{ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (القصص/7).
بدأت القصة بالمشهد الأخير، حيث إنتصار المستضعفين من بني إسرائيل على المستكبرين من آل فرعون، وتبوئهم موقع المركز والصدارة بعد أن كانوا مهمشين يعانون أشد حالات الإقصاء والإذلال وعدم الاعتراف بأبسط حقوقهم في المواطنة والكرامة الإنسانية .
تكنيك قصصي يضعك في صلب المشهد الأخير لتدرك أن الأمور رهن بخواتيمها، فالنهايات هي التي تحدد الإرادة المنتصرة، هذا أولا. وثانيا، لتشحذ كل مخيلتك في تصور ما سيجري وكيف، خصوصا أنك أمام تدبير إلهي لا يخطر على بال أحد.
هذا التكنيك القصصي يشكل عنصر إثارة وتشويق للمتلقي ليتابع مسلسل القصة أولا بأول ليعرف كيف يمكن أن يحدث هذا، وكيف يمكن أن تنتصر الإرادة الإلهية على إرادة فرعون، مع أن معطيات الواقع ليس فيها ما يوحي إلى ذلك، بل على العكس تماما. فهذا فرعون في عنفوان قوته وبطشه، إستطاع ترويض شعبه بالوسيلة الناجعة قديما وحديثا، أي (فرق تسد)، وبالنار والحديد. لقد جعل من مال الله دولا ومن عباده خولا، يتصرف في الجميع كيف يشاء {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} .
المعطيات الظاهرية إذن لا توحي بقرب التغيير، بل ربما تزرع في النفوس اليأس، ولذا يتساءل المتلقي: من أين سيولد التغيير؟ وكيف سيولد من يقود التغيير، والحال أن فرعون يمعن في إجهاض أي نواة محتملة لمشروع كهذا في مهدها من خلال برنامج المراقبة اللصيقة للحوامل من بني إسرائيل ليضعن حملهن على أيدي القوابل القبطيات فقط، ثم يتم فرز المولود، فإن كان ذكرا يُذبح وإن كانت أنثى تستبقى للخدمة عند أسيادها الأقباط؟ فمن أي ثغرة سينفذ التغيير، ولا ضوء يلوح في نهاية النفق؟!
صحيح أن البشارات قد جاءت إلى بني إسرائيل بظهور المنقذ المخلص، ولكنهم لا يعلمون وقت ظهوره، ولا كيف سيظهر، كما أن لا شيئ من واقعهم الراهن يشير إلى إمكانية ظهوره في هذا الوقت العصيب، بل العكس تماما حيث هو إلى الاستحالة أقرب.
لا بأس بقليل من الإستطراد.كان هناك إذن شوق عارم لقدوم قائد التغيير الموعود، شوق تلهبه الظروف المأساوية التي يعيشها بنو إسرائيل، وهناك في الوقت ذاته حالة من الإحباط الشديد أيضا، بل ربما يأس من التغيير.
في مثل هذا الوقت يأتي دور ضعاف النفوس والانتهازيين ليستغلوا الفرصة المواتية - من انتظار الناس وترقبهم ورغبتهم في الخلاص - وليدعوا الموسوية لتحصيل مكاسب دنيوية زائلة. ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "ما خرج موسى حتى خرج قبله خمسون كذابا من بني إسرائيل كلهم يدعي أنه موسى بن عمران" .
وهذا أحد أوجه الشبه بين ما حدث لموسى عليه السلام قبل خروجه مخلصا لبني إسرائيل، وما يحدث للإمام المهدي عليه السلام قبل خروجه مخلصا للبشرية كلها، حيث ظهر ويظهر مدعون للمهدوية، برغم أن البشارات قد عينت هوية كل واحد منهما بوضوح.
أقول: كل المعطيات الظاهرية لم تكن تشير إلى إنفراج الأزمة، واليأس كان سيد الموقف، والظلام الحالك – وهو صنو الظلم – كان جداره عصيا على الإختراق. ( ليل وسور وأفق ما به قمرُ ).. فمن أين إذن سيندلق الفجر؟
تأتي هذه الآية لتضعنا – ونحن مهمومون بالتساؤلات الحرجة – أمام مشهد جديد، فقد حدث ما حدث وإنتهى الأمر، ولد المولود المنتظر لأن الله أراد ذلك، وها هو بين يدي أمه الحنون (أُمِّ مُوسى). لقد جاء الفرج أو صانع الفرج بإذن الله خارج دائرة التوقعات المستندة إلى ظواهر الأمور.
كيف حدث ذلك؟ الآيات لا تحدثنا كأنها تريد أن تقول إنه سر استُودِعَته هذه المرأة، صنعته يد القدرة الإلهية التي تتحكم بكل مفاصل الكون بالحب( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ). أحبته القابلة الموكلة بأمه، فإختارت أن تخفي خبره وتضيع على نفسها الجائزة المادية من النظام، كما سيحبه من بعد فرعون وامرأته. هكذا يجري الله الأمور بحيث تجري إلى ما يريد لا إلى ما يريد غيره.
بقي أن نشير إلى أمرين:
1- إن أحد أوجه الشبه بين موسى ومهدي هذه الأمة عليهما السلام هو أن آثار الحمل لم تظهر على أم موسى إلا قبل الولادة، ونفس الأمر حدث لنرجس عليها السلام. في تفسير علي بن إبراهيم: حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: لما حملت به أمه لم يظهر حملها الا عند وضعها له، وكان فرعون قد وكل بنساء بنى إسرائيل نساء من القبط يحفظوهن وذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران، يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لأقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، وفرق بين الرجال والنساء و حبس الرجال في المحابس، فلما وضعت أم موسى بموسى عليه السلام نظرت اليه وحزنت عليه وإغتمت وبكت، وقالت: تذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه، فقالت لأم موسى: مالك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه، وهو قول الله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي فأحبته القبطية الموكلة بها.
2- وردت الروايات الكثيرة في تطبيق قوله تعالى: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) ) على المهدي من آل محمد عليهم أفضل الصلاة والسلام. ففي رواية توضح المقصود من المستضعفين تقول: «هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزهم و يذل عدوهم» . وهذا كما يقول صاحب الميزان من باب الجري والانطباق ، أي إنهم المصداق الأجلى للمستضعفين والإمام المهدي هو آخر هؤلاء المستضعفين والذي ستعطى له الإمامة الوافرة بكل أبعادها الدينية والزمنية، وستكون له الوراثة العظمى والتمكين الأكبر في الأرض.
إذن موسى عليه السلام مخلص لقومه، بينما الإمام المهدي عليه السلام باعتباره آخر الأوصياء لخاتم الأنبياء الذي بعث رحمة للعالمين يكون مخلصا للبشرية كلها، فيظهره الله على الدين كله، ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.
الأستاذ بدر الشبيب/باحث إسلامي من السعودية
المصدر: mozn.net