ضربَ الملف السوري موعداً مع جولةٌ جديدة من جولات «كسر العظم» الإقليمية، مسرحُها الشمال السوري وعلى وجه الخصوص منطقة عفرين. وفي خضمّ الانهماك التركي بالتجهيز لاجتياحٍ «موعودٍ» للمنطقة، جاء موقف دمشق أمس شديد اللّهجة بصورة غير مسبوقة. ومع أنّ دمشق سبق لها أن هاجمت الجار اللدود مرات عدة على امتداد الأزمة التي تشهدها البلاد منذ سنوات، فإنّ التّهديد الصريح والمباشر الذي جاء على لسان نائب وزير الخارجيّة فيصل المقداد قد يكون مفتاحاً لانعطافةٍ فارقة في الملف السوري، وأيّاً كان التعاطي التركي مع هذا التّهديد.
وحذّر المقداد أنقرة من أنّ «سوريا ستقابل أي تحرك تركي عدواني أو بدء عمل عسكري تجاه الجمهورية العربية السورية بالتصدي الملائم»، وشدّد على أنّ «قوات الدفاع الجوية السورية استعادت قوتها الكاملة وهي جاهزة لتدمير الأهداف الجوية التركية في سماء سوريا، وهذا يعني أنه في حال اعتداء الطيران التركي على سورية فيجب عليه ألا يعتبر نفسه في نزهة».
وعلاوةً على مضمونها، تكتسب تصريحات المقداد أهميّة إضافيّة نظراً إلى توقيتها اللّافت في ذروة الاستعداد التركي الذي أوحى أنّ العدوان المُزمع قد يُشنّ في أي لحظة. ولا يبدو اختيار توقيت تصريحات المقداد التي جاءت عبر بيان تلاه أمام صحافيين في مقر وزارة الخارجيّة اعتباطيّاً، عقِب توّجه رئيس الأركان التركي خلوصي آكار، ورئيس الاستخبارات حقّان فيدان، إلى العاصمة الروسية موسكو لإجراء «لقاءات مع نظيريهما لبحث مسألة عفرين، وكل التطورات التي تشهدها الساحة السورية» وفقاً للمتحدث باسم الرئاسة التركيّة إبراهيم غولن. ولا تقتصر الرسائل التي حملهتا تصريحات المقداد على تلك الموجّهة إلى أنقرة، بل تبرز رسائل بين السطور، وعلى رأسها تأكيده أنّ «عفرين عربيّة سوريّة».
وفي انتظار الخطوات التركيّة التالية، ينبغي الأخذ في الاعتبار أنّ فرملة أنقرة خطواتِها، أو إرجاء تحرّكاتها سيتيح لدمشق تحصيل انتصار معنوي كبير يأتي بمثابة «كسر للصّلف التركي». وعلى نحوٍ مشابه، سيضع مضيّ أنقرة في تنفيذ عدوانها «جديّة دمشق» على المحك، ولا سيّما أنّ موسكو لم تُعلن موقفاً معارضاً للتحرك التركي حتى الآن. وكان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قد أكّد أنّ أنقرة تنسق مع موسكو حول العملية الموعودة في عفرين، وقال «روسيا لا يجب أن تقلق من العمليّة المحتملة، الشيء الرئيسي بالنسبة لروسيا هو وجود مراقبين هناك، وضمان أنهم لن يعانوا في أي حال، لهذا التنسيق مهم جدا، ونحن نسعى بنشاط». كما أشار ضمنيّاً إلى سعي بلاده للتنسيق مع دمشق، عبر تأكيده أن «ينبغي أن نكون على اتصال مع كل من هناك (…) يوجد العديد من اللاعبين الاخرين، ولذلك من المهم جدا عدم وقوع اشتباكات غير متوقعة».
وبانتظار ما ستفضي إليه جولات كسر العظم السياسية، تواصلت نهار أمس الاعتداءات التركيّة على منطقة عفرين ومحيطها. واستهدف القصف التركي مناطق في شمال عفرين ولا سيّما «ميدان إكبس»، كما تواصل قصف مناطق في غربي وشرقي عفرين، وصولاً إلى مناطق في غربيّ عين العرب (كوباني).
وفيما تناقلت مواقع إعلاميّة مُعارضة أنباء عن «انسحابات ينفّها العناصر الروس من منطقة عفرين»، أكّدت مصادر من المنطقة لـ«الأخبار» أنّ هذه الأنباء «عارية من الصّحة»، وأنّ «القوات الروسية، بما في ذلك عناصر الشرطة العسكرية، ما زالت تمارس مهامها المعتادة». المصادر أوضحت أيضاً أنّ «حركة عناصر وحدات حماية الشعب داخل عفرين وفي محيطها لا تتوقّف، مع الإشارة إلى أنّ عفرين تُعدّ الخزان البشري الأكبر لوحدات حماية الشعب، ووحدات حماية المرأة».
في الوقت نفسه أكّدت مصادر ميدانيّة تابعة لـ«وحدات الحماية» الكرديّة لـ«الأخبار» أنّ «الاستعدادات قد بلغت أوجَها على مختلف الجبهات، وسيكون ثمن أي حماقة تركيّة أكبر بكثيرٍ مما يتخيّلون».
وعلمت «الأخبار» أنّ مسؤولين عسكريين سوريين قد التقوا أمس قياديين من «الوحدات» بحضور عسكريين روس، في اجتماعٍ هو الثاني من نوعه في خلال الأسبوع الأخير، وفي مكانين مختلفين. ورفض مصدر دبلوماسي سوري تحدثت إليه «الأخبار» التعليق على هذه المعلومات، وقال «الخطوات العسكريّة ستُفصح عن نفسها على أرض الواقع إذا ما دعت الحاجة». وشدّد المصدر على أنّه «من مصلحة أنقرة أن تستمع مراراً وتكراراً إلى تصريحات الخارجيّة السوريّة، لعلّها تساعدها في حساب خطواتها بذكاء».
وإذا ما حملت الأيّام القادمة تراجعاً تركيّاً، فلن يكون الأوّل من نوعه من بين المواقف الدولية المرتبطة بملفي الشمال والشرق السوري. واشنطن، التي أشعلت شرارة الكِباش الأخير، كانت قد أعلنت أمس على لسان وزير الخارجية ريكس تيلرسون أن «الولايات المتحدة لا تعتزم تشكيل قوة أمنية حدودية مع حلفائها الأكراد في سوريا، وأن عليها ان تقدم تفسيراً إلى تركيا في حال أسيء فهم نواياها». وقال تيلرسون ليل الأربعاء الخميس «نتفهم ردّ فعلهم (…) من حقهم علينا أن نشرح لهم الأمر»، وأضاف «لسنا على الإطلاق بصدد تشكيل قوة أمنية حدودية. لقد قلنا للأتراك ما نفعله: نحن نعمل على أساس أن يتولى العناصر المحليون ضمان الأمن في المناطق المُحررة».
ورغم أنّ تصريح المسؤول الأميركي بدا أقرب إلى تراجعٍ عمّا أعلنه «التحالف الدولي» حول تشكيل «تشكيل وتدريب قوة أمنية حدودية سورية جديدة»، فإنّ رياض درار، «الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطيّة» لم يرَ في التصريحات شيئاً من هذا القبيل. وقال درار لـ«الأخبار» إنّ «الموقف الأميركي ثابت لم يتغير، وكلمة تيلرسون تمثل سياسة أميركية قادمة نُقدّر أهدافها، فالولايات المتحدة دولة عظمى لها مصالح كبرى وتعاملُها معنا جزء من هذه المصالح». وأكّد أنّه «لا خشية من انقلاب السياسة الأميركية. نحن نقرأ لغة المصالح ومسارات السياسة الدولية، ونعتقد أن حاجة الولايات المتحدة لنا مماثلةٌ لحاجتنا لها».
كذلك؛ رأى المصدر نفسه أنّ «موقف الخارجية السورية من التهديدات التركية يُثنى عليه، ويفتح باباً للتقارب والتشارك في تسوية سياسية مقبولة ومباشرة ضمن سعينا لنظام فيدرالي ديمقراطي يحقق طموحات السوريين في السلام والاستقرار».
«عفرين البداية»
تزامناً مع التصعيد التركي المستمر في ملف عفرين، تبنّى سياسيون وناشطون سوريون مبادرةً تدعو «الأحزاب الكرديّة» والحكومة السورية إلى التنسيق معاً لمواجهة التهديدات التركيّة. المبادرة التي أطلقها السياسي الكردي ريزان حدو حملت اسم «عفرين أولاً»، ودعت «الأحزاب الكردية الفاعلة إلى عقد اجتماع طارئ، وتشكيل خلية أزمة» تقع على عاتقها مهام عدة على رأسها «التوجه إلى دمشق وعقد اجتماعات مع الحكومة السورية». إضافة إلى «التواصل مع كل أطياف الشعب السوري، وجميع الدول الفاعلة في الملف السوري، والمشاركة في الاجتماعات والمؤتمرات الدولية الخاصة بالأزمة السورية بوفد واحد». كما دعت المبادرة إلى «القيام بحراك إعلامي وشعبي موحد في شتى أصقاع العالم لكشف حقيقة الدور التركي القذر في نشر الفوضى وزعزعة الاستقرار ودعم الجماعات الإرهابية في سوريا خصوصاً وفي المنطقة بشكل عام». وأكد حدو لـ«الأخبار» أنّ «المبادرة قد حظيت بتفاعل كبير في اليوم الأوّل لإطلاقها، خاصّة أنّها تُمثّل مواقف الشريحة الأكبر في عفرين».
* صهيب عنجريني .. الاخبار