الشيخ حسين الخشن
عندما نتحدث عن بناء المقامات والمزارات فوق أضرحة الشخصيات الدينية والرموز التاريخية، فإن السؤال البديهي الذي يواجهنا هو: كيف نثبت صدقية المراقد المبنية أو التي يُراد بناؤها؟ وما هي مصادر الإثبات المعتمدة التي تخولنا البت- إثباتاً أو نفياً- في انتساب القبور إلى أصحابها، مقدمة لبناء المشاهد عليها؟
المصادر المعتبرة
فيما يلي نتحدث عن مصادر الإثبات المعتبرة، والتي قد تتفاوت في درجة إثباتها واعتبارها، ثم نتطرق لاحقاً إلى المصادر غير المعتبرة على هذا الصعيد:
أولاً: الشهرة والسيرة
تعد الشهرة المستمرة والمتواصلة، وكذا السيرة العملية المتلقاة يداً بيد عن الأجيال السابقة وصولاً إلى زمان صاحب القبر أو المقام من المصادر المهمة لإثبات صدقية المراقد، وكل من الشهرة والسيرة تمثلان طريقاً معتبراً عند عامة العقلاء، وتوجب الاطمئنان بصدقية المقام أو انتساب القبر إلى صاحبه[1]، وأما إذا كانت هذه الشهرة متأخرة وغير متلقاة يداً بيد ولا متوارثة جيلاً بعد جيل وصولاً إلى زمان دفن صاحب الضريح، فلن يكون لها اعتبار في إثبات شيئ أو نفيه، فكم من أمر اشتُهر عند المتأخرين دون أن يكون له أساس تاريخي، كما سنرى بعض الأمثلة على ذلك.
وهكذا لا يعتنى بالشهرة فيما لو كانت موضعية ومحدودة ولا تؤيدها الشواهد التاريخية أو غيرها.
وما ذكرناه في شأن الشهرة وشروط الاعتماد عليها في إثبات صحة المراقد نقوله بحذافيره في شأن الذاكرة الشعبية والتي قد يتمسك بها البعض في هذا المجال، فإن الذاكرة الشعبية- فضلاً عن أنها ليست أمراً مغايراً للشهرة- لا يمكن اعتبارها مصدر إثبات فيما نحن فيه إلا مع اتساعها وامتدادها
التاريخي الذي تؤيده القرائن المختلفة، بحيث يحصل الاطمئنان بعدم كونها ذاكرة مستجدة أو وليدة بعض الاعتبارات العاطفية، أو "الاعتقادات" الشعبية التي هي أقرب إلى الأوهام منها إلى الحقائق، وقد علمتنا الخبرة المتواضعة في هذا المجال والمستفادة من خلال المتابعة لمسألة بناء المقامات
أن العاطفة أو العصبية أو الأحلام والمنامات أو غيرها من الاعتبارات غير الصحيحة تلعب دوراً كبيراً في تشكل الذاكرة الشعبية لدى الكثير من الناس في شأن المقامات الدينية، أو غيرها.
ثانياً: الشهادات الموثوقة
والمصدر الثاني الذي يمكن اعتماده في المقام هو الشهادات الموثوقة، ولا سيما شهادات العلماء، من المؤرخين كانوا أو الجغرافيين أو الرحالة أو الفقهاء أو غيرهم ممن عاصروا صاحب المرقد وعاينوا دفنه، أو نقلوا ذلك عن الثقاة، أو شهدوا بشهرة ذلك في زمانهم شهرةً ممتدة إلى زمن صاحب الضريح.
ويندرج في هذا السياق شهادات أبناء أو أحفاد صاحب القبر أو المقام الموثوقين، فهم بحسب العادة أدرى بذلك من غيرهم، ومن هنا فإن المسلمين اعتمدوا على شهادة أبناء أمير المؤمنين(ع) علي بن أبي طالب(ع) وأحفاده في تحديد موضع قبره(ع) في النجف الأشرف، لأن قبره- كما هو معروف- قد أُخفي في بداية الأمر، خوفاً من أن يتم انتهاكه من قبل بعض صغار النفوس من الخوارج[2]أو سواهم، أو لاعتبارات أخرى، ثم تم تعيينه لاحقاً من قبل أبنائه وأحفاده، وفيهم الأئمة من أهل البيت(ع) الذين توجب شهادتهم القطع واليقين[3].
ثالثاً: الاستناد إلى علماء الآثار والطب
ومن القرائن المهمة التي تنفع في المقام وإن لم تشكل أدلة حاسمة: المعطيات الحسية التي يتوصل إليها علماء الآثار من خلال الدراسات الميدانية، وقراءة شواهد القبور، ومعرفة نوعية الخطوط المكتوبة عليها، ما يسمح بتقدير المرحلة الزمنية التي كُتبت فيها الأسماء ونُقشت فيها الخطوط أو الزخارف.
ومن جملة القرائن النافعة في المقام أيضاً: ما يقدمه علم التشريح الطبي، حيث أنه لو تم نبش القبر لسبب أو لآخر– مع العلم أن النبش محرم بالعنوان الأولي، لما فيه من هتكٍ لحرمة الميت- فإن العالم والطبيب المختص يستطيع أن يوضح لنا الكثير من الغموض بشأن صاحب الجثة ويفك بعض الألغاز فيما يتصل بعمر الميت وجنسه ومرحلته الزمنية وسبب موته..
وطبيعي أن شواهد القبور والكتابات الموجودة عليها إنما تُعد من القرائن الإثباتية الجيدة إذا تم – كما قلنا- التوثق من الكتابة بواسطة أهل الاختصاص وساعدت القرائن الأخرى على ذلك، إذ كثيراً ما يحصل التشابه بين الأسماء، فتُنسب القبور إلى غير أصحابها، كما حصل ذلك– في رأي البعض- في المقام المنسوب إلى الإمام علي(ع) في مدينة مزار شريف التابعة لدولة أفغانستان حالياً[4].
وربما يندفع بعض الناس من غير ذوي المعرفة والاختصاص إلى إضافة أسماء جديدة على شواهد القبور عند تجديد بنائها، فيقع الالتباس وينشأ الإشكال، كما حصل ذلك في مشهد رؤوس بعض شهداء كربلاء المدفونة في مدينة دمشق، كما يقول السيد محسن الأمين رحمه الله[5].
المصادر غير المعتبرة
في مقابل المصادر المعتبرة المتقدمة، فإن ثمة مصادر غير معتبرة ولا يمكن التعويل عليها في إثبات صدقية المقامات أو تصحيح نسبة القبور إلى أصحابها، وإليك أهم هذه المصادر:
أولاً: المنامات
وتأتي الأحلام والمنامات على رأس هذه المصادر، فإن المنامات ليست حُجة شرعاً في إثبات شيء أو نفيه، ولا سيما في مثل هذه القضايا التي يترتب عليها بعض الأحكام الشرعية والأعمال العبادية، ولكن الواقع أنه قد تم بناء بعض المشاهد على أساس المنامات، يذكر ياقوت الحموي في معجم
البلدان أن في حلب "عند باب الجنان مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه رؤي في النوم"، ثم يذكر قبر المحسن بن الحسين الذي يقال أنه سقط، أو طفل صغير مات ودفن في حلب لما جيء بالسبي من العراق إلى دمشق، ويضيف: "وبالقرب منه مشهد مليح العمارة تعصب الحلبيون وبنوه أحكم بناء وأنفقوا عليه أموالاً يزعمون أنهم رأوا علياً رضي الله عنه في المنام في ذلك المكان"[6].
ومن المرجح أن لا يكون هدف الذين أشادوا البناء حيث تُرى بعض الشخصيات الدينية في المنام هو بناء مقام يضم مرقداً أو ضريحاً، وإنما الهدف منه بادئ الأمر هو تشييد صرح تذكاري يُنوه فيه باسم تلك الشخصية على غرار الحسينيات المنتشرة في بلدان المسلمين الشيعة، لكنه ومع مرور الزمن قد يندفع البعض إلى بناء ضريح داخل ذلك المشهد، ثم تؤمه الناس للزيارة جهلاً منها بحقيقة الحال واعتقاداً منها أن تلك الشخصية مدفونة فيه.
وفي كل الأحوال لا يصح أن يُعتمد في بناء المشاهد والمراقد على المنامات، هذا لو كانت صادقة، فكيف إذا كانت كاذبة مفتعلة لبعض الأغراض الرخيصة، كما حصل- أيضاً- في منطقة بلخ المشار إليها سابقاً، فقد نُقل عن كتاب "تاريخ حبيب السير" أن بعض الناس ادعوا "منامات كاذبة لتشخيص بعض النقاط وزعموا أنها تضم قبور الأنبياء أو الأولياء"[7].
ثانياً: حصول الكرامات
والمصدر الآخر الذي لا يمكن التعويل عليه في إثبات صحة المراقد هو حصول الكرامات فيها، من شفاء مريض أو عليل أو استجابة دعاء أو قضاء حاجة، أو ما إلى ذلك، فإنه ومع إيماننا بالكرامة، كتعبير عن لطف الله ببعض عباده الذين يتوجهون إليه بإخلاص وصدق نية، متوسلين إليه تعالى ببعض أسمائه أو أنبيائه، أو أوليائه، وهذا الإيمان لا يتنافى مع قانون السببية، لأن الله تعالى هو خالق القوانين ومسبب الأسباب، وقد يلطُف ببعض عباده ويستجيب دعاءهم ومأمولهم ولو من خارج القوانين المألوفة لهم، ولا سيما أن في ذلك إظهاراً لقدرته تعالى وإلفاتاً إلى مكانة أوليائه وإيقاظاً لفطرة الإيمان به التي فطر العباد عليها، والتي قد تغيب أو تضيع في خضم العلائق الدنيوية والأُلفة مع الأسباب الطبيعية، فتحتاج إلى ما يوقظها من ابتلاء هنا أو كرامة هناك.. إنه ومع إيماننا بهذا، فإننا لا نعتقد أن الكرامة التي تحصل في مقام معين هي دليل حاسم على صدقيته أو صحة انتسابه إلى أصحابه.
والسبب في رفضنا الاعتماد على الكرامات في المقام ليس فقط هو حصول المبالغات أو الأوهام بشأن بعض الكرامات، وربما الأكاذيب التي تكثر حتى في المقامات الثابتة النسبة إلى أصحابها[8] فضلاً عن المقامات التي يراد إثباتها بواسطة الكرامة، وإنما السبب هو أن حصول الكرامة حتى لو تم التوثق منها ومن حدوثها في مقام مشكوك النسبة إلى شخصية معينة، فإن ذلك لا يمثل دليلاً على صحة النسبة، ولا يعتبر شاهداً على أن صاحب هذا المقام هو شخصية دينية تحظى بالاحترام والتقدير، إذ لا ملازمة بين الأمرين، فاستجابة الدعاء وقضاء الحاجة في مثل هذا المقام الملتبس قد تكون ناشئة عن استجابة الله دعاء عبده المؤمن الذي توجه إليه بقلب مخلص ونية صادقة، طالباً منه تعالى أن يقضيَ حاجته، أرأيت لو أن شخصاً مؤمناً من عامة الناس دخل إلى "مزار شريف" حيث الضريح المنسوب إلى أمير المؤمنين(ع) ودعا الله مخلصاً أن يشافيه بحق علي (ع)، وبالفعل شافاه الله وقضى حاجته أفيكون ذلك دليلاً على أن هذا الضريح هو واقعاً لأمير المؤمنين(ع)؟! بالطبع لا. وقد حصل ذلك بالفعل، فإن بعض الباحثين يذكر أنه وبعد انكشاف هذا الضريح وظهور صخرة بيضاء منقوش عليها "هذا قبر أسد الله أخي الرسول علي ولي الله" شاع الخبر في الأطراف والبلدان وقصد المكان المؤمنون من الناس وذوو الحاجات وسعوا في طلب حاجاتهم فعُوفي كثير ورجعوا مقضيي المرام"[9]! أفهل تكون هذه الكرامات على فرض صحتها دليلاً على دفن أمير المؤمنين(ع) في مزار شريف؟!
وثمة سبب آخر للتوقف في الاعتماد على الكرامة في إثبات صدقية المقام، وهو أن الكرامة لا يصح اعتمادها دليلاً على حقانية المعتقد إلا في ظروف وشروط خاصة، كما ذُكر في باب المعجزة من علم الكلام، فكيف يمكن اعتمادها لإثبات مصداقية المقام وأن صاحبه شخصية ذات اعتبار وتقدير؟! والسر في ذلك أن خوارق العادة قد تتحقق حتى في معابد الوثنية والمشركين، مما يمكن تفسيره: إما باعتباره نوعاً من الاستدراج أو الإملاء الإلهي، قال سبحانه: {سَنَستَدرِجُهُم من حَيثُ لاَ يَعلَمُونَ}[الأعراف: 182]، وقال تعالى: {وَلاَ يَحسَبَن الذِينَ كَفَرُوا أَنمَا نُملِي لَهُم خَيرٌ لأَنفُسِهِم إِنمَا نُملِي لَهُم لِيَزدَادُوا إِثماً وَلَهمُ عَذَابٌ مهِينٌ}[آل عمران: 178]، أو لاعتماد هذه الخوارق على بعض الأسرار الخفية التي يتساوى فيها المسلم والكافر، يقول العلامة التنكابني: "إن خوارق العادات تصدر من المحق والمبطل فلا يجب إنكار ذلك من جماعة الصوفية خذلهم الله، ولا يجوز أن يُجعل ذلك دليلاً على حقانية مذهبهم، بل قد ينال بعض الأشقياء هذه المرتبة من باب الاستدراج... فالفريقان من أهل الكفر والطغيان وأهل الإيمان واليقين يمكن أن يبلغا هذه الرتبة على حسب الاستعداد والمصالح الكاملة، كما نلحظ ذلك في بعض أهالي الهند وما يقومون به من الرياضات المختلفة في بيوت الأوثان، مثل أن يقف بعضهم لحاجة في بيت صنم ويرفع قدمه ويضع في كفه قمحاً أو حبوباً أخرى مع تراب وماء ويبقى كذلك عدة أشهر حتى تصير الحبة خضراً، ثم يقوم بالأمر الذي أراده.. فبمجرد ظهور خارق العادة لا يجوز الحكم بحقانية صاحبه.."[10] .
ومن خلال ما تقدم يتضح أن مجرد العثور لدى نبش قبر معين على جسد إنسان لا يزال طرياً ومتماسكاً مع كون هذا القبر قديماً جداً وقد مرت عليه عدة عقود أو قرون لا يدل دلالة قطعية على أن صاحبه ولي من الأولياء الصالحين أو الأنبياء والمعصومين، فإن بقاء الجسد على حاله لسنين أو عقود متطاولة يمكن إعطاؤه تفسيراً علمياً، كأن يكون محنطاً بمادة حافظة، أو تكون طريقة الدفن وطبيعة المكان والمُناخ العام يساعد على بقائه كذلك، ولو فرض أنه لم يتسن إعطاؤه تفسيراً علمياً، فهو لا يعني بالضرورة أن صاحب هذه الجثة شخصية مقدسة، إذ "ربما كانت المصلحة تتجاوزه إلى الواقع العام الذي يريد الله أن يُظهر فيه بعض ألطافه لتأكيد الإيمان به تعالى بشكل عام"[11]، وهذا ما يفسر ظهور مثل هذه "الكرامات" عند قبور غير المسلمين وبقاء بعض أجساد موتاهم على حالها لزمن طويل وسنين متمادية، نعم لو أن صاحب القبر كان شخصاً معروفاً بورعٍ أو زهدٍ أو كان ولياً من الأولياء أو نبياً من الأنبياء وانكشف قبره وبان أن جسده لا يزال كهيئة دفنه، فهذا لا يبعد تفسيره على أنه لطف إلهي وكرامة لهذا النبي أو الولي[12].
ثالثاً: الكشف والشهود
والمصدر الثالث الذي لا يمكن التعويل عليه في بناء المقامات الدينية هو الكشف أو الشهود الذي يحصل لبعض العرفاء أو الصوفية، والسر في ذلك هو عدم حُجية الكشف في إثبات هذه الأمور، كما أنه ليس حُجة في إثبات المعتقدات ولا الأحكام الشرعية[13]. ومع ذلك فقد عول بعض الصوفية على كشف الشيخ علي المجذوب في إثبات أن زينب بنت علي (ع) قد دُفنت في مصر[14]، كما اعتمدوا على كشف الشيخ المذكور للقول بأن سكينة أخت الحسين (ع) مدفونة أيضاً بمصر[15]، هذا مع العلم أن سكينة هذه لم يثبت وجودها أصلاً في نظر بعض العلماء.
وينقل السيد حسن الصدر أن السيد مهدي القزويني كوشف من قبل صاحب الزمان (عج) في شأن قبر "حمزة بن القاسم بن حمزة بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب أبو يعلى، الثقة الجليل، قبره في الجزيرة في جنوب الحلة بين دجلة والفرات، له مزار معروف، كانت الأعراب تقول: إنه قبر حمزة بن الكاظم وهو غلط".[16]
رابعاً: بناء المقامات وحسن الظن بالمسلمين
وقد يتصور البعض أن بناء المقام من قبل المسلمين هو بنفسه شاهد على صدقية هذا المقام وصحة انتسابه إلى صاحبه، وأن حسن الظن بالمسلمين السابقين يقتضي أن لا نعيد فتح البحث والنقاش في مثل هذه المقامات. ونلاحظ على ذلك، أن نفس بناء المقام وبصرف النظر عمن بناه؟ ومتى؟ وكيف؟ ليس دليلاً على صحة المقام واعتباره، فلا بد أن نلاحظ ظروف بنائه ومدى امتداده التاريخي وتلقي المسلمين له بالقبول أو قيام القرائن والشواهد على صحته ومصداقيته. أما مجرد حسن الظن بالعامة من المسلمين الذين يزورون المقام مع عدم توفر الشواهد المشار إليها، فهو لا يصلح قرينة إثباتية لا في هذا المجال ولا في غيره من المجالات، لأن حُسن الظن بالمسلم وحمل فعله على الصحة معناه أنه وعند دوران فعل المسلم بين الصحة والفساد، فإنه يُبنى على الصحة، فلو صدر منه عقدُ زواجٍ أو بيعٍ وشُك في صحته، يبني على الصحة، وهكذا الحال عند دوران أقواله وأفعاله بين الجائز والمحرم، فعلينا أن نستبعد احتمال الحرام ولا نرتب آثاره، فلو رأيناه يشرب مائعاً تردد أمره بين الخمر أو الماء، فحُسن الظن به، يعني أن نستبعد عنه شرب الخمر، وبالتالي لا يمكننا أن نحكم بسقوط عدالته، ولكن حُسن الظن بالمسلم لا يعني أبداً أن كل ما فكر به فهو صحيح، وأن كل ما اعتقده فهو حق، أو أن ممارساته وأفعاله تمثل حُجة شرعية على الآخرين، فهذا لا مجال له إلا إذا كان المسلم معصوماً، كما أن حُسنُ الظن بالمسلمين لا يعني عدم وقوعهم في الخطأ والاشتباه، فضلاً عن أن يمنع ذلك من البحث والتنقيب، وعليه فإن زيارة المسلم إلى "مقام"، معتقداً أنه يضم قبر نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء، لا يعني صحة انتساب هذا المرقد إلى النبي أو الولي المـَزُور، وهكذا الحال في بنائه– أعني المسلم- لمقام من المقامات، فإنه- في حد ذاته- لا يمثل حُجة شرعية لإثبات صحة المقام.
الهوامش:
[1]لقد عول البحاثة الشيخ محمد حرز الدين على الشهرة في إثبات وتعيين الكثير من المراقد التي تناولها في كتابه القيم "مراقد المعارف"، أنظر على سبيل المثال: ج1ص 170.
[2] أنظر: نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين، تأليف: السيد حسن الصدر(ت1354هـ.ق)، ص22.
[3]أنظر بشأن ذلك: كتاب فرحة الغري في تعيين قبر أمير المؤمنين علي(ع)، تأليف: السيد غياث الدين عبد الكريم بن أحمد بن يونس بن طاووس الحسني (ت693) .
[4]فقد نقل عن السيد أحمد بن علي المعروف بابن عنبة الأصغر مؤلف كتاب "أنساب آل أبي طالب" أنه ذكر في كتابه المذكور أنه دخل المزار المعروف ببلخ وقرأ المكتوب على الصخرة تحت الصندوق، فوجد مكتوباً عليها: "هذا قبر أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عبد الله بن علي بن الحسن بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين الأصغر بن علي بن الحسين السبط(ع)"، فعلم أنه من بني الحسين الذين ملكوا تلك البقاع، والاشتراك في اللقب والاسم والكنية واسم الأب أوجب اشتباه عوام الناس في نسبتهم له إلى أمير المؤمنين، راجع: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، مصدر سابق، ج2 ص375- 376 .
[5] يقول رحمه الله: "رأيت بعد سنة 1326 ه في المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهداً وضع فوق بابه صخرة كتب عليها ما صورته "هذا مدفن رأس العباس بن علي ورأس علي بن الحسين الأكبر ورأس حبيب بن مظاهر"، ثم أنه بعد ذلك بسنين هُدم هذا المشهد وأُعيد بناؤه وأزيلت الصخرة وبني ضريح داخل المشهد ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء! ولكن الحقيقة أنه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المقدم ذكرها بحسب ما كان موضوعاً على بابه كما مر، وهذا المشهد الظن قويٌ بصحة نسبته، لأن الرؤوس الشريفة بعد حملها إلى دمشق والطواف بها وانتهاء غرض يزيد من إظهار الغلبة والتنكيل بأهلها والتشفي، لا بد أن تدفن في إحدى المقابر، فدفنت هذه الرؤوس في مقبرة باب الصغير، وحُفظ محل دفنها، والله أعلم"، أنظر: أعيان الشيعة ج1 ص627.
[6]معجم البلدان ج2 ص284، ومن اللافت أنه كان هناك مشهد في دمشق أيضاً منسوب إلى أمير المؤمنين(ع)، يقول ابن جبير: "ومن أحفل هذه المشاهد – يقصد مشاهد دمشق- مشهد منسوب لعلي بن أبي طالب عليه السلام قد بني عليه مسجد حفيل رائق البناء وبإزائه بستان كله نارنج، والماء يطرد فيه من سقاية معينة، والمسجد كله ستور معلقة في جوانبه صغار وكبار، وفي المحراب حجر عظيم، وقد شُق بنصفين والتحم ما بينهما ولم يُبن النصف عن النصف بالكلية يزعم الشيعة أنه انشق لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إما بضربة بسيفه أو بأمرٍ من الأمور الإلهية على يديه. ولم يُذكر عن علي رضي الله عنه أنه دخل قط هذا البلد، اللهم إلا إن زعموا أنه كان في النوم، فلعل جهة الرؤيا تصح لهم إذا لم تصح لهم جهة اليقظة، وذلك الحجر أوجب بنيان ذلك المشهد، وللشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة وهم أكثر من السنيين بها.." (رحلة ابن جبير، مصدر سابق، ص239- 240) .
[7]تحفة العالم في شرح خطبة المعالم ، مصدر سابق، ج2 ص262.
[8]يقول السيد محسن الأمين رحمه الله تعليقاً على كرامة مزعومة حدثت في مراقد بعض الأئمة(ع): "إن فضائل أئمة أهل البيت(ع) وكراماتهم لا يشك فيها أحد، ولكن كثيراً من الكرامات التي تنقل على ألسنة الناس هي مكذوبة، لأن الكرامة لا تأتي عفواً ومتى شاءها الإنسان وعلى يد كل أحد ومع كل مناسبة، وإنما تكون عند موجب قوي يقتضيها.."، أنظر: رحلات السيد محسن الأمين ص145، وينقل المحدث النوري أن "جماعة اختلقوا بعض الكرامات، قد عين حصولها في مقامات الأئمة الطاهرين (ع) ونشروها بين الناس، ثم ظهر بعد مدة أنه لم يكن لذلك أصل على الإطلاق وأنه كان محض اختلاق، وغرضهم من ذلك الافتراء التمثل بالعامة.."، اللؤلؤة والمرجان ص199.
[9]أنظر: تحفة العالم في شرح خطبة المعالم ج1 ص262 نقلاً عن تاريخ حبيب السير. م. س.
[10]قصص العلماء ص44 .
[11]المسائل الفقهية للسيد فضل الله رحمه الله، ج1 ص316.
[12]كما يحكى وينقل بشأن ما حصل مع الشاه إسماعيل الصفوي عندما انكشف في زمانه قبر الحر الرياحي وبان جسده طرياً، أنظر: الكشكول للبحراني ج1 ص344، نقل ذلك عن الأنوار النعمانية .
[13] لدي بحث مسهب حول مرجعية الكشف في المجالات الدينية في الكتاب المخطوط: أصول الاجتهاد الكلامي.
[14] أنظر: مرقد العقيلة للسابقي ص67.
[15] المصدر نفسه ص 72، أقول: وقد تحدث الجبرتي في عجائب الآثار عن الشيخ المجذوب علي الهواري والذي كان- على حد قوله- "من أرباب الأحوال الصادقين والأولياء المستغفرين، وأصله من الصعيد، وكان يركب الخيول ويروضها ويجيد ركوبها ولذلك لُقب بالهواري، ثم أقلع عن ذلك وانجذب مرة واحدة، وكان للناس فيه اعتقاد حسن، وحكى عنه غير واحد، ويدور في الأسواق والناس يتبركون به، مات شهيداً بالرميلة، أصابته رصاصة من يد رومي فقتله سنة 1167 ه، وصلوا عليه بالأزهر وازدحم الناس على جنازته"، أنظر: عجائب الآثار للجبرتي ج1 ص325، ولعل الشيخ المجذوب صاحب الكشف بشأن مقامي زينب وسكينة هو هذا، والله العالم.
[16] أنظر: نزهة أهل الحرمين في عمارة المشهدين، ص78.