الشيخ حسين شمس الدين**
قيمة “العلم” تعتبر من أهم القيم في أي مجتمع ساع للتكامل والرقي نحو الأهداف العليا التي تحقق سعادته، فالقدرة التي بها يتحرر المجتمع من التبعية لأي قطب عالمي لا يمكن تحصيله إلا بالعلم والإبداع العلمي.
ثم إن العلم الناظر إلى الواقع الاجتماعي، والذي يملك الحلول الدقيقة لكل الثغرات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية وغيرها، يجب أن تتكون له بيئة حيوية تثار فيها جميع القراءات للواقع لتنمو فيها الرؤى الحقة التي تكون أرضًا صلبة للبحوث العلمية، وهذه البيئة الحيوية هي: الجامعة.
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: تمثل الجامعه مركزًا مهمًا يعكس الجو الفكري السائد، والتوجه العام للمجتمع.
ويقول – دام ظله – في كلمة أخرى: أن الجامعه تمثل لأي بلد في الواقع كل شيء. والطالب الجامعي هو ضمانة مستقبل أي مجتمع، ويمكننا أن نستشرف مستقبل المجتمع من خلال طلاب اليوم.
فالجامعه هي الأرض الخصبة التي تنبت فيها ألوان الأطعمة والأشربة المعنوية والعلمية، ويجد العلماء فيها أنسًا وفضاءً للتحليق والتغريد في أجوائها وأرجائها. ولكن كما حال بساتين المعرفة، لا بد للزارع والساقي أن يراعي بيئته كيلا يقع في فخ المناخ والمواسم، بل يصطاد ظروف مجتمعه وحال واقعه، فتنكشف أمامه الحاجات المعرفية المطلوبة.
ثم إن الزرع الجاد، والمناخ الملائم، لا يحولان دون احتراق البستان الزاهر بنيران الفتن التي قد توقد في قلوب هؤلاء الزراع.
لذا لا بد للطالب الجامعي أن يعرف مسؤولياته بناءً على أن الجامعة هي البستان المعرفي للمجتمع: فيزرع، ويعرف المناخ الملائم، ويحفظها من نيران الفتن. وهذه الثلاثة هي: التحصيل العلمي، الوعي السياسي، والتمسك بالأخلاق الإسلامية. يقول الإمام الخامنئي دام ظله في إطار ذكر مسؤوليات الطالب الجامعي: “المسألة الأولى هي تحصيل العلم، والمسألة الثانية هي تحصيل الإيمان الديني، والتعبد، والتمسك بالأخلاق الإسلامية وتزكية النفس. أما المسألة الثالثة فهي الوعي السياسي.
التحصيل العلمي
يقول الإمام القائد دام حفظه: “إذا لم نمتلك الطاقات الفاعلة والسليمة، والتي يمكن الاعتماد عليها، فإن الثورة ستقف في منتصف الطريق. ولا ينبغي أن نشك في هذا الأمر بتاتًا. ومن أين نحصل على هذه الطاقات؟ لا شك أن ذلك يكون من خلال الجامعه”. لاكتشاف مسؤولياتنا في أي مجال من المجالات، لا بد وأن نبقي الهدف الأسمى لحراكنا الاجتماعي نصب أعيننا، والذي يتمثل في بلوغ المجتمع كماله المعنوي ويسير على جادة الفضائل والتقرب إلى الله، ومن هنا نسأل كيف تساهم الجامعه في تحقيق هذا الهدف الأسمى؟
في الحديث “العلم سلطان من أخذه صال به ومن تركه صيل عليه”، فالعلم هو وسيلة القدرة، والقدرة هي المقدمة الأساسية لتحقيق الاستقلال عن التبعية – الاقتصادية وغيرها – للشرق والغرب، ومع الاستقلال عنهما يسهل لأي مجتمع تبني الثقافة التي تحقق هدفه.
من هنا يتضح لنا موقع الجد والمثابرة في التحصيل الجامعي، وموقعه في مسير تحقيق هدف الخلقة المتمثل في وصول الخلق الى قربه تعالى. يقول الإمام القائد حفظه الله: “إن ما يبعث على القلق هو أن تستهين قوانا المؤمنة بقيمة العمل العلمي في هذا البلد… ولو حصل هذا الأمر فإننا سنُهزم في سائر الجبهات”.
تهذيب النفس
يقول الإمام القائد دام حفظه: “يجب على الطالب الجامعي أن يعتبر نفسه ملزمًا بنوعين من الإعداد والبناء في الجامعة، وهما: البناء العلمي، والإعداد الأخلاقي”.
الطالب الجامعي الذي يرى عمله العلمي مقدمة ضرورية لسيادة القيم الأخلاقية في المجتمع، لا بد وأن ينطلق من إيمان عميق بهذه القيم والفضائل، إذ الريادة في سبيل تحقيق أي غاية تحمل في صميمها ضرورة الإيمان السابق بمقومات وأركان الهدف. بل يمكننا القول، إن حمل راية العلم وبلوغ هدفه لا يتيسر لمن لا إيمان له، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: “لا يحمل هذا العلَم – قاصدًا رايته عليه السلام – إلا أهل الصبْر والبصر”، والصبر هو من أهم أركان البناء الأخلاقي للفرد المسلم كما ورد في الحديث “الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد”، فيكون الإيمان وتمثّل القيم الأخلاقية في الجامعي من أهم مقومات التأهل لحمل راية العلم.
الوعي السياسي
يقول الإمام القائد دام حفظه: “إذا كنتم تمتلكون قدرة التحليل السياسي، فإنكم إذا نظرتم إلى قضايا مجتمعكم، ستفهمونها، وتتعرفون على الأحداث والتوجهات والغايات والشخصيات، وتستشرفون المستقبل وتدركون تكليفكم. كذلك إذا نظرتم إلى القضايا العالمية والوقائع والتحركات”.
الإسلام هو الخطة الإلهية التي تتكفل بإيصال العالم بما فيه إلى أوج الكمال والسعادة، وطريق الوصول – وصول العالم كله – لا يكون إلا في السير الجماعي لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يمكن فصله عن الروابط مع أبناء جنسه بل هي الحضن الذي يسيّره كيف يشاء.
ومن هنا يتضح أن الإسلام دين سياسي عالمي له هدفه البعيد وأهدافه القريبة، والذي يظفر من المسلمين هو الذي يعجّل مسيرة التكامل عبر اكتشاف الحاجات التي تعرض قافلة المجتمعات فيرى سدّ تلك الحاجة تكليفه ليتقدم بالمجتمع نحو هدفه الأسمى، والذي يصل لتلك الرؤية هو المطّلع على واقعه والعارف بزمانه وخطط أعدائه، وهذه هي أهم مسؤوليات طالب الجامعة دون غيره، لأن بيده أهم وسائل الحراك الإجتماعي وهو العلم. يقول القائد دام حفظه: ” كثيرون كانوا علماءً ولكنهم لم يعرفوا أين يضعون علمهم وشهرتهم التي وصلوا إليها”.
تحريراً لما سبق، وتمهيدًا لما سيأتي: إن الجامعه باعتبارها مركزًا علميًا قيميًا، تشكل حلقة أساسية من حلقات تكامل المجتمع للوصول إلى الهدف المرجو لها.
نعم، للمجتمعات هدف تحصل سعادتها بالوصول إليه، وهذا الهدف يشكّل البُعد المعنوي والروحي فيه الجانب الأهم، وللوصل إلى هذا البُعد لا بد من الخروج من الرق والعبودية للتوجهات الدنيوية، ويحصل هذا بالتحرر من سلطة عبدة الدنيا والاستقلال عنهم. والخطوة الأولى لتحقيق الاستقلال تكون بالاعتماد على العلم الذي يسري على يدي الطاقات المؤمنة والفاعلة في الجامعات.
وعليه، فإن الجامعي هو الذي يغذي المجتمع بالامكانات تمهيدًا للاستقلال المطلق والمقدِّم لتفتح التوجهات المعنوية لأفراد الشعب. من الشواهد على ذلك، قول القائد حفظه الله: “إن الجامعة تمثل محور قضية مهمة، وأنني أعتقد بشكل عميق بأهميتها، فإذا لم يكن عندنا اليوم جامعة، فلن يكون لدينا شيء غدًا”، “إن الجامعه هي الموقع الأساسي لأي مجتمع أو دولة، فإذا صلحت الجامعة فإن مستقبل ذلك المجتمع سيكون صالحًا”،
“عقيدتي هي أن إحدى الميزانيات الأساسية والفائقة الأهمية للدولة هي التي تصرف على مراكز العلم والتحقيق”.
لعل الذي مرّ يورث ظنًا أن الكلام متوجه من القائد حفظه الله إلى فئات الشعب الإيراني حيث بدأ الشعب مسيره نحو الهدف الأسمى، ولذا مست الحاجة إلى التوجيه. يقول القائد دام حفظه: “الجامعة هي مركز تقدّم المجتمع، وهذا هو شأنها في كل بلدان العالم، والجامعة هي أحد المراكز التي تعكس الحركة الفكرية الموجودة في المجتمع”.
إن الجامعه هي المركز الذي يرفد المجتمع بالقيم والحاجات الفكرية، ذلك لأن لكل مجتمع حاجة قيمية تختلف عن غيره بحسب قربه وبعده عن الهدف الأقصى.
لذا فإن ترسيخ وفهم الخطة الإلهية القيمية – من البداية وحتى النهاية مرورًا بالمحطات المختلفة – هي من أول المعارف التي على الطالب الجامعي السعي لتحصيلها، في أي مجتمع كان، وبعد معرفة الخطة وإدراكه لواقعه، وإخلاصه في السعي لتحقيقها، سيضيء الطريق – من الخطوة الأولى فصاعدًا – أمامه ليعرف وظيفته إن شاء الله تعالى.
**باحث و كاتب إسلامي لبناني