كتبتُ نصوصاً شعرية كثيرة في حب بيروت. أبقى أحبها وأكتب فيها على الرغم من اختلاف أطوارها إذ كان للشعر شأن بالأطوار. كل ما كتبته في بيروت وعنها يبقى صالحاً ومحض حب، وقلّما اهتّز الشعر حين يكتبُ في الحب.
عرفتُ عواصم كثيرة، عربية وغربية، ووقعت في غرام بعضها، لكنني لم أمنحها نفسي ولم أخن بيروت. ليس هذا من وفاء مطلق، ولكن لأن بيروت في أقسى أطوارها، تمنحني لاتزال بركة الشغف في معناه الذي أوسع من أيّ شغف، وأنني أواصل بعد، دهوراً (بمعنى ما) في الشغف الذي لا ينتهي.
كتبتُ في بيروت لأنها مدينتي، وكتبت في القاهرة التي أوقِن أنني ولدت وعشت فيها في حياة سابقة. كتبتُ في سوريا التي أحبّ، وفي باريس وأميركا وروما والدانمرك والسويد وإسبانيا والمغرب وتونس والجزائر وعُمان.. إلى بلاد أخرى. كتابتي في المدن لم تتعد ما يُشبه أدب الرحلات والعين الزائرة والنظرة السياحية المخلوطة بعاطفة ما، أو جمال ما، وأثر ما. عموماً كتبتُ في البلدان التي زرت. لم أزر اليمن فلم تتسنَ لي الكتابة عنها. لم أزرها.. منعتني عنها مشاغل ومواقيت على علاقة بعملي وبالصدف البحتة غير السارّة. لم أزرها وأجد أن نصوصي اليوم تغصّ بها، وأرى في النصوص حضوراً باهظاً، لليمن، لناس اليمن، لمن تبّقى من ناس اليمن، لأطفالها ولميتات تتنوّع ما بين جوع ومرض وسَحْل.
اليمن بلدٌ ليس في الليل ولا في النهار. لا في الحياة ولا في الموت. ما الذي يجعل العالم بأكمله يسكت عن حاضر اليمن المعلّقة حيتة ميتة، ناسها أرواحاً وأجساداً بالية كما لو خيالات على جدار الدنيا. كتبت سابقاً عن أطفال اليمن بميتاتهم الجحيمية وأكتب كل يوم عن اليمن لأنني لا أمتلك سوى كتابتي، ولأن كل يوم مجزرة وما مَن ينبس أو يُشير. المجازر اليومية ليست تماماً نهاية قائمة بنفسها، إنها متعلّقة ببعضها، فهي على شاشات التلفزة أقرب إلى صور متحركة، متسارعة عن بلد يموت.
لم تحمل نصوصي أو كتابتي عن البلدان التي زرت أو مكثت فيها لمُدد تتراوح بين القصر والطول، سوى التهليل للحياة والغوى والصداقة والسحر، وغفلتُ قصداً ما يوجعُ أو يُسيء، فلم يكن الموتُ رفيقاً أو زائراً دائماً.
الألم الذي تحملهُ نصوصي عن اليمن التي لم أزر، كما لو جمّعتُهُ من أعمار كثيرة وأسفار ومدن كثيرة وخبّأتهُ جيداً ليحتفي بهذا الموت الكثير.
على الشاشة، ثمة خيال مدينة أنهكتها الصواريخ، مدينة تسقط عن أكتافها الأشباح المُخيفة، أو تسقط عليها، أو تُحلّق فوقها.
الكاميرا تنقل بورتريه مطموسة بأرض مفلوحة بناسها المُتشّظين هنا وهناك. في الحفر أسمال فحسب إذ لم يبق من الأجساد ما يشهد، في الحفر حيث لا ينظر أحد، أو حيث نسترّق النظر إلى حياة واطئة مضت كانت تدبّ برعب على الأرض الرمادية.
تبّث الشاشات كل ليلة، كل ليلة حرفياً، مشاهد دامية تهرب من أيدي الرب وتتسرّب في قاع الجحيم. حربٌ لمجرّد الحرب، حرب للقتل بلا إسم ولا غَرَض. حربٌ تتفنّن في إبادة الأطفال، وتقتل بخيلاء مجنونة أيّ تجمّع تحت عناوين الأفراح والأتراح.
حين كتبت في القاهرة، نصوصي عن القاهرة أعني، حضرت العاطفة وذلك النوع من السلام المُعطّر، حضر الحسين وحضرت روح المدينة وعبقها وعلاقتي الوطيدة بناسها. في باريس عبقت النصوص بالجادات الفارعة والمقاهي الرهيفة وغرامي باللون الرمادي الذي ينذر بالمطر، وحضر ال" بونبون والشوكولا والورد". في روما غلبتني العاطفة وكتبتُ في العاطفة التي غلبتني. وفي إسبانيا حضر السحر وحضر الحب الخفيف وحضر الناس الذين يُشبهوننا بمشادّاتهم وأصواتهم العالية وموائدهم وصباحاتهم المُبهجة ولياليهم الموّقعة بالأقدام والأجساد الرشيقة.
نصوصي في سوريا لأنها منّي ولأنها حبيبتي ولأنها سوريا، وفي المغرب وتونس والجزائر كانت مشاهدات عينية لبعض عالمنا الجميل ولأبهة العيش وللناس القريبة قرب الحب.
لم أزر اليمن، كيف أسبغ عليها نصوصاً ليست لها ولم أكن في قلبها. الصواريخ ما دلنّي عليها، الصورة على الشاشة ما يجمعني بها الآن، وهي صورة سوداء جداً، صورة لئيمة لا تسمح لي بالتلصّص على اليمن قبل أكبر مجزرة في تاريخ البشرية.
ماذا تقول في اليمن بعيداً عن الجحيم ال"دانتي" الفظيع؟ كيف تُحيّد الأطفال عن النصوص، تُحيّدها عن الدم، كيف تزيح سطورك عن عيونهم المتحجّرة الغائمة، والواسعة وسع الكتابة كلها؟ كيف نكتب في مدينة يمنية تحتضر؟ مشطور يمني لايحمل شارة التكتل والتراتب اللتين توسم بهما عادة الإيحاءات المدينية، فهي نحيلة ورقيقة ومُعتلّة وسوداء أيضاً. اليمن كلها، بفضل سواعد الصواريخ الحاقدة، حائط مُتعبٌ مُتّكىء على أرض مُتعَبة. أطياف مدن ليس لها سوى واجهات حزينة لايسندها العالم. تتكرّر المشاهد على التلفزة كل ليلة، من دون نيّة التكرار، سوى أنها الحقيقة التي لا مناص من عرضها.
ولا صورة يمنية ترسم انزياحاً ولو بسيطاً عن الموت. كل مشهد رُسم وحدهُ وإن بفكرة الفناء نفسها. صنعاء، تعز، صعدة... الغيوم اللولبية، والدوامات الفضائية. أكثر من ألف يوم من القتل، وأكثر من ألف ليلة أمام الشاشة، أبكي من دون صوت، والعالم من دون صوت!
ألف يوم من النظر إلى الموت في وجهه، ثم نصوصي في فلتان الحروف، في الفضاء وفي السقوط إلى الفضاء، وفي الأطفال في طريقهم إلى الفضاء. المُخيّلة هي مُخيّلة الفضاء والسباحة في فضاء غير محدود.
أشعر وأنا أرى إلى اليمن كل ليلة أنها بلد لا تندمج مع باقي بلدان الأرض، بل تبقى وحدها على نحو الموت الكثير الذي يقطنها. إنها أشبه بالذكريات بالأسود والأبيض، لاتمتلك مقالة صحافية أن تتبّع مجرياتها، لكن الصلة بينك وبينها هي ميزانها الدامي الذي لا يختّل أبداً.
الموت يغدو مفردة، والدم يمتلك دلالة خاصة عما آل إليه العالم اليوم. واليمن بهذا المعنى، اليمن كبلد، لا يندرج في غائية الكتابة، بل يصبح مصيراً شخصياً، وصلة بين أحوال الوحشية وبين المُستضعفين.
بقلم:عناية جابر
المصدر: الميادين