الشيخ حسين الخشن
هل المعمر المغربي شخصية حقيقية أم وهمية؟
إن الروايات التي تنقل قصته هي في جملتها موضع شك في أسانيدها، فبالنظر إلى الروايات الشيعية يلاحظ أن سند الرواية الأولى، ضعيف من جهة الراوي الأول الذي روى عنه الصدوق، وهو الحسن بن محمد العلوي، ضعيف جداً، قال النجاشي: "وروى عن المجاهيل أحاديث منكرة رأيت أصحابنا
يضعفونه"[24]. وأما ابن الغضائري فاتهمه بالكذب قائلاً: " كان كذاباً يضع الأحاديث مجاهرة ويدعي رجالاً غرباء ولا يعرفون"[25]. هذا ولكن الصدوق روى الحديث عن رجل علوي آخر وهو محمد بن الحسن بن إسحاق، وهذا الرجل هو الذي ألف الصدوق لأجله كتاب " من لا يحضره الفقيه"، متحدثاً عن " أخلاقٍ قد جمعها إلى شرفه من ستر وصلاح، وسكينة ووقار وديانة وعفاف، وتقوى وإخبات"[26]، ولكن لم نجد له توثيقاً واضحاً، وربما كان رجلاً متديناً ولكنه لا يملك ذهنية تدقق في مصدر الأخبار.
وأما الرواية الثانية فسندها كله مجاهيل، ولذا لا يمكن التعويل عليها.
وأما الرواية الثالثة، فسندها مجهول، وفيه ما يريب، إذ إن الكراجكي ينقل أن الشريف طاهر بن موسى بن جعفر الحسيني حدثه في مصر سنة 407 هـ، وهذا الشريف يحدث أن الشريف ميمون بن حمزة الحسيني قد أخبره برؤيته للمعمر المغربي في سنة 310 هـ أي أن المدة الفاصلة بين سماعه للقصة
وتحديثه بها تقرب من مائة عام وهذا من الأمور البعيدة جداً، لأنه يعني أن عمر المحدث قد ناف على مائة عام، ولا أدري كيف وثق الكراجكي بخبر هذا حاله؟! اللهم إلا أن يكون ناقلو قصة المعمر المغربي هم مثله من المعمرين جداً!
وأما الرواية الرابعة فينقلها العلامة المجلسي عن مجالس الشيخ الطوسي ولكننا لم نجد لها ذكر في المجالس المذكور، هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن المفيد يروي عن إبراهيم بن الحسن بن جمهور، وهذا الرجل ليس له ترجمة في كتب الرجال، أجل قال ابن حجر في لسان الميزان: "إبراهيم بن الحسن
بن جمهور أبو الفتح، ذكره أبو جعفر الطوسي في شيوخ الشيعة، وقال: روى عن أبي بكر المفيد نسخة [قصة] الأشج يعني عثمان بن الخطاب" [27]. ولكن لا يوجد اسم كهذا في كتب الشيخ، ولهذا فإن السيد محسن الأمين علق عليه قائلاً:" ولم أعلم أين ذكره أبو جعفر الطوسي"[28].
وبالنظر إلى ما جاء في مصادر السنة فإن ثمة رأياً ينكر وجود هذه الشخصية. ينقل العسقلاني عن ابن سليم في تاريخه أن " المعمر لا يصح وجوده عند علماء النقد".[29] ومما يؤيد ذلك أنه لو كان لهذا الشخص وجود حقيقي لسجلت اسمه صفحات التاريخ، ولذكر في كافة المصادر وكان أشهر من نار على علم، مع أننا لم نجد ذكراً له، لا في مصادر أهل اليمن التي هي موطنه الأصلي ولا في مصادر المغربيين الذي يسكن في إحدى مدائنهم وهي طنجة، ولا في سائر مصادر أهل المشرق الذين عرفوه ورأوه وعاش معهم في المدينة! غاية ما هناك أن أبا محمد العلوي يقول إن المعمر المذكور:" حدث جماعة من أهل المدينة من الأشراف والحاج من أهل مدينة السلام وغيرهم من جميع الآفاق"، فلم يا ترى لم ينقل هذا الخبر سواه؟!
على فرض كون أبي الدنيا شخصية حقيقية فهل يمكن تصديق الرجل والوثوق بقصته؟
لكن بصرف النظر عما تقدم من الشك في أصل وجود الرجل، وافتراض أنه شخصية حقيقية وليس وهمية، ولا سيما أن العديد من المصادر تؤكد وجوده ورؤية الأشخاص له ونقلهم الحديث عنه، مما يجعل من الصعب تكذيبهم، ولكن هل نستطيع أن نصدق الرجل أو نثق بالقصة التي ينقلها؟الجواب: إن العديد من القرائن المحيطة بهذه القصة والتي تدفع إلى الشك الكبير في صدق الرجل أو واقعية قصته، وإليك أهم الشواهد والقرائن التي نستند إليها في رأينا هذا:
أولاً: لو كان لهذا المعمر المغربي وجود حقيقي وفعلي في عصر أمير المؤمنين (ع) وولديه الحسنين (ع) لكان أشهر من نار على علم، لأن الروايات ولا سيما الأولى تتحدث عن شخص ليس عادياً، فهو حضر إلى المدينة وكان إلى جانب علي(ع) في مرحلة الخلفاء الثلاثة ثم أيام خلافته (ع) ولعب دوراً فيما جرى على عثمان عندما حوصر في بيته، وحمل رسالة منه إلى الإمام علي(ع) ثم كان معه (ع) في كل معاركه، ثم صحب الحسن (ع) وأقام معه وخدمه. ثم إن الرواية تقول إنه أدرك الحسين (ع) وكان معه في كربلاء فلما قتل عليه السلام فر هارباً من بني أمية، والسؤال: ما هو دوره في هذه المعركة؟ ولماذا لم نجد له ذكراً في أسماء الرجال الذين حضروا في كربلاء؟ وكيف تسنى له الهروب؟ ولماذا هرب ولم يقاتل الظالمين بين يدي الإمام كما فعل بقية الشهداء أو بعد استشهاده (ع)؟! ولو فرض أنه بقي حياً لأنه وجد أن لا جدوى من القتال، فلم لم يتحدث عنه أحد من المؤرخين في عدد الناجين في تلك الوقعة أو المشاركين فيها؟!
وقصارى القول أنه لماذا بقي هذا الرجل خامل الذكر مدة ثلاثة قرون، ولم يسمع به أحد ولا روى عنه الرواة؟! ثم يظهر فجأة في بداية القرن الرابع ويذهب إلى الحج ويلتقي به الناس ويحدثهم عن خبره وقصته ويروي لهم أحاديث سمعها من أمير المؤمنين (ع)! إن هذا أمر مثير ومستغرب جداً. ولو
فرض أن التقية فرضت عليه التخفي لأنه نجى من كربلاء فهرب خوفاً من بني أمية، كما تقول الرواية الأولى. فإن التقية إنما تفرض ذلك لمدة قصيرة، وأما بعد موت يزيد وسقوط دولة بني أمية فكان اللازم أن يظهر ويشتهر خبره بين أهل الحديث والمؤرخين، مع أننا لا نجد له ذكراً ولا حديثاً!!
ثانياً: ثم إن السؤال الأبرز هو أنه إذا كان الرجل سيظل حياً إلى آخر الزمان كما تقول بعض الروايات، فأين هو اليوم؟ وأين يسكن وكيف يعيش؟ وأين ذريته؟! فالقصة – لو صحت - لا تتحدث عن رجل شبح بل عن شخص حقيقي وهو باق على قيد الحياة إلى آخر الزمان، فبحسب الرواية الأولى فإن الخضر وإلياس أخبراه أنه سيعمر حتى يلقى المهدي وعيسى بن مريم عليهما السلام وأمراه بأن يوصل سلامهما إليهما، كما أن الروايات الناقلة لقصته تتفق على أنه يعيش مع الناس حياة طبيعية، فهو ليس متخفياً، ولا معزولاً، بل هو متزوج وله ذرية وأولاد وهو معروف بين الناس، ويتردد - كما في الرواية الثانية - على "الملوك في بلاد المغرب"ممن يبلغهم خبره وطول عمره، حيث يحضرونه إليهم ليروه ويسألوه عن سبب طول عمره وعما شاهد، ورجل كهذا لو كان لبان واشتهر لأنه - بحق - أعجوبة الزمان، وإذا كان من الممكن أن يُجهل خبره في الأزمنة السابقة، فإن خبره في زماننا هذا لا
يمكن أن يجهل، بل لو وجد لعد من عجائب الدنيا وغرائبها!
ولم ينقل عن أحد أنه رآه أو سمع به بعد القرن الرابع الهجري باستثناء ما نقل عن الشيخ محمد الحرفوشي ( ت 1059هـ)،أنه قد رآه في مسجد في الشام وصدقه في دعواه، وهو خبر غريب للغاية ولا يمكن تصديقه، كما سيأتي. .
ثالثاً: ثم إن القصة تقول: إن ذكر هذا الرجل ورد في الأخبار والتي نصت على أنه إذا دخل دار السلام بغداد فإن ذلك سيكون سبباً لفنائها، حيث إنه لما أراد نصر العشوري ( القشوري) " أن يحمله وولده إلى مدينة السلام إلى المقتدر، فجاءه أهل مكة فقالوا: أيد الله الأستاذ إنا روينا في الأخبار المأثورة عن
السلف أن المعمر المغربي إذا دخل مدينة السلام فنيت وخرجت وزال الملك فلا تحمله ورده إلى المغرب". ففي أي أخبار ورد هذا المعنى؟ وأين هي تلك الأخبار؟ وما هذه الكيمياء التي يمتلكها هذا المعمر والتي تجعل من مجرد دخوله إلى بغداد سبباً لفنائها؟!
ومما يشهد لكذب القضية أنه - وحسب رواية الخطيب البغدادي - فقد دخل هذا المعمر بغداد ورآه الناس واستمع بعضهم إلى أحاديثه، فلم يحدث لأهلها شيئ، يقول الخطيب:" وقدم بغداد بعد سنة ثلاثمائة بعدة سنين"[30].
رابعاً: إن القصة تشتمل على العديد من الكرامات وخوارق العادات التي تكتنف حياة هذا الرجل، وهذه الأمور تزيد ريبتنا في صحة القضية، لأن أمثال هذه القضايا تحتاج إلى التدقيق في أسانيدها ودوافع الرواة لها، ومن هنا كان إثبات الخوارق والكرامات محتاجاً إلى أسانيد ذات قيمة عددية وكيفية أكثر
مما تحتاجه الأخبار الناقلة للأمور العادية، حتى يحصل الوثوق بصدقها، ولا سيما أن القضية تتصل في بعض جوانبها بواحدة من قضايا العقيدة الهامة، عنيت بها قضية المهدي ومجريات آخر الزمان. والخوارق التي تشتمل عليها القصة هي بالإضافة إلى طول عمر الرجل، وكيفية عثورهم على الماء،
حيث رأوا "أثر قدم طويل" فساروا خلفها فوصلوا إلى البئر التي يجلس عليها إلياس والخضر:
1- أن الرواية الثانية المتقدمة تحدثنا عن منطقة اسمها الظلمات وفيها نهر الحياة، ويصعب فيها تمييز الليل من النهار، وقد خرج إليها والد ذاك المعمر من بلاد اليمن بغية العثور على ذلك النهر، والسؤال هل إن تلك المنطقة حقيقية أم خيالية، وإذا كانت حقيقية فأين هي يا ترى؟ ولم لم يعثر عليها سوى
هؤلاء الرجال؟! فنحن اليوم غدونا في عصر متقدم وقد تم فيه اكتشاف مجاهل الأرض ولم نسمع أن أحداً وصل إلى منطقة بهذه الصفات!
2- إن الروايات الثلاث الأولى تحكي عن أمر غريب يحدث في عنفقة هذا الرجل، وهو أنه إذا جاع ابيض شعرها وإذا شبع فإنه يسود، وهذا من عجائب الأمور التي ليس ثمة ما يؤكدها أو يشهد بصحتها، فلا علم ولا تجربة تؤكدان ذلك، فما علاقة بياض شعر العنفقة أو سواده بالأكل والجوع؟! وإذا كان ثمة علاقة فلماذا هي مقتصرة على شعر العنفقة ولا تمتد إلى شعر اللحية بأكمله؟!
3- والأمر الآخر المثير للغرابة هو ما تتضمنه بعض روايات هذه القصة من تفسير طول العمر، وهو أن ثمة نهراً أو نبعاً أو بئراً له خاصية فريدة، وهي أن من يشرب منه فإنه سيحيى حياة مديدة وهو ما يعرف بماء الحياة، ووجود مثل هذا الماء يحتاج إلى بحث وتدقيق مستقل، فالأمر ليس محسوماً وتواجهه العديد من الأسئلة، وإن ورد ذلك في بعض الأخبار[31].
خامساً: ومما يثير الريبة في صدقه هو أنه ينقل أشياء لم تثبت صحتها فهو ينقل أنه رأى علياً (ع) "يخلع نعليه ويغسل رجليه ولا يمسح"[32]، في إشارة إلى وضوء الإمام، وهو خلاف ما هو معرف عن ذرية علي (ع) من الأئمة (ع)، وينقل أنه رأى السيدة عائشة فكانت بيضاء طويلة بوجهها أثر الجدري، والله أعلم بصحة ذلك، وينقل العسقلاني عن " كتاب الأنساب" للهمداني أن المعمر المذكور قد سئل أن ينعت الإمام علي (ع) فنعته بغير ما أتى في السيرة"[33].
سادساً: إن الكثير من أهل النقل والحديث لم يصدقوا الرجل، واسترابوا به، يقول الخطيب البغدادي: "والعلماء من أهل النقل لا يثبتون قوله، ولا يحتجون بحديثه "[34]. وينقل الخطيب أيضاً حديثا بالإسناد عن أبي القاسم يوسف بن أحمد بن محمد البغدادي التمار: إن الأشج دخل بغداد واجتمع الناس
عليه في دار إسحاق، وأحدقوا به وضايقوه، وكنت حاضره فقال: لا تؤذوني فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مؤذ في النار"، وحدث ببغداد خمسة أحاديث، حفظت منها ثلاثة هذا أحدها. وما علمت أن أحدا ببغداد كتب عنه حرفا واحداً، ولم يكن عندي بذاك
الثقة"[35]. ومع أن بعض علمائنا الإمامية صدقوا القضية، وسجلوها في كتبهم باعتبارها قصة حقيقية، ولكن الفقيه الكبير السيد الخوئي رحمه الله امتلك جرأة عالية في تزييفها وتكذيبها، إذ قال رحمه الله: "لا نضائق في أن أبا محمد العلوي قد رأى رجلاً كان يدعي أموراً غريبة فرواها للصدوق -قدس سره -، إلا أنه لا ينبغي الشك في أن القصة خيالية أو أنها مكذوبة، فإنه لو كان الرجل قد حضر الجمل وصفين وصحب الحسن عليه السلام حتى ضرب بساباط، وخرج مع الحسين عليه السلام إلى كربلاء، وهرب بعد قتل الحسين عليه السلام، وكان ما ذكره صحيحاً لكان من المشاهير، فلمَ لم يتعرض لذكره المتعرضون لذكر أصحاب الأئمة عليهم السلام؟! ثم لماذا لم يحضر أحد المعصومين عليهم السلام بعد الحسين؟! ولماذا لم يذكر أحد من أرباب المقاتل عنه شيئاً من وقعة الطف قد شهدها؟! ومن الغريب بعد ذلك قول الوحيد - قدس سره -: أنه يظهر من الأخبار حسن حاله!"[36].
سابعاً: ومن أهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها في المقام أن الروايات مع أنها تحكيان قصة واحدة لكنها تختلف اختلافاً كبيراً في العديد من النقاط والتفاصيل، إلى حد التنافي أو التناقض الكلي بينها، ما يعد أمارة على الوضع، لأنه وكما قيل: "لا حافظة لكذوب"، وتناقضات القصة وأبرز وجوه التنافي
بينها نخصص لها الوقفة التالية.
بالإضافة إلى ما تقدم من الملاحظات، فإن ثمة أسئلة أخرى قد لا يجد الإنسان عليها جواباً مقنعاً، من قبيل أنه يستفاد من الرواية الأولى أن الرجل كان بصحبة أبيه وعمه يسيرون من اليمن إلى الحج وزيارة قبر النبي (ص) مع العلم أنه لم يظهر أنهم كانوا قد أسلموا، وإذا كان ذهابهم إلى الحج قد يفسر
بأنهم يحجون على طريقة أهل الجاهلية، فما معنى زيارة النبي (ص)؟ إن التعبير الملائم في مثل ذلك هو أن يقال: سافرنا بهدف التعرف على خبر النبي (ص) والتثبت من صدقه، وهذا أمر مفهوم، وأما "زيارة النبي" (ص) فلا يعبرُ بها من ليس مسلماً. اللهم إلا أن يقال: إن القوم لعلهم قد أسلموا في اليمن
وقبل رؤيتهم للنبي (ص) وجاءوا لزيارته.
الوقفة السابعة: تناقضات القصة وتضارب رواياتها!
إن التناقضات والاختلافات التي تضمنتها الروايات التي تحكي قصة هذا الرجل أكثر من أن تحصى، وهي تؤشر إلى أن الرجل - على فرض كونه شخصية حقيقية – كاذب مفتر، وسوف نكتفي بالإشارة إلى بعض تلك التناقضات والاختلافات، ونترك الباقي اعتماداً على فطنة القارئ الحصيف:
أولاً: الاختلاف في اسمه واسم أبيه وجده، فقد عرفت أن بعضهم يسميه عثمان بن الخطاب بن عبد الله العوام، وآخرون علي بن عثمان بن خطاب بن مرة، وعن بعض ثالث أن اسمه بكر بن الخطاب، نقل العسقلاني عن إبراهيم بن محمد بن علي (الذي يدعي أنه من ذرية أبي أيوب الأنصاري) أنه ذكر
في تسميته:" أبو حفص بكر بن الخطاب بن حسان.. "، ثم علق العسقلاني:" وقد أغرب في تسمية الأشج وكنيته والمشهور أنه أبو الدنيا عثمان ابن الخطاب كما سيأتي وسماه بعضهم علياً"[37].
ثانياً: الاختلاف في زمن ولادته، ففي حين نجد أن الرواية الثانية للصدوق تؤكد نقلاً عن المعمر المذكور أنه قد كان عمره حوالي ثلاثين سنة عند وفاة النبي صلى الله عليه وآله ووفاة الخليفتين، في المقابل فإن رواية الخطيب ورواية البحار (الرابعة من الروايات الشيعية) تتفقان على "أنه ولد في خلافة
أبي بكر".
ثالثاً: الاختلاف في ذكر أوصافه وملامحه الشخصية، ففي حين تذكر الرواية الأولى أنه يبدو للناظر في عمر " ابن ثلاثين أو أربعين سنة، وأنه أسود الرأس واللحية، شاب نحيف الجسم"، فإنا نجد الرواية الثانية تؤكد أنه عندما أراد الحديث رفع حاجبيه وفتحهما بيديه، في دلالة واضحة على أنه كان شيخاً هرماً.
رابعاً: الاختلاف في عدد الأشخاص الذين كانوا في هذه الرحلة، ففي حين يظهر من بعضها (الرواية الأولى) أن المعمر خرج مع أبيه وعمه فحسب، فإن بعضها الآخر (الثانية) يؤكد أنه خرج مع أبيه ومعهما خادمان، ولا ذكر فيها للعم، كما لا ذكر في الأولى للخادمين، ويظهر من بعضها ( رواية الخطيب البغدادي) أنه كان برفقة أبيه فقط ولا ذكر فيها للعم ولا للخادمين.
خامساً: ونقطة الاختلاف الأخرى بين الروايات هو في تعيين مقصد الرحلة، ففي حين تذكر الرواية الأولى أن المقصد من السفر هو الحج وزيارة النبي(ص) فإن الثانية تؤكد أن المقصد هو العثور على نهر الحياة، الواقع في منطقة الظلمات. وفي رواية "لسان الميزان" المنقولة عن القاضي عبد المجيد بن عبد الله أن الرجل (المعمر) خرج مع أبيه في طلب إبل لهم كانت تائهة، وأثناء البحث عطش فوقع على عين ماء تصب في الصحراء[38]. وأما رواية الخطيب البغدادي فيظهر منها أنه كان يقصد أمير المؤمنين (ع) إبان حكمه في الكوفة.
سادساً: وتختلف الروايات في تحديد المنطقة التي تاهوا فيها، ففي بعضها (الرواية الأولى ) أنهم قد تاهوا في الصحراء في منطقة جبال رملية يقال لها "جبال رمل عالج" المتصلة برمل إرم ذات العماد، وبحسب الثانية فقد تاهوا في منطقة الظلمات التي كان يصعب عليهم فيها التمييز بين الليل والنهار،
وفي رواية الخطيب أنهم تاهوا قريب الكوفة.
سابعاً: مع اتفاق الروايتين الأخيرتين (الثالثة والرابعة) على وجود شجة في جبهة المعمر المذكور وهي علامة فارقة ملازمة له وقد أصابته من لجام فرس أمير المؤمنين(ع)، إلا أنهما تختلفان في تحديد المعركة التي أصيب فيها بهذه الشجة، ففي حين تذكر الروايتان الرابعة والثانية وكذلك رواية
الخطيب أنها حصلت في وقعة صفين، فإن الرواية الثالثة من المصادر الشيعية تذكر أنها حدثت في معركة النهروان.
ثامناً: وتختلف الروايتان الأولى والثانية في تحديد السنة التي حج فيها الرجل إلى بيت الله الحرام وزيارة المدينة المنورة، بصحبة أبنائه وأحفاده، ففي حين تذكر الرواية الأولى أن ذلك كان في سنة 313 للهجرة النبوية، فإن الثانية تذكر أن ذلك حصل في سنة 309 هجرية.
تاسعاً: الاختلاف في تعيين كيفية العثور على ماء الحياة والشرب منه، فبينما تذكر الأولى أن الجماعة عثروا على بئر أو عين وعليها رجلان، فإن الثانية تذكر أن الابن ( وهو المعمر) وبينما كان يطوف في منطقة الظلمات وإذا به يعثر على نهر فشرب منه ورجع ليبشر أباه والخادمين، بينما رواية الكراجكي( الرابعة) ورواية الخطيب تنصان على أنه عثر على عين ماء وبين يديها شبيه بالبركة ( الركية) أو الوادي من مائها، وأنه نزع ثيابه واغتسل من ذلك الماء وشرب حتى روي.
عاشراً: ومن نقاط الاختلاف الأساسية أن الأولى تذكر أنهم وجدوا عند البئر نبيين وهما إلياس والخضر، وقام أحد النبيين بسقي الولد من الدلو، لكن الثانية لا ذكر فيها لهذين النبيين لا من قريب ولا من بعيد، وكذلك فإن روايتي الكراجكي والخطيب لا تتحدثان عن وجود أحد عند العين أو الماء.
حادي عاشر: وتختلف الروايات أيضاً في أمر أساسي آخر، وهو أن الرواية الأولى تذكر أنهم وبعدما حصل معهم ما حصل في ذلك المكان، قد أكملوا المسيرة إلى المدينة فبلغوها وكان النبي(ص) قد توفي كما أخبرهما النبيان، فمرض الوالد في المدينة وتوفي فيها بعد أن أوصى بابنه إلى أمير المؤمنين (ع)، لكن الرواية الثانية تذكر أمراً مغايراً، وهو أن الجماعة بعد الشرب من ماء الحياة عادوا إلى بلادهم وفيها توفي والده، وأما رواية الكراجكي (الرابعة) ورواية الخطيب فإنهما تتحدثان عن أمر مغاير جدا وهو أنه وصل إلى الكوفة والتحق بأمير المؤمنين (ع) عند خروجه إلى صفين.
ثاني عشر: الاختلاف في مولده، ففي حين يظهر من الروايتين الأولى والثانية أنه كان مولوداً في زمان النبي (ص) وذهب مع أبيه وعمه إلى المدينة بهدف لقائه (ص) (كما في الرواية الأولى) بل يظهر من الرواية الثانية أنه كان شاباً عندما بلغهم وفاة النبي (ص)، فإن الذي تنص عليه الرواية الرابعة
أنه ولد في زمن خلافة أبي بكر، وأنه بعد تولي الإمام علي(ع) للخلافة خرج مع والده للقائه(ع). وهذا ما جاء في رواية الخطيب البغدادي، تقول الرواية نقلاً عنه:" ولدت في أول خلافة أبي بكر الصديق، فلما كان في زمن علي بن أبي طالب خرجت أنا وأبي نريد لقاءه"[39].
ثالث عشر: الاختلاف فيمن أخبر المعمر بأن الماء الذي شربه هو ماء الحياة وأنه نتيجة لذلك سوف يعيش عمراً مديداً، ففي حين تؤكد الرواية الرابعة ورواية الخطيب أن الإمام علي (ع) هو من أخبره بذلك، تنص الأولى على أن المخبر هو إلياس أو الخضر، وتنص الثالثة على أن والده أخبره بذلك، ولست أدري من أين استمد والده هذا العلم الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب أو من كان متصلاً بالوحي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة !.
رابع عشر: الاختلاف في اسم المدينة المغربية التي يقطنها المعمر وذريته، فبينما نصت الروايتان الأولى والرابعة على أنها طنجة[40]، فإن الثالثة نصت على أنه"من مدينة بالمغرب يقال لها مزيدة"، ومحاولة الشيخ النوري للتوفيق بين الروايتين بالقول: "ولعل مزيدة من توابع طنجة" لا تستقيم لأن النص المذكور واضح في أن مزيدة مدينة وليست قرية لتكون ملحقة بمدينة طنجة، أجل هناك مدينة مغربية باسم مليلية، ولكن هذا مختلف واحتمال الاشتباه بينهما مستبعد ولا سيما أن المعمر عرف بالمزيدي، وفي مقابل ذلك كله فإن الرواية الثانية أنه يعيش في قرب باهرت العليا، ولعلها تاهرت الجزائرية المعروفة. وفي رواية الخطيب البغدادي جاء اسم المدينة المغربية التي يقطنها :"رندة"، ولعلها تصحيف مرندة كما جاء اسمها في لسان الميزان، حيث نقل في رواية عن المعمر قوله:" خرجت مع أبي من قرية يقال لها مرندة بطلب الحج .."[41]. وهكذا جاء اسمها في الأنساب[42]. وفي الأندلس كان هناك قرية اسمها "رندة" وهي مدينة قد عرفت ازدهاراً أبان الحكم الإسلامي، وإليها ينسب الشاعر الأندلسي أبو البقاء المرندي وهو صاحب القصيدة الشهيرة:
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمان ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان[43]
ومن أبرز وجوه التضارب والتضاد بين الروايات الناقلة لقصة المعمر المغربي: الاختلاف حول موته وحياته، وهذا ما سوف نتطرق إليه في الوقفة التاسعةالآتية.
إلى غير ذلك من الملاحظات التي يمكن تسجيلها على مضمون القصة، ووجوه التضارب التي يمكن رصدها بين رواياتها. مما يجعلنا نرجح أن الرجل لو كان شخصية حقيقية فإن قصته خيالية ولا صحة لها، وقد نسجها من عقله، فلا يصغى إليها لأنها أقرب إلى الأساطير والخرافات التاريخية. يقول العسقلاني بعد نقل جملة من الروايات الناقلة لخبر المعمر:" فإذا أنت تأملت هذه الروايات ظهرت على تخليط هذا الرجل في اسمه ونسبه ومولده ومن عمره، وأنه كان لا يستمر على نمط واحد في ذلك كله فلا يغتر بمن أحسن الظن به"[44].
الهوامش:
[24] رجال النجاشي ص 64.
[25] رجال ابن الغضائري، ص 54.
[26] من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 2.
[27] لسان الميزان ج 1 ص 44.
[28] أعيان الشيعة ج 2 ص 133.
[29] لسان الميزان ج 4 ص 139.
[30] تاريخ بغداد ج 11 ص 296.
[31] من قبيل ما رواه الصدوق بإسناده عن الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام: "إن الخضر عليه السلام شرب من ماء الحياة فهو حي لا يموت حتى ينفخ في الصور .."، أنظر: تمام الدين وكمال النعمة ص 390، وثمّة روايات حول ماء الحياة أو عين الحياة ، انظر: بحار الأنوار ج 13 ص298 - 300، ويظهر من السيد ابن طاووس أن الخبر بذلك متواتر، أنظر: سعد السعود ص 165، لكن هذا الأمر غير متحقق،
[32] لسان الميزان ج 4 ص 136.
[33] لسان الميزان ج 4 ص 139.
[34] تاريخ بغداد ج 11 ص 296. الخطيب البغدادي، أحمد بن علي، (ت 463هـ)، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية - بيروت – لبنان 1417 - 1997 م
[35] المصدر نفسه 11 ص 297.
[36] معجم رجال الحديث ج 13 ص 98.
[37] لسان الميزان ج 1 ص 106.
[38] لسان الميزان ج 4 ص 137.
[39] تاريخ بغداد ج 11 ص 296
[40] وهذا ما يتبناه الكراكجي في كنز الفوائد ص262.
[41] لسان الميزان ج 4 ص 137.
[42] قال السمعاني في ترجمته:" هو من مدينة بالمغرب يقال لها مرندة ، وقد ذكرته في الأشج " انظر الأنساب ج 5 ص 262، عبد الكريم بن محمد ابن منصور التميمي السمعاني المتوفي سنة 562 ه تحقيق: عبد الله عمر البارودي، الطبعة الأولى، دار الجنان للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت – لبنان ، 1408 - 1988 م
[43] مستدركات أعيان الشيعة ج 3 ص 99، حسن الأمين، ( ت 2002 م) ، ط 1 دار التعارف للمطبوعات، بيروت لبنان 1989م.
[44] لسان الميزان ج 4 ص 140.