الإنسان حفنة من الغيب ، فكيف لا يحتاج الى عالم الغيب؟

السبت 30 ديسمبر 2017 - 16:35 بتوقيت مكة
الإنسان حفنة من الغيب ، فكيف لا يحتاج الى عالم الغيب؟

لا ينحصر العلم المراد تحصيله بمساحة العالم المشهود، وكذا لا ينحصر بما هو خاضع للكسب عبر الآلة المحسوسة، وإنما تتسع دائرته لتشمل عالما آخر، ذاك هو عالم الغيب.

يدعو القرآن الكريم إلى تحصل العلم، حيث تردد ذكر كلمته في سبعمائة آية منه، ولم تكن دعوة القرآن لتحصيل العلم وأهميته جاءت بخطاب خاص ومستثنى لنوع من الناس، بل جاءت الدعوة لطلبه {* قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ *} (1) عامة لكل الناس، بالإضافة إلى توفر وسائل تحصيله وإتاحتها للجميع. ولكن أي علم هذا الذي يدعو إليه القرآن؟ بلا شك إنه العلم الذي فيه مصلحة الإنسان، وبه يتحقق البناء والإعمار، لكنه يحصل بالكسب والجد؛ لذا اتصف بالنسبية {* يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات *} (2)، خلافا للعلم الحضوري الذي لا يمنح من قبله سبحانه لأحد إلا لمن ارتضى من عباده.
كما لا ينحصر العلم المراد تحصيله بمساحة العالم المشهود، وكذا لا ينحصر بما هو خاضع للكسب عبر الآلة المحسوسة، وإنما تتسع دائرته لتشمل عالما آخر، ذاك هو عالم الغيب. القرآن لم يفكك بين العالمين: الغيب والشهادة، فأعد العلم بالغيب وبما وراء المحسوسات علما، كما سمى الشخص الذي يحرز على نسبة من العلم بأحدهما أو بكلاهما عالما. وبتعبير آخر: إن العلم بالغيب يطلق على العلم بما غاب عن الحواس وبأي طريق حصل، فقد يحصل العلم بالغيب عن طريق البراهين العقلية أو الأدلة النقلية، مثالها العلم بوجود الصانع ووحدته تعالى. كما يطلق العلم بالغيب على ما غاب عن الحس والعقل، مثالها أحوال البرزخ، ويوم القيامة وما يحدث فيه.وأخيرا، يطلق العلم بالغيب على العلم الاستقلالي، أي بما غاب عن مشاعر الناس جميعا.ومن الواضح أن العلم بالغيب من نوعه الأول والثاني يمكن أن يحصل عليه الإنسان، أما العلم من نوعه الثالث فلا يمكن الحصول عليه.
والواقع يثبت حصول العلم بنوعيه الأولين لجميع المؤمنين، بل حتى لغيرهم، وحصولهما يتم عن طريق الأدلة العقلية الحسية، كما أن الإيمان بالغيب يستلزم العلم به، فالمتقون الذين يؤمنون بالغيب عالمون به، كما أنهم عالمون ببعض الغيب عن طريق إخبار الله تعالى في كتابه، كغلبة الروم مثلا قبل أوانها، وكعلمهم بالحوادث الماضية التي لا تنالها حواسهم مما كشف عنه القرآن الكريم، وقد قال تعالى: {* تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل *} (3)(4).
ثم لم يتبغ القرآن من العلم إلا العلم المؤدي للمصلحة، وبواسطته يحصل اليقين: {* إنما يخشى الله من عباده العلماء *} (5)، ويحرك إلى العمل والسلوك: {* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون *} (6). ولكن، هل بمقدور الإنسان أن يحيط بكامل أسرار وخفايا العالمين مطلقا، وبما صمما بقانونية متداخلة ذات تأثر وتأثير فيما بينهما في تشكل الظواهر.
يبقى الإنسان ـ الجماعة أو الفرد ـ محدودا، فلا يقوى على الإحاطة بما حوله وماضيه ومستقبله، ولا تعينه التجارب ولا الأبحاث إلى كامل العلل والأسباب التي تتحكم في مصير العالمين ذات المدخلية في حياة البشرية جمعاء، وإن كان ذلك يدخل تحت دائرة الإمكان العقلي.إن دعوة القرآن تركز على تبني قاعدة الإيمان بالغيب، والارتباط بالوسائل التي أسس لها الوحي: {* الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون *} (7)، وشد الإنسان إلى تلك القاعدة، لأن حضارة الإنسان لا ترتقي دوما إلا بالعنصر المتعالي عن الأرض أو قل عالم الشهادة، لأن الاندكاك بعالم يتصف بالسفلية انطلاقا من كونه يكفي نفسه بنفسه، مقولة غير صحيحة، لتوقف التاريخ على الإنسان وتوقف الإنسان على التاريخ، ويبقى الإنسان عند ذلك محجوزا في نفس التاريخ، فيؤدي هذا إلى هبوط الحضارة، كما هو ملحوظ في تاريخ الحضارات وانهيارها؛ ذلك لاعتمادها أفقا محدودا: {* ارم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وفرعون ذي الأوتاد * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب *} (8). ثم إن الرقي يستدعي أخذ النسبي المحتاج كماله من المطلق؛ لذا لا يمكن إقصاء هذا الإنسان عن هذا العالم الرحيب، لوجود صلة أزلية وثيقة، وتلاحم فطري أصيل: {* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين *} (9).
الإنسان مخلوق قريب من الغيب، لا بل هو حفنة من الغيب «من روحي»، وقد تحدث القرآن عن هذا القرب والعلاقة بمشهد آخر، قد تضمن حوارا بين محض الغيب ـ الله والإنسان: {* وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم، قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافللين *} (10)؛ ولهذا يكفي الإنسان موعظة عند الدعوة للاعتقاد بالتوحيد أن نحاكيه بالتذكرة، كما هي أساليب الأنبياء ودعواتهم التوحيدية؛ لامتلاكه رصيدا قلبيا سبق وإن أقرته فطرته بهذا المعتقد، لذا لا يقبل من المعاند المشرك أي عذر يبرر به شركه، كالغفلة مثلا. ولما كان الإنسان قد صمم بطريقة لا يمكن إقصاؤه عن عالم الغيب، بسبب هذا التلاحم بين العالمين بما فيها الإنسان كعالم آخر يرتبط معها، وتأثير كل من هذه المخلوقات مع بعضها، وبما منح هذا المخلوق الإنسان النوع من قابليات تمكنه من توظيف عناصر الغيب المودعة فيه وفي الكون لصالح الإعمار والبناء الذي أخذه على عاتقه؛ لذا فهو محتاج إلى التطلع والانشداد والعلم بهذا العالم، لعلاقة ذلك بشؤون الخلافة.
ندب القرآن الكريم إلى العلم بالسنن كوسيلة تكشف لنا عن واقع مستقبلي لم يحدث بعد، وتساهم في رقي الإنسان نحو الكمال؛ لأن العلم بها وبشروطها يضع الإنسان موضعا يكون فيه قادرا على خلق المصير، ومتعاليا عليه ومتحكما في اختيار ما هو مناسب لحياته، فيسعى بوعي لتهيئة وتوفير شروطه وأسبابه اعتمادا على الثابت السنني المكتشف من قبل الوحي. إذا، فالعلم بالسنن وشروطها أمر تحصيلي كسبي، إلا أنه مفردة من مفردات الغيب، أو أن السنن ذات صلة بالإيمان بالغيب قربا أو جحودا، وتمتد إلى النوايا والمقاصد القلبية والمشاعر والأحاسيس في حياة الأمة: {* ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس *} (11)، {* ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا... *} (12).كما يخالف القرآن طريقة التعامل العشوائية مع السنن، والتي لا تعتمد الوعي والعلمية في الانتقاء، انطلاقا من دورها وأهميتها في تحقيق مصير الإنسان.
من جهة قد لا يتوصل الإنسان إلى معرفة دقيقة أو مطلقة بالسنن، وعلى فرض توصله وإحاطته بفعلية هذه السنة أو تلك وفي هذا الظرف أو ذاك، إلا أنه يبقى عاجزا عن استيعابها على طول الخط، وعن استيعاب المعارف الإلهية ذات المدخلية بحياة الإنسانية جمعاء، وبها ترتبط حركة الوجود في بعديها الغيبي والحسي باتجاه الغايات الكبرى، عن طريق العلم التحصيلي الكسبي الواعي؛ ذلك لغياب العلم من هذا اللون ـ الكسبي ـ بالخفايا والأسرار التي تجري في هذا العالم الرحيب، خصوصا التكويني لا التشريعي فحسب؛ لأن الإحاطة لا تتم إلا بالعلم منه سبحانه، لأن التحصيل الكسبي الذي يقوم به الفرد أو الجماعة يبقى ظرفيا آنيا محصورا بالزمن، عاجزا عن الإحاطة الكاملة، فهو إذا ناقص، فلا ينتج لنا إلا الدور الناقص، والإرادة الإلهية تريد الكاملة. هذا حتى بحدود العالم المشهود، فكيف بالبعد الغيبي وعالمه الرحيب.
إذا، فالإنسان النوع بحاجة إلى العلم الموهوب، ولكنه لا يحصل على هذا العلم إلا بأخذه عبر الوسائل الإلهية، كالوحي أو الإلهام، أو النقر في القلب، أو التعلم بالواسطة ممن يوحى إليه، لغرض استيعاب حركة التاريخ كلها.

الهوامش

1- الزمر: 9.

2-المجادلة: 11.

3-هود: 49.

4- الإمامة والولاية، جمع من العلماء 129.

5- فاطر: 28.

6- الصف: 3.

7-البقرة: 3.

8- الفجر: 7 ـ 13.

9-الحجر: 29.

10-الأعراف: 172.

11- الروم: 41.

12- الأعراف: 96.

المصدر :شبكة الإمام الرضا

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 30 ديسمبر 2017 - 10:45 بتوقيت مكة