بعيداً عن أعين المتابعين المشغولين جنوباً، كان «الحلفاء» في ريف حلب يستعدون بدورهم لملاقاة الجيش في عملياته. ظهر أنّ المعركة ليست موضعية، بل حسب المعلومات، فإن المنطقة متجهة في الأسابيع المقبلة نحو تصعيد ضخم تسهم فيه «القوات الرديفة» مجدداً على نحو واسع، لنكون أمام معركة على طول خط طريق «حلب ــ دمشق» بعد تحرير شرق «سكة الحجاز»
منذ سقوط مدينة إدلب ومحيطها في يد «جيش الفتح» في ربيع عام 2015، لم يتحرّك الجيش السوري وحلفاؤه في سبيل استعادتها، أو استعادة أجزاء منها. كانت الصدمة أكبر من الاستيعاب، والخطر الجاثم حول العاصمة أشد وطأة من نصر «قاعدي» كبير. كانت الأولوية حماية العاصمة وتثبيت خطوط تماس «ما بعد إدلب».
خلال أقل من ثلاثة أعوام، تغيّرت معادلات الميدان إثر التدخّل الروسي، وشكّل تحرير مدينة حلب تحوّلاً مفصلياً كرّس في ما بعد تعاوناً روسياً ــ تركياً ــ إيرانياً حول ما عرف بمناطق «تخفيف التصعيد». الهدن «المضمونة» تركت للجيش وحلفائه الأفضلية لقتال تنظيم «داعش» واستعادة الشرق ووصله بالعراق. وبالتوازي، كانت «جبهة النصرة» تعزز نفوذها في إدلب على حساب باقي الفصائل، ومستمرة في سعيها احتكار المؤسسات الإدارية والمدنية.
عملياً، بعد تحرير البوكمال، كانت بوصلة المعارك تشير إلى «بقعة سوداء» متمثلة في محافظة إدلب (ما عدا كفريا والفوعة) وجزء مهم من ريفي حلب وحماة المتصلين. أما معظم مناطق المعارضة المتبقية فجرى ويجري التعامل معها على نسق تسوية بلدة بيت جن ومحيطها. فوّهة النار انتقلت نحو «القاعدة» وملحقاتها، حيث يشكّل «تجمع إدلب» الهدف الطبيعي لكل اللاعبين بعد «أفول» تنظيم «داعش».
من جهتها، كانت دمشق تعدّ العدّة لحراك عسكري في إدلب ومحيطها، فيما كانت موسكو أولاً وطهران ثانياً يتلقّيان من أنقرة خريطة طريق للتخلص من الوجود «القاعدي» في تلك المنطقة. وفي سبيل هذا الهدف، حاولت تركيا أولاً عبر أدواتها المحلية من المجموعات المحسوبة عليها تحجيم «هيئة تحرير الشام» عسكرياً وخلق واقع خدماتي ولجان إدارة محلية بعيدة عن بصمات «القاعدة»، واستتبعت نشاطها بإدخال مجموعات من القوات الخاصة شمال المحافظة، جنوب عفرين.
همّها الأوحد تمثّل في العمل على تجنيب إدلب عملاً عسكرياً من قبل الجيش السوري وحلفائه.
حسب المعلومات، كانت إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان تعلم جيداً أن بدء المعركة مسألة وقت بعد فشلها الذريع في ضرب «النصرة» ومنع تمددها، والفشل أيضاً في جمع الفصائل المشتتة في «جيش واحد». دمشق، بدورها، لم يكن استياؤها من التحركات التركية خفياً، إذ أعلنت مراراً أن ما يحدث ليس ضمن أجندة اتفاقات أستانا، وأنها ترى في الأتراك محتلين، وأنها مصمّمة على «متابعة القتال حتى طرد جميع الإرهابيين». بعد هذه المحصلة، أوصلت موسكو رسالتها لحاكم أنقرة: التحرك العسكري سيبدأ.
«غرب سكة الحجاز»
المرحلة الأولى من العمليات انطلقت سريعاً، وكان خط سير المعارك ممتداً على طول شرق «سكة قطار الحجاز» التاريخي، انطلاقاً من محيط أبو دالي نحو أبو الضهور، مروراً ببلدة سنجار الاستراتيجية. «شرق السكة» انتزع من التركي
بالسياسة قبل الميدان. إصرار دمشق وفشل أنقرة في تغيير الواقع في إدلب أفضيا إلى ما نشهده اليوم من سيطرة واسعة خلال وقت قصير نسبياً على أراضٍ مندرجة أصلاً ضمن اتفاق «تخفيف التصعيد».
إذاً، حرّك الجيش السوري ماكينته العسكرية وأطبق على «المنطقة الأولى»، ومع تصعيد الفصائل المسلحة المعاكس على جبهتي أبو الضهور وغرب بلدة أبو دالي،
تحرّكت قوات من «الحلفاء» من ريف حلب الجنوبي لتحرر منطقة واسعة في محيط جبل الحص، وتقلصت المسافة التي تفصلها عن أبو الضهور من الشمال الشرقي. وضاعف تقدم الجيش من ريف حلب الجنوبي من فرص السيطرة على مطار أبو الضهور، وهو ما سيحقق عزل جيب كامل يمتد من شمال الرهجان (ريف حماة) حتى أطراف تل الضمان (ريف حلب)، كما سيؤمن وصل الجبهات بين حلب وحماة، من دون عقدة خناصر.
بلْع «الموسى» تُركياً، بحكم الأمر الواقع، لن يقتصر على «شرق سكة الحجاز»؛ فالجيش وحلفاؤه يستعدون لإعادة عقارب الوقت إلى عام 2015 حين اشتعلت جبهات ريف حلب الجنوبي المتصلة بطريق دمشق ــ حلب الاستراتيجي.
خط التماس في بلدة الحاضر حالياً، حسب مصادر متابعة، لن يبقى على حاله، لتعود في الفترة المقبلة بلدة العيس وتل العيس وجوارهما إلى الواجهة. وعبر هذا التوجه تضمن دمشق حصر «الإمارة» داخل مدينة إدلب والبلدات المجاورة وصولاً إلى الحدود التركية، ما يكسبها في الجغرافيا والسياسة والميدان،
إذ تعدّ هذه المنطقة مفتاحاً لتقييد التحركات العسكرية في أهم مدن وبلدات وسط إدلب. وبقدر ما سيؤثّر إنهاء المرحلة الأولى والسيطرة على أبو الضهور وكامل شرق سكة الحجاز على المصالح التركية في إدلب، سيكون للمرحلة الثانية أهمية أكبر من سابقتها، وستضع أنقرة أمام خيارات حساسة للتعامل معها.
عفرين في الواجهة
التعقيدات التي تواجه تركيا في معارك إدلب تتشابك في نقاط كثيرة مع أيّ تحرك مرتقب في عفرين، إذ لا تبدو التهديدات المتصاعدة لشن هجمات هناك مجرد تصريحات هذه المرة؛ فإن كان الأتراك يخشون «موجة غضب كردية» داخلية (في حال الهجوم على عفرين)، إلا أنهم يعتبرون استمرار الوجود الكردي العسكري على حدودهم خطراً قومياً.
لذلك، تفيد المعطيات بأن يلجأ الأتراك إلى دعم عملية برية باتجاه بلدة تل رفعت في الريف الشمالي لحلب وبعض القرى القريبة من جبل سمعان، لإثبات جديتهم في تغيير المعادلة على الأرض، وإجبار «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي على التفاوض عن طريق الجانب الروسي.
فأنقرة تريد التزام موسكو وطهران بما تعتبره تعهدات قطعتاها إبان التحشيد التركي في محيط عفرين، خففت من تداعياته لقاءات جمعت الجانبين الإيراني والروسي مع مسؤولين كرد في عفرين. حينها، طرح الروس أن يتم إخلاء كامل عفرين من المقاتلين والسياسيين غير السوريين، والسماح للجيش السوري بالانتشار على الشريط الحدودي مع عفرين، مع إعادة حضور الدولة السورية في كل من منبج والطبقة، مقابل ضمانات روسية بمنع أي هجوم على عفرين.
هذا السيناريو قد يعود إلى الواجهة، بعد تصريح الناطق باسم «التحالف الأميركي» أمس بأن «حماية عفرين ليست من مهام التحالف».
فهذا التصريح، الذي يقابله حتّى الآن غياب أيّ تعليق روسي تجاه ما يحصل في عفرين، وأيضاً غياب للدوريات الروسية التي كانت فاعلة في خطوط التماس بين الجانب التركي في الغزاوية ومحيط جبل سمعان وباصوفان، يرجّح فرضية وجود ضغط روسي على الجانب الكردي للعودة إلى تفاهمات سابقة بين الطرفين. أما بعيداً عن لغة التفاوض، فتركيا تعوّل على مشاركة الفصائل المحسوبة عليها في إدلب في المعارك، لكونها تفضّل هذا الخيار على الزجّ بجنود جيشها في مواجهة «وحدات حماية الشعب» الكردية. وتنقل مصادر أن فصائل موجودة في إدلب مستعدة للقتال ضد الأكراد، إذ رغم التجربة التركية في استخدام فصائل «درع الفرات» في ريف حلب الشمالي، فإن المعارك على جبهات عفرين ستكون مختلفة، فتلك الفصائل لا تملك الخبرة القتالية والقوة اللازمة لمواجهة «الوحدات» الكردية، وخاصة في منطقة مثل عفرين.
المصدر: الأخبار