تمثل العلاقة بين العالم العربي وبين إيران إشكالية ثابتة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي (تاريخ انتصار الثورة الإسلامية). إلا أن تلك الإشكالية اكتسبت خلال السنوات الأخيرة زخماً كبيراً بفعل التطورات المهولة التي عصفت بالدول العربية منذ اندلاع بواكير «ثورات الربيع العربي»، والتي آلت إلى حضور إيراني قوي في غير ساحة لعل أهمها سوريا والعراق واليمن ولبنان.
هذا الحضور تنقسم آراء النخب العربية بشأنه، ما بين مؤيد له بوصفه رافداً ضرورياً لمشروع مواجهة الهيمنة الغربية على المنطقة، وما بين رافض لأي شكل من أشكاله على اعتبار أنه وسيلة من وسائل «الجمهورية الإسلامية» في السيطرة على الدول المجاورة لها وإضعافها (حسب زعمهم). غير أن المؤكد ما بين الرأيين المتقدمين أن ثمة أزمة ثقة كبيرة على الخط العربي - الإيراني، يغذيها التوتر السياسي المترافق مع تحريض إعلامي، والعطب الثقافي المتمثل في غياب أي مجهود حقيقي لردم الهوة اللغوية والاتصالية والثقافية ما بين العرب وإيران، إضافة إلى ضعف التنظير الاستراتيجي لمبدأ المصالح الإقليمية المشتركة في قبالة الإلحاح شبه اليومي على الانقسامات الطائفية والقومية والعقدية.
مؤتمر «العرب وإيران» الثاني
في محاولة لمقاربة تلك الإشكاليات، وإيجاد أجوبة على الأسئلة المتكاثرة بشأن الدور الإيراني في المنطقة، وإجراء تدرّب عقلي على كيفية مواجهة الهواجس التي يجد العرب أنفسهم إزاءها مجدداً، انعقد خلال اليومين الماضيين في بيروت مؤتمر بعنوان «العرب وإيران: نحو مستقبل مشترك - الأمن والاستقرار والتعاون». المؤتمر الذي نظمه «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» بمعية معهد «انديشه سازان نور» الإيراني، و«مركز الدراسات السياسية والدولية» التابع لوزارة الخارجية الإيرانية، يُعدّ النسخة الثانية من مؤتمر مماثل تم تنظيمه في حزيران/ يونيو 2016 في بيروت أيضاً. ما يميز النسخة الجديدة، لناحية الشكل، أنها ضمت دائرة أوسع من أصحاب الرأي والباحثين والشخصيات الأكاديمية، وهذا ما يَعدّه المنظمون علامة إيجابية، ودليلاً على أن النسخة السابقة تمكنت من «اختصار المسافة بين النخب العربية والإيرانية»، و«إيجاد مساحة رحبة للحوار والتفاعل»، على حد تعبير رئيس «المركز الاستشاري»، عبد الحليم فضل الله، في كلمته خلال افتتاح المؤتمر.
أما لناحية السياق، فإن المؤتمر الثاني يأتي في ظل متغيرات ثلاثة يعتقد المنظمون أن بإمكانها الإسهام في تضييق الشرخ العربي - الإيراني، ألا وهي: هزيمة تنظيم «داعش» في سوريا والعراق، إحباط خطة تقسيم بلاد الرافدين، وإماطة اللثام عن «صفقة القرن» القائمة على تصفية القضية الفلسطينية. مرد ذلك، بحسب فضل الله، إلى أن المتغيرين الأولين كان لـ«التعاون العربي - الإيراني دور أساسي وحاسم» فيهما، وإلى أن المتغير الثالث لا يمكن التصدي له «من دون شراكة مصيرية واستراتيجية». ولئن كانت تلك العناوين، بالفعل، محط توافق بين النخب مثلما ستُظهر كلمات المشاركين ومداخلاتهم، إلا أن دون إسهامها في إعادة تشكيل الاصطفافات الرسمية والشعبية على أسس منطقية ومنسجمة مع متطلبات الانتقال إلى «شراكة إقليمية»، مخاوفَ وعناصرَ إقلاق واختلافاتٍ لا يستهان بها، تستحقّ العمل على بلورة معالجات جادة لها، وفق ما دعا إليه بعض المشاركين.
الدولة الوطنية
توزعت مباحث المؤتمر وأعماله على ثلاث جلسات متوازية حملت العناوين التالية: «الدولة الوطنية: الاستقلال والشراكة وتماسك الهوية»، «العلاقات الإقليمية: من التوازن إلى الشراكة الواسعة»، «الأدوار والمشاريع الدولية في الإقليم: كيف ينبغي مقاربتها؟». تمحورت الجلسة الأولى، التي شارك فيها الوزير الجزائري السابق عبد القادر بن قرينة والقيادي في حركة «النهضة» التونسية نور الدين عرباوي ورئيس مركز «انديشه سازان» سعد الله زارعي، حول سبل إقامة «دول وطنية» على طريق «تشكيل نظام إقليمي ناجح».
رأى بعض المشاركين، في أوراق عملهم، إلى ضرورة تأسيس عقد اجتماعي جديد يضمن التعددية والحقوق والحريات، وأهمية تحقيق العدالة الاجتماعية، والتمسك بالسيادة الوطنية والاستقلال السياسي والاقتصادي، فيما شدد آخرون على أن قوى المقاومة والممانعة تشكل العماد الرئيس لأي نهضة مأمول بها. وما بين الرأيين المشار إليهما، واللذين يُعدّان الأبرز من بين مداخلات الجلسة الأولى، يبدو أن ثمة صلة وصل مفقودة تتصل بكيفية إيجاد صيغة توائم ما بين التحرر الوطني ومناهضة الهيمنة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمستدامة في الوقت نفسه. ولعلّ هذا هو ما أراد التصويب عليه بعض الباحثين المشاركين في الجلسة الثالثة، والذين دعوا إلى إيجاد النموذج أو الباراديغم المواجِه لـ«ما ندعي محاربته».
العلاقات الإقليمية
برزت، من بين جلسات المؤتمر الثلاث، الثانيةُ بوصفها الأكثر حيوية واقتراباً من الإشكاليات الرئيسة التي يتمحور حولها العنوان؛ كونها تناولت مسارات الخروج مما سمّتها «لعبة التنافس والتوازن الصفرية» إلى «عقلانية التعاون والبناء والشراكة». ركزت أبرز مداخلات هذه الجلسة على نقطتين: أولاهما أهمية إنشاء مؤسسات إقليمية، من مثل «آسيان» و«ميركسور»، قادرة على «لعب أدوار فاعلة يُعتّد بها»، وثانيتهما ضرورة تحديد المصالح المشتركة ما بين العرب وإيران، والركون إليها، وجعلها معياراً للسلوك الإقليمي والدولي، بدلاً من التمترس خلف الموروثات والترسبات التاريخية، والإصرار على تحويل الاختلافات الطبيعية إلى عوامل خلاف، واللذين من شأنهما نسف القواعد المشتركة التي يمكن الوقوف عليها، وتضييع المعايير التي يفترض أن تكون حاكمة للعلاقات. وهنا، ووفقاً لبعض المشاركين، يُفترض على إيران؛ كونها الطرف المُوحَّد بالدرجة الأولى والذي يمتلك مشروعاً بالدرجة الثانية خلافاً للعرب، أن تحدد طبيعة مشروعها في المنطقة: هل هو عقدي إسلامي؟ أم قومي فارسي؟ أم إقليمي تعاوني؟... مطلبٌ أضاف إليه مشاركون آخرون دعوة لإيران إلى تحديد ماهية علاقتها بالقوى «غير الدولتية» (من أحزاب وحركات ومنظمات وحتى شخصيات...)، ومدى هذه العلاقة وآفاقها، على اعتبار أنها من الأسباب الكامنة خلف الاتهام الموجه باستمرار إلى طهران بـ«دعم جماعات مذهبية لأغراض التوسع».
هاتان النقطتان الأخيرتان برز عليهما تعقيب إيراني يبدو مفيداً إيراده؛ كونه خرج من السرديات المعتادة في هذا السياق. ارتكزت المداخلة الإيرانية هذه على مطلبين لافتين للانتباه: أولها أن الاتهام الآنف ذكره لا يأتي إلى إيران من لَدُن دول كثيرة جارة لها فيها «أقليات شيعية» (أفغانستان، باكستان...)، ما يعني بحسب الباحث مسعود أسد اللهي، صاحب المداخلة، أن المشكلة إنما هي في من يطلقون التهمة من الجانب العربي. يزيد أسد اللهي على استدلاله ذاك، في حديث إلى «الأخبار»، أن «إيران لا تحرض الشيعة على الأنظمة الحاكمة في أوطانهم»، مستشهداً بأنها «لو أرادت لاستطاعت مثلاً عسكرة الثورة البحرينية التي ما تزال سلمية منذ انطلاقها».
أما النقطة الثانية في حديث الباحث الإيراني، وهي الأهم، اعتباره أن بلاده ارتكبت «خطأً استراتيجياً» بعد انتصار الثورة، عندما اعتبرت أن الجماعات والتيارات الإسلامية (التي كانت منذ ما قبل الثورة معارضة لأنظمتها) «حليفاً طبيعياً لها». تبيّن، بحسب ما يقول أسد اللهي لـ«الأخبار»، على ضوء أحداث «الربيع العربي»، أن تلك الجماعات تعتبر إيران «حليفاً تكتيكياً لها وليس استراتيجياً»، أي أن التحالف مع إيران بالنسبة إليها هو مجرد وسيلة لبلوغ هدف سياسي، وعليه فإن العدول عن هذه الوسيلة طبيعي متى ما توفرت وسائل أخرى. هل يمكن اعتبار القراءة المتقدمة تعبيراً عن توجه رسمي؟ ينفي أسد اللهي ذلك، مؤكداً في الوقت نفسه أن ثمة تساؤلات متعاظمة داخل إيران حول العلاقة مع «الإسلاميين»، وإمكانية بلورة خيارات رديفة.
من جانب آخر، وعلى مستوى الجلسة نفسها أيضاً، يُسجّل لبعض المشاركين، وخصوصاً منهم السياسي والروائي الفلسطيني مروان عبد العال والمحامي والسياسي المغربي خالد السفياني، تطرقهم إلى الجانب الثقافي من الأزمة، وتشديدهم على ضرورة إيلائه الأهمية الكافية؛ كونه يؤسس لحل جذري طويل الأمد، ما يزال التنبه إليه هشاً بفعل الانشغال الدائم بالسياسة والفعل السياسي.
الأدوار والمشاريع الإقليمية
تمحورت الجلسة الثالثة حول تزاحم القوى الدولية على ساحة منطقة غرب آسيا والعالم العربي، وتصاعد دور القوى الأوراسية (لا سيما روسيا والصين) في المجال الإقليمي، وإمكانية مساهمة هذه الأخيرة في اختصار المسافة بين قوى الإقليم. برزت، من بين أوراق العمل التي قُدّمت في هذه الجلسة، تلك التي ركزت على نقطتين: أولاهما أن جميع القوى السائدة تقريباً (المنقسمة ما بين معسكرين متضادين)، وعلى الرغم من الفوارق المتعددة فيما بينها، منخرطة في إطار منظومة عالمية نيوليبرالية تقوم على 3 أقانيم: فتح الأسواق، السيطرة على الثروات الطبيعية، ونشر الثقافة النيوليبرالية. هذا الانخراط، وهاهنا النقطة الثانية، يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول استراتيجيات المشروع المضاد لتلك المنظومة: هل يمتلك نموذجاً؟ هل يستطيع الانعتاق من الباراديغم المهيمن؟ وما الذي يستطيع تقديمه للشعوب التي لا يمكن تحقيق اندماج إقليمي من دونها؟ من هنا، يُفترض بالقوى المناوئة للهيمنة الغربية، وفي مقدمها إيران، أن تقدّم أجوبة على تلك التساؤلات، وأن تبدأ العمل على بناء نموذج بديل يمكن أن تجتمع شعوب المنطقة من حوله.
اليوم الثاني
شهد اليوم الثاني من المؤتمر جلسة واحدة حملت عنوان «التهديد الإسرائيلي لمستقبل القضية الفلسطينية والتعاون الإقليمي». حذر المشاركون (مثل القيادي في «حماس» أسامة حمدان، والأستاذ الجامعي سيف دعنا، والكاتب الفلسطيني منير شفيق) في هذه الجلسة من خطورة التقارب بين بعض دول العالم العربي وبين إسرائيل، داعين إلى تبريد الصراعات المشتعلة في الإقليم و«إعادة الاعتبار لشعار تحرير فلسطين». وشددت بعض المداخلات على ضرورة تبني مشروع المقاومة وإطلاق خطة إقليمية لمواجهة التطبيع، فيما حضت أخرى على دعم انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنشاء غرف عمليات في ذلك السبيل.
الصادق المهدي: لتوقيع معاهدة تعايش
اختتم المؤتمر أعماله يوم أمس بجلسة ختامية حملت عنوان «التعاون العربي ــ الإيراني: رؤى مستقبلية». ومن بين من تحدثوا في هذه الجلسة القيادي في حركة «النهضة» التونسية نور الدين عرباوي، الذي دعا إلى «الاستمرار في هذا الحوار حتى نتمكن من تمحيص المشكلات»، فيما اقترح رئيس حزب «الأمة» السوداني المعارض، الصادق المهدي، في برقية أرسلها إلى المؤتمرين لتعذر حضوره، «توقيع معاهدة تعايش عربية ــ تركية ــ إيرانية».
أما رئيس «المركز الاستشاري» عبد الحليم فضل الله، فأعلن في كلمته أن المؤتمر «لن يطلق توصيات بصورة مباشرة، أو يخرج ببيان ختامي، بل سيصدر وثيقة متكاملة كي تكون منطلقاً للتقدم إلى الأمام». كذلك أعلن فضل الله أن المؤتمر «سيطلق مبادرة لتأسيس الأمانة العامة لمنتدى الحوار الإيراني ــ العربي»، بهدف إبقاء «التواصل والتفاعل المستمر». وأشار إلى أن المجتمعين اتفقوا على «أهمية الحفاظ على الدولة الوطنية كحصن في وجه التقسيم»، لافتاً إلى أن «المطلوب منا إنتاج نموذج متعدد الأبعاد يمكن المراهنة عليه».
* دعاء سويدان .. الأخبار