السيد جعفر فضل الله
هذه هي الحلقة الأولى من سلسلة حلقات - نرجو من الله التوفيق لها - نشرع فيها بالبحث حول اليهود في القرآن الكريم، في محاولةٍ لاستكشاف الصورة التي صور فيها القرآن الكريم هذه الجماعة الدينية، والتي تعتبر اليوم إحدى الجماعات الأساسية في حركة الصراع السياسي العالمي، ولا سيما بعد أن أقاموا كيانهم السياسي على أرض فلسطين،و بعد أن هجروا أغلب أهلها، وإحتلوا أراضيها، وقد باتوا يشكلون مشكلة لمحيطهم العربي والإسلامي؛ بل للعالم كله.
نطرح ذلك من خلال القرآن الكريم؛ لأنه الكتاب المعصوم في مصدريته، وبالتالي، يمثل اللجوء إليه رجوعا إلى المصدر الصافي، كما أن من نافل القول إنه حيث يمثل الكتاب الخاتم، فإن التوجيهات التي يوجه إليها عقولنا لا ترتبط بالبُعد المعرفي فقط، ولا بسردٍ قصصي لأحداث التاريخ، وإنما للإشارة إلى ما يرتبط بحركة الرساليين في مستقبل الزمان والرسالة؛ وهو ما نلمسُهُ واقعا حيا على الأرض في عصرنا الذين نعيش فيه.
اليهود هم جزءٌ من أهل الكتاب، وهو المصطلح الذي عنون فيه القرآن بعض الجماعات الدينية التي لها كتابٌ سماوي تحديدا، وكتاب اليهود الذي أنزل على نبي الله موسى(ع) هو التوراة، وهو اليوم يقع ضمن قسمين من الإنجيل المتداول لدى المسيحيين، ويطلق عليه اسم "العهد القديم"، يسبق "العهد الجديد" وهو يضم الأناجيل المعروفة.
وقد ورد التعبير عن اليهود أيضا ضمن مصطلح "بني إسرائيل" الذي تكرر كثيرا في القرآن الكريم، حتى إن سورة سميت - في أحد إسمينِ لها - بسورة بني إسرائيل، وهي سورة الإسراء، بحسب التسمية المتداولة.
إضافة إلى اليهود، ثمة تعبير آخر ورد في الإشارة إليهم، وهو (الذين هادوا) كما في قوله تعالى: {إِن الذِين آمنُوا والذِين هادُوا والنصارى والصابِئِين من آمن بِاللهِ واليومِ الآخِرِ وعمِل صالِحا فلهُم أجرُهُم عِند ربهِم ولا خوفٌ عليهِم ولا هُم يحزنُون}[1].
ولا بد لنا في البداية من التعرض لأمرين:
الأول: بيان المراد من هذه التسميات، لإستيضاح ما إذا كان ثمة فرق دلالي فيما بينها.
الثاني: بعد معرفتنا بتكرر التعرض لليهود في القرآن الكريم، لا بد لنا من تحديد السبب الذي يمكن أن يقف خلف هذا الاهتمام، ولا سيما أن بعض الآيات توحي بالتفضيل على سائر الناس، وهي واحدة من إشكاليات ترتبط باليهود في نظرتهم إلى أنفسهم؛ فهل القرآن الكريم ينطلق من هذه النظرة أيضا، أم ماذا؟
مصطلح اليهود:
أما فيما يخص الأمر الأول، فقد ورد مصطلح اليهود في القرآن تسع مرات في ثماني آيات. ورد التعبير في سورة البقرة في آيتين، وفي آل عمران مرة، وفي المائدة في أربعة مواضع، وفي سورة التوبة.
ومن حيث الدلالة العامة، فقد ورد تعبير اليهود في مقابل الحديث عن النصارى في ست آيات، إلا في آية واحدة ورد فيها الحديث عن اليهود مستقلا، في إشارة إلى بعض اعتقاداتهم المسيئة لله تعالى في قولهم: {وقالتِ اليهُودُ يدُ اللهِ مغلُولةٌ غُلت أيدِيهِم ولُعِنُوا بِما قالُوا بل يداهُ مبسُوطتانِ يُنفِقُ كيف يشاءُ}[2]؛ وقد يوحي لنا هذا التكرار بأن لفظ اليهود يُراد به الإشارة إلى الجماعة الدينية في مقابل الجماعات الأخرى، وهذا هو الاستخدام المتوافق مع ما عليه الحال اليوم.
وليس بعيدا من ذلك، مصطلح (الذين هادوا)، الذي استُعمل في سياق الحديث عن الجماعات الدينية، كآية سورة البقرة أعلاه، وفي سياق الحديث عن بعض اعتقاداتهم وسلوكياتهم في عشر آياتٍ في القرآن الكريم، في البقرة، وفي النساء مرتين، وفي المائدة ثلاث مرات، وفي الأنعام والنحل والحج والجمعة.
أما الجذر المشترك فهو: (هود). يقول ابن فارس (في معجم مقاييس اللغة): الهاءُ والواوُ والدالُ: أصلٌ يدُل على إِروادٍ وسُكُونٍ. يقُولُون: [التهوِيدُ]: المشيُ الرويدُ. ويقُولُون: هود، إِذا نام. وهود الشرابُ نفس الشارِبِ، إِذا خثرت لهُ نفسُهُ. والهوادةُ: الحالُ تُرجى معها السلامةُ بين القومِ. والمُهاودةُ: المُوادعةُ. فأما اليهُودُ، فمِن هاد يهُودُ، إِذا تاب هودا. وسُموا بِهِ لِأنهُم تابُوا عن عِبادة العِجلِ. وفِي القُرآنِ: {إِنا هُدنا إِليك}[3]، وفِي التوبةِ هوادةُ حالٍ وسلامةٌ.
وهذا التعبير الذي أوردته الآية ١٥٦ من سورة الأعراف: {واكتُب لنا فِي هذِهِ الدنيا حسنة وفِي الآخِرةِ إِنا هُدنا إِليك قال عذابِي أُصِيبُ بِهِ من أشاءُ ورحمتِي وسِعت كُل شيءٍ فسأكتُبُها لِلذِين يتقُون ويُؤتُون الزكاة والذِين هُم بِآياتِنا يُؤمِنُون}، جاء في سياق الحديث عن التوبة من طلب قوم موسى(ع) رؤية الله، واختيار موسى(ع) سبعين رجلا لميقات الله، بل كأن التعبير وارد على لسان موسى(ع) في تعبيره عن ذلك الحال الذي وصل إليه قومه، وهو عبر بذلك من خلال كونه قائدا لهم، وتعبيرا عن حس المسؤولية في القيادة، ولم يرد على لسانهم جميعا، بما يوحيه جواب الله تعالى: {فسأكتُبُها للذين يتقون…}؛ والله أعلم وأحكم.
تعبير (بني إسرائيل):
أما إسرائيل، فهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام)، وفي هذا اتفاق المفسرين كما في تفسير الرازي. أما الكلمة فهي عبرية، وقيل إن معناه (عبد الله)؛ لأن "إسرا" في العبرية هو العبد، و"إيل" هو الله. وقيل إن "إسرا" بالعبرانية في معنى إنسان؛ فكأنه قيل: رجل الله، وبذلك يكون قوله تعالى: {يا بني إسرائيل} خطابا مع جماعة اليهود[4] الذين يرجعون في جذرهم إلى هذا النبي(ع)، بل إلى أبعد من ذلك بادعائهم أن إبراهيم كان يهوديا، إذا اعتبرنا الآية القرآنية {ما كان إِبراهِيمُ يهُودِيا ولا نصرانِيا ولكِن كان حنِيفا مُسلِما وما كان مِن المُشرِكِين}[5] إشارة إلى قولهم بذلك.
وقد اهتم القرآن الكريم بهذه الشخصية النبوية، أي يعقوب، وورد الحديث عنها في أكثر من موضع، ولا سيما في سورة يوسف. إلا أن الاهتمام بها يشير إلى كونها تمثل أيضا مرحلة تأسيسية في تاريخ النبوات، وخصوصا أن النبوة انتقلت معها أو بعدها من البدو إلى الحضر، كما وردت الإشارة إلى ذلك في سورة يوسف، حيث قال تعالى: {ورفع أبويهِ على العرشِ وخروا لهُ سُجدا وقال يا أبتِ هذا تأوِيلُ رُؤياي مِن قبلُ قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بِي إِذ أخرجنِي مِن السجنِ وجاء بِكُم مِن البدوِ مِن بعدِ أن نزغ الشيطانُ بينِي وبين إِخوتِي}[6]، ما يوحي بدخول النبوة مرحلة الاتساع والتأثير الأوسع من الناحية الفكرية والثقافية، إلى جانب التأثير السياسي الذي امتلك زمامه يوسف(ع) بعد أن أصبح عزيز مصر، وكذلك في الدور الذي مُنح لموسى(ع) في وراثة الحكم الفرعوني وقيادة بني إسرائيل، وكذلك لداود وسليمان (عليهما السلام).
من المهم جدا التوقف عند هذه النقطة بشيءٍ من التأمل، حيث إن القرآن الكريم استخدم كلا الاسمين لهذا النبي؛ إلا أنه لم يُستخدم اسم (إسرائيل) إلا مضافا إليه الأبناء، أي بنو إسرائيل، أما عندما أريد الإشارة إلى شخصه، فاستخدم الاسم العلم، أي يعقوب. ولعل في هذا إشارة إلى أن مرحلة (بني إسرائيل) تختلف عن مرحلة يعقوب(ع)، حيث إن مرحلتهم لا تشمل فقط الحركة الدينية، وإنما الحركة السياسية أيضا، وهو الجانب الذي يبدو أنه استمر مع اليهود إلى زمان النبي محمد(ص)، حيث أشار قوله تعالى: {ولما جاءهُم كِتابٌ مِن عِندِ اللهِ مُصدقٌ لِما معهُم وكانُوا مِن قبلُ يستفتِحُون على الذِين كفرُوا فلما جاءهُم ما عرفُوا كفرُوا بِهِ فلعنةُ اللهِ على الكافِرِين}[7]، حيث يبدو أنهم كانوا يتوقعون مجيء هذا النبي الذي سينصرهم على أعدائهم، وبالتالي، ستبقى لهم القيادة والسلطة الدينية وتتبعها السلطة السياسية، حيث إن كفرهم به ليس إلا لأنهم وجدوا أنه يقف ضد مصالحهم، ويسحب البساط من تحت أقدامهم. وهذا الارتباط بين اليهود والسياسة، يبدو أنه رافق مسيرتهم التاريخية في علاقتهم بالمسيحية، مرورا بتاريخ الدعوة الإسلامية، ووصولا إلى العصر الحديث.
وربما نضيف إلى ذلك، أن البُعد الهدايتي للقرآن الكريم، يطلق التسمية من أجل أن يثير في الأذهان البُعد الذي يختزنه الاسم للسامع؛ فمخاطبة اليهود ببني إسرائيل، كأنه يريد استثارة ما في نفوسهم، وهي أن الانتماء يختزن التطلع إلى ما يمثله الاسم الذي ينتمون إليه من معانٍ وقيمٍ قد يكون أحدها ما ورد في قول الله تعالى: {ووصى بِها إِبراهِيمُ بنِيهِ ويعقُوبُ يا بنِي إِن الله اصطفى لكُمُ الدين فلا تمُوتُن إِلا وأنتُم مُسلِمُون}[8]، وذلك لتكون حافزا للاتباع أو لإلقاء الحجة عليهم على الأقل.
ويخطر في البال هنا، أن القرآن الكريم ربما لم يستعمل مصطلح (بني إسرائيل) في مخاطبة اليهود المعاصرين للنبي(ص)، وإنما استخدمها في الإطلالة على مرحلة تاريخية مثلت تأسيسا للمراحل المتأخرة، وهي تشمل مرحلة موسى(ع) كما تشمل مرحلة عيسى(ع)، وعلى هذا، يكون مصطلح (بني إسرائيل) دالا على جماعة ممتدة اختبرت كثيرا من الأوضاع، وتطلبت معالجات رسالية نتوقف عندها عند تعرضنا لتاريخ اليهود في القرآن بإذن الله.
سبب اهتمام القرآن باليهود:
ولعل النقطة التي انتهينا إليها آنفا، يمكن أن تشكل بداية الإجابة عن سؤالنا الثاني، وهو: ما هو السر الذي يقف وراء اهتمام القرآن بذكر اليهود مقارنة بالنصارى؟ وذلك لأن الدور الذي اضطلع به اليهود في مواجهتهم للدعوة الإسلامية، بل أيضا لدعوة السيد المسيح(ع) قبل ذلك، تجعل الصراع معهم أمرا متحركا على أكثر من صعيد، وفي أكثر من مرحلة، ويتطلب معالجات واقعية عملية، وليس معالجات فكرية فقط.
يقول السيد فضل الله في تفسيره (من وحي القرآن) إن هناك ثلاثة أسباب تقف وراء هذا الاهتمام القرآني بهم:
أولها: "أن اليهود كانوا يمثلون القوة الدينية الكبرى المتحركة التي وقفت ضد الإسلام منذ انطلق كقوة في حياة الناس في المدينة. أما النصارى من أهل الكتاب، فلم يكن لهم دور كبير في مواجهة الإسلام من ناحية عملية، بل ربما كان لهم دور إيجابي في بداية عهد الدعوة، إذا لاحظنا هجرة المسلمين الأولين إلى الحبشة، واحتضان ملكها النجاشي المسيحي لهم، وانسجامه مع الآيات القرآنية التي تلاها المسلمون المهاجرون عليه في ما يتعلق بشأن المسيح وأمه، فلم يبق هناك إلا المشكلة الفكرية في موضوع فهمهم للتوحيد ولشخصية السيد المسيح وعلاقته بالله؛ فكانت مساحة الحوار بالمستوى الذي تمثله المشكلة الفكرية من خطورة.
وثانيا: إن المستقبل الذي سيتحرك فيه الواقع اليهودي، يمثل الخطر السياسي والاجتماعي والأمني والثقافي على واقع المسلمين، من خلال أطماعهم في الأرض الإسلامية من جهة، وفي الثروات الإسلامية من جهة أخرى، لأن طريقتهم في التفكير والحركة، سوف تؤدي إلى الكثير من المشاكل الصعبة للعالم الإسلامي؛ الأمر الذي يفرض على المسلمين التفكير في عناصر الشخصية اليهودية الاستعلائية وخططها العدوانية.
وأما ثالثا: فالتأكيد على المسلمين رفض موالاة اليهود بالمعنى الروحي والسياسي، واعتبار ذلك بمثابة ارتدادٍ عملي عن الإسلام، يوحي بتراخي الالتزام العقيدي الداخلي للمسلمين، بما من شأنه أن يؤسس لتمكين اليهود من إسقاطه في الواقع.. ثُم التركيز على تحذيرهم من الإتصاف بصفاتهم، كما في قوله تعالى: {وإِذ أخذنا مِيثاق بني إِسرائِيل لا تعبُدُون إِلا الله وبِالوالِدينِ إِحسانا وذِي القُربى واليتامى والمساكِينِ وقُولُوا للناس حُسنا وأقِيمُوا الصلوة وءاتُوا الزكوة ثُم توليتُم إِلا قلِيلا مِنكُم وأنتُم معرِضُون* وإِذ أخذنا مِيثاقكُم لا تسفِكُون دِمآءِكُم ولا تُخرِجُون أنفُسكُم من دِيارِكُم ثُم أقررتُم وأنتُم تشهدُون}[9]"[10].
أما مصطلح (أهل الكتاب) الذي يشملهم إلى جانب النصارى وغيرهم، كما في بعض الآيات، فنتوقف عنده في الحلقة القادمة بإذن الله؛ والله ولي التوفيق.
المصدر:مجلة الوحدة الإسلامية
الهوامش
[1] سورة البقرة:62.
[2] سورة المائدة: 64.
[3] سورة الأعراف: 156.
[4] الرازي، مفاتيح الغيب المعروف بتفسير الرازي، ج3، ص29.
[5] سورة آل عمران: 67.
[6] سورة يوسف: 100.
[7] سورة البقرة: 89.
[8] سورة البقرة: 132.
[9] سورة البقرة: 83-84.
[10] محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، ط2، ج2، ص9-10.