الشيخ حسين الخشن
مع انقضاء القرن الرابع الهجري تراجع الحديث عن المعمر المغربي وعن كيفية حياته وذريته، بحيث ينطفئ ذكره من عامة كتب الأحاديث والتواريخ والقصص، باستثناء الكتب التي تذكر قصته التي جرت فصولها في بداية القرن الرابع الهجري، ولكن وبعد مضي قرون عديدة على انطفاء ذكره واختفاء أثره، وإذا به يطل علينا مجدداً في القرن الحادي عشر الهجري من خلال إلتقاء عالم من علمائنا به، وهو الشيخ محمد الحرفوشي المتوفي سنة (1059هـ). وذلك بحسب ما ينقله السيد نعمة الله الجزائري في مقدمة شرحه على كتاب غوالي اللآلئ بعد ذكره جملة من طرقه يقول: "ولنا طريق غريب قصير حدثني وأجازني به السيد الثقة السيد هاشم بن الحسين الأحسائي في دار العلم شيراز في المدرسة المقابلة لبقعة مير سيد محمد عابد عليه الرحمة والرضوان في حجرة من الطبقة الثانية على يمين الداخل ، قال:حكى لي أستاذي الثقة المقدس الشيخ محمد الحرفوشي قدس الله تربته قال : لما كنت بالشام عمدت يوما إلى مسجد مشهور بعيد من العمران فرأيت شيخا أزهر الوجه عليه ثياب بيض وهيئة جميلة ، فتجارينا في الحديث وفنون العلم فرأيته فوق ما يصف الواصف ، ثم تحققت منه الاسم والنسبة ثم بعد جهد طويل قال : أنا معمر أبو الدنيا المغربي صاحب أمير المؤمنين عليه السلام وحضرت معه حرب صفين وهذه الشجة في وجهي من رمحة فرسه سلام الله عليه . ثم ذكر لي من الصفات والعلامات ما تحققت معه صدقه في كل ما قال ، ثم استجزته كتب الأخبار فأجازني عن أمير المؤمنين عليه السلام وعن جميع أئمتنا عليهم السلام حتى انتهى في الإجازة إلى صاحب الدار عليه السلام ، وكذلك أجاز لي كتب العربية من مصنفيها من الشيخ عبد القاهر والسكاكي وسعد الدين التفتازاني ، وكتب النحو عن أهلها ، وغير ذلك من العلوم المتعارفة"[45].
أقول: ونظير هذا الكلام ذكره السيد نعمة الله الجزائري أيضاً في كتابه "الأنوار النعمانية"، قال:" حدثني أوثق مشايخي السيد هاشم الإحسائي في شيراز في مدرسة الأمير محمد عن شيخه العادل الثقة الورع الشيخ محمد الحرفوشي أعلى الله مقامه في دار المقامة أنه دخل يوماً مسجداً من مساجد الشام،
وكان مسجداً عتيقاً مهجوراً فرأى رجلاً حسن الهيئة في ذلك المسجد فأخذ الشيخ في المطالعة في كتب الحديث، ثم إن ذلك الرجل سأل الشيخ عن أحواله وعمن نقل الحديث فأخبره الشيخ، ثم إن الشيخ سأله عن أحواله وعن مشايخه فقال ذلك الرجل: أنا معمر أبو الدنيا، وأخذت العلم عن علي بن أبي طالب
(ع) وعن الأئمة الطاهرين عليهم السلام، وأخذت فنون العلم عن أربابها وسمعت الكتب من مصنفيها، فاستجازه الشيخ في كتب الأحاديث، الأصول وغيرها، وفي كتب العربية والأصول فأجازه، وقرأ عليه الشيخ بعض الأخبار في ذلك المسجد توثيقاً للإجازة، فمن ثم كان شيخنا الثقة قدس الله روحه يقول لي: يا بني إن سندي إلى المحمدين الثلاثة وغيرهم من أهل الكتب قصير، فإني أروي عن الفاضل الحرفوشي عن الإمام علي بن أبي طالب وكذا إلى الصادق والكاظم عليهما السلام إلى آخر الأئمة وكذلك روايتي لكتب الأصول مثل الكافي والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه وأجزتك أن تروي يعني بهذه الإجازة، فنحن نروي الكتب الأربعة عن مصنفيها بهذا الطريق"[46].
وتعليقاً على قصة التقاء الحرفوشي بالمعمر المغربي نقول:
أولاً: إن ما رواه الحرفوشي أمر في غاية الغرابة، إذ بعد غيبة طويلة للمعمر المغربي استمرت ما يقرب من ستة قرون لم يذكره ولم يسمعه ولم يره فيها أحد يعود إلى البروز من جديد في مسجد من مساجد الشام! ويقول للحرفوشي إنه المعمر المغربي فيصدقه الحرفوشي، فأنى له بتصديقه وما هي الأمارات التي أوجبت صدقه؟! ثم ما الذي أحضر المعمر المغربي إلى الشام من بلاد المغرب التي يقطنها مع ذريته؟! ولم لم يره أحد غير الحرفوشي؟!
ثانياً: أنى للمعمر المغربي أن يجيز الحرفوشي برواية كتب الأخبار عن مصنفيها كالكافي والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه؟! ومتى تلمذ عليهم أو استجازهم بروايتها. إن الشيخ الصدوق يروي عن المعمر بواسطة بعض شيوخه، كما مر ثم يتحول المعمر نفسه إلى راوٍ عن الصدوق وطالب إجازة منه؟!
وكذلك يغدو راوياً عن الشيخين الطوسي والكليني، ومع ذلك لا يذكر في عداد تلامذتهما؟! ثم إن المعمر هنا يبرز كتلميذ ليس لعلي (ع) بل ولسائر الأئمة من ولده(ع)، فمتى وكيف تلمذ عليهما مع أنه قد هرب بعد معركة كربلاء إلى المغرب؟! ولو كان من تلامذة الأئمة (ع) فلمَ لم يذكر في عدادهم؟!
ولمَ يتحول إلى راوٍ لكتب ألفت بعد عصر الأئمة (ع)، مع أنه معاصر لهم؟!
وقد علق السيد الخوئي على هذه الحكاية التي اعتبرها من أغرب ما يكون في قصة هذا الرجل بالقول: "لا شك في أن الشيخ محمد الحرفوشي كان رجلاً ساذجاً، إذ كيف حصل له الاطمئنان بصدق الرجل! وبأي صفة أو علامة يمكن الجزم بصدقة؟!. ثم كيف صح لأبي الدنيا أن يجيز الشيخ محمد بكتب الأخبار مع أنه لم يقع في إسنادها وهو أجنبي عنها بالمرة، فالقصة خيالية أو مكذوبة لا محالة"[47].
ومن خلال ما ذكرناه آنفاً يتضح أن الاستغراب الذي سجله السيد الخوئي في محله، ولكنه لا ينحصر بالشيخ محمد الحرفوشي رحمه الله[48]، بل يمتد وينسحب على كل الذين وثقوا بهذه القصة الخيالية وأدرجوها في كتبهم، وأولهم الشيخ الصدوق رحمه الله، فضلاً عن غيره من العلماء، من أمثال
السيد نعمة الله الجزائري والسيد هاشم الأحسائي، وكذلك العلامة السيد حسن الصدر، والذي فاخر بأن له إسناداً عالياً إلى رواية الأحاديث عن الأئمة (ع)، قال رحمه الله: "وصح لي بحمد الله الرواية من عدة طرق عالية عن السيد العلامة السيد نصر الله الحائري عن الشيخ صالح صاحب الترجمة[49]عن الشيخ الجليل محمد الحرفوشي عن ابن أبي الدنيا المعمر المغربي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وهو من الطرق العالية التي رزقناها، وهذا مما يتنافس عليه أهل العلم بالحديث في علوم الاسناد. وقد ذكرت طرق اتصالي بهذا الطريق العالي في إجازتي الكبيرة لبعض علماء الهند المسماة ب " بغية الوعاة في طبقات مشايخ الإجازات"[50].
هل مات المعمر أم لا يزال حياً؟
ومن أبرز وجوه الاختلاف بين الروايات والأخبار الناقلة لقصة هذا المعمر هو الاختلاف حول نقطة جوهرية في قصته، وهي موته أو بقاؤه حياً إلى حين خروج المهدي (عج)، ففي حين نصت الرواية الأولى أن الخضر أو إلياس قد أخبره أنه سيعمر حتى يلقى المهدي (عج) فإن الرواية الرابعة – على ما جاء في ذيلها نقلاً عن أبي بكر المفيد الجرجرائي - تؤكد أنه قد مات في سنة 317هـ، ويحتمل المحدث النوري أن عبارة "توفي في سنة سبع عشر وثلاث مائة" ليست من الخبر (الرابع) معززاً هذا الاحتمال بكلام الكراجكي (تلميذ أبي بكر المفيد) الذي يؤكد أنه ما زال حياً إلى زمانه، وينقل عن الشيعة أنه سيجتمع مع المعمر المغربي في زمن المهدي (عج)، إلا أن هذا الاحتمال لو كان صحيحاً فهذا يعني أن رواية "مجالس الشيخ" – بحسب نقل المجلسي قد تعرضت للتلاعب وزيدت فيها هذه العبارة، وهذا احتمال يصعب الالتزام به، ولا سيما أنه قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه، على أن ما جاء في الرواية الثانية لا ينافي وفاته، فإن والده – طبقاً لتلك الرواية – أخبره أنه سوف "يطول عمره حتى يمل الحياة" وليس فيها ما ينص على بقائه حياً إلى آخر الزمان، ومن يعش ثلاثة قرون ونيف يصدق عليه أنه طال عمره حتى مل الحياة. كما أن الرواية الرابعة قد نصت (وذلك في المقطع السابق على العبارة التي احتمل النوري أنها ليست من الخبر) على أن الإمام علياً (ع) بشره بالعمر الطويل وهذا يتلاءم مع موته في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة.
ولو أخذنا بنظر الاعتبار ما ذكرته المصادر السنية فهي تؤكد صراحة موته في القرن الرابع للهجرة[51]. ونقل العسقلاني عن " كتاب الأنساب" للهمداني أن الخضر قد أخبره أنه يعيش أربعمائة سنة[52]، وينقل عن أبي عمر الداني بإسناده عن ابن تميم المعروف بابن أبي العرب قال: وسمعت القاضي عبد المجيد بن عبد الله:" ".فإذا برجلين فقالا لي أشربت من العين؟ قلت: نعم، قالا: فإنك تعيش ثلاثمائة سنة"[53]. وينقل عن الهجيم" أنه زعم أن الأشج هذا مات سنة ست وسبعين وأربعمائة"[54].
الهوامش:
[45] منتهى المقال في أحوال الرجال، للشيخ محمد بن إسماعيل المازندراني ( ت: 1216هـ)، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث – قم، الطبعة : الأولى، رمضان 1416هـ، ومعجم رجال الحديث ج 13 ص 98.
[46] الأنوار النعمانية ج2 ص7.
[47] معجم رجال الحديث ج 13 ص 98.
[48] الشيخ محمد الحرفوشي، عالم لغوي أديب شاعر، وهو من آل حرفوش، أمراء بعلبك المعروفين، وقد ترحم له الشيخ الحر في أمل الآمل، وغيره من الأعلام، انظر: أعيان الشيعة ج 10 ص 22.
[49] يقصد به الشيخ صالح بن سلمان العاملي.
[50] تكملة أمل الآمل ص 232.
[51] يقول الخطيب البغدادي:" وقد روى بعض الناس عن المفيد قال: بلغني أن الأشج مات في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وهو راجع إلى بلده"، انظر تاريخ بغداد ج 11 ص 397. ويؤكد العسقلاني أن وفاته كانت في سنة 327 هـ لسان الميزان ج 4 ص 135، وينقل قولا بموته في سنة 316 هـ ، المصدر نفسه ص 137.
[52] لسان الميزان ج 4 ص 139.أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( ت 852 هـ) مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 3 بيروت لبنان 1986.
[53] لسان الميزان ج 4 ص 137.
[54] لسان الميزان ج 4 ص 136.