلاعب به أو تشويهه. وبالتالي، فإنَّنا نعتبر أي إنكارٍ للهولوكوست أو انتقاصٍ من أثرها، جريمةً للتشويش على التاريخ، وإهانةٍ في حق كرامة الأرواح البريئة التي أزهِقَت. كذلك هيَ إهانةٌ لنا جميعا، إذ إنَّنا نتشارك نفس الروح الإنسانية والروابط الروحانية".
يعلق الباحث قائلاً: "إن العيسى بخلاف العديد من المحاورين المسلمين ممَّن ناقشت معهم تلك القضية على مرِّ الأعوام، فإنَّ العيسى لم يحاول التهرُّب من الانتقادات المحتملة بشأن التحدث عن الهولوكوست بحماية نفسه متحدثاً عن التعادُل -المخطئ- في ذلك مع "الإبادة الجماعية" التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين. وبالعكس، فإنَّه قد ابتعد عن تناول القضية برمتها، وأكَّد بدلاً من ذلك على سياسته اللاسياسية المنصوص عليها في اجتماعنا المعقود بالرياض: "إنَّ رابطة العالم الإسلامي هيَ مستقلة تماماً عن أية أهداف أو ميولٍ سياسية أو غيرها. بل إنَّها تعبِّر عن رأيها بحيادٍ تام، وهي موضوعية تخلو من أية نبرة سياسية".
المصدر: هاف بوست عربي
104