و جادلهم بالتي هي أحسن

الجمعة 22 ديسمبر 2017 - 18:07 بتوقيت مكة
و جادلهم بالتي هي أحسن

قد تختلف مع الآخرين بأن تلتزم ديناً غير الدين الذي يلتزمون به، أو أن تتحرك في خط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي غير الخط الذي يسيرون فيه، هنا لا ينبغي أن يكون الاختلاف بينك وبين الآخرين وسيلة عداوة.

آية الله السيد محمد حسين فضل الله

قال الله تعالى في كتابه المجيد: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}، ويقول تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.

التعامل بالحكمة

يطرح الله تعالى في هاتين الآيتين وفي غيرهما من الآيات الكريمة على الناس كافة، أن عليهم في كل ما يريدون إبلاغه للناس، وفي كل ما يريدون للناس أن يؤمنوا به، ولا سيما عندما يراد لهم أن يأخذوا بالدين ويؤمنوا بعقيدته ومفاهيمه ومنهجه وشريعته، أن يتحركوا بالحكمة. والحكمة هي أن يضع الإنسان الشيء في موضعه، أن تدرس عقلية الشخص الذي تريد مخاطبته؛ ما هي نقاط ضعفه وقوته، ما هي الأمور التي تحيط به، ثم توجه إليه الكلام بما يتناسب مع ذلك كله، لأن الإنسان الذي يريد أن يفتح عقل إنسان آخر على فكره أو على خطه، لا بد من أن يعرف الطريق التي توصل الفكرة إلى العقل...

وقد ذكرت مراراً أننا في كل العالم في حاجة إلى مهندسين للبيوت التي نسكنها، والطرق التي نسير عليها، وما إلى ذلك مما يراد إخراجه بطريقة متقنة تلبي الحاجة، كذلك نحن في حاجة إلى هندسة من نوع آخر، وهي أن تملك الثقافة التي تمكنك من هندسة الطريق إلى عقول الناس، وقد تحتاج إلى أن تختار الكلمة التي تخاطب القلب في كل مشاعره وأحاسيسه ونبضاته، لأنك عندما تصل إلى القلب فإنه يفتح لك العقل. ونحن نعرف أن كثيراً من الناس آمنوا من خلال المحبة التي يمنحها الداعية للإنسان الآخر، ولذلك كانت المحبة هي الأساس الذي ركزت عليه كل الرسالات، ففي كلمة السيد المسيح(ع)، عندما أراد أن يختصر معنى الله في وعي الناس وعلاقتهم به قال: "الله محبة"، فالله تعالى أحب الخلق فخلقهم وأعطاهم كل هذا الوجود، وأنعم عليهم ورحمهم وغفر لهم، وهكذا نجد أن النبي (ص) قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها".

فأنت لا تستطيع أن تقنع الناس بالعنف والقسوة، ولكنك تستطيع أن تنقذهم بالمحبة والكلمة الطيبة التي تنطلق من قلب طيب ولسان لين، وهذا ما تحدث الله تعالى به عن النبي (ص): {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}. ولذلك، فإن الله تعالى يقول لنا عندما يحدثنا عن الحكمة التي أراد للنبي ولمن يتحرك في خطه أن يتحلى بها عندما يدعو إلى سبيل ربه، إلى أن علينا أن نقدم لمن ندعوه الموعظة التي تدخل إلى القلب من خلال أسلوبها الطيب الرقيق، ولتنفذ بعد ذلك إلى العقل.

أسلوب الحوار المثمـر

قد تختلف مع الآخرين بأن تلتزم ديناً غير الدين الذي يلتزمون به، أو أن تتحرك في خط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي غير الخط الذي يسيرون فيه، هنا لا ينبغي أن يكون الاختلاف بينك وبين الآخرين وسيلة عداوة. هب أنك تختلف معه: لك دين وله دين، لك فكر وله فكر، لك خط وله خط، ولكن ادرس المسألة بعقلك: لقد عاش هذا الإنسان في ظروف ثقافية أو اجتماعية جعلته يلتزم هذه الفكرة الدينية أو السياسية أو الثقافية، كما أن التزامك بهذه الفكرة كانت من خلال ظروفك، البيت والمدرسة والمجتمع، فلا تعنف مع الآخر عندما يختلف معك، ولا تقابله بالكلمة القاسية ولا ترجمه بالحجارة، ولكن قل له: تعالَ لنتجادل، والجدال هو الحوار الذي يتحرك في الخطوط الفكرية، لأقدم وجهة نظري والحجة التي أحتج بها، ولتقدم أنت وجهة نظرك، فإما أن تقنعني أو أقنعك، أو نتفاهم لأعرف كيف تفكر ولتعرف كيف أفكر، والحوار هو وسيلة للإقناع وللتفاهم.

فالخط الإسلامي ينطلق على أساس الوضوح والغموض. عندك فكر أو خط أو وجهة نظر اكشفها للناس، وليكشف الناس عن خطهم وفكرهم، وإلا لماذا يتقاطع الناس؟ لأن كل إنسان يخاف من المنطقة الخفية عند الآخر، والحديث المروي عن الإمام علي(ع) يقول: "لو تكاشفتم ـ لو أبرز كل واحد وجهة نظره، فلا تبقى هناك منطقة خفية يخاف منها الآخر ـ ما تدافنتم"، فالحوار الذي يشجعنا الإسلام عليه يؤدي إلى الوضوح بين بعضنا بعضاً. فإذا أردت أن تدخل مع أحد في هذا الجدال، فعليك أن تجادله بالتي هي أحسن، حتى يمكن أن تقتحم قلبه لتقتحم عقله.

وهكذا، يركز الإسلام على الحوار بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب الذين يلتقون مع الإسلام في الخط التوحيدي، مع الاختلاف في مفردات التوحيد، فإذا أردنا أن نجلس مع النصارى للنظر في مسألة الدين النصراني، ومع اليهود للنظر في مسألة الدين اليهودي ـ باستثناء الذين ظلموا، لأن الظالمين لا يحاوروننا بل يظلموننا، ولذلك لا حوار معهم ـ فإن عليك أن تجادلهم بالتي هي أحسن، بأن تختار الكلمة الأحسن والظروف الأحسن والمناخ الأحسن للحوار، وقد قال الله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا ـ نؤمن بالقرآن ـ وأُنزل إليكم ـ فإننا نؤمن بالإنجيل والتوراة ـ وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}، والإسلام لله، هو أن يجعل الإنسان نفسه تحت نظر الله والالتزام بخطه.

هذا هو خط الحوار والدعوة لمن نريد أن نجذبه إلينا ونقنعه بوجهة نظرنا، وخط الجدال مع الذي نختلف معه في الدين والسياسة والاجتماع، وهذا أمر يتحرك في كل خلية اجتماعية. ففي البيت، لا إشكال أن الزوج عاش في بيئة ـ غالباً ـ تختلف عن البيئة التي عاشت فيها الزوجة، فهما يحملان أفكاراً قد تختلف حتى على مستوى المشاعر والأحاسيس، والعقد الزوجي لا يمكن أن يساهم في إلغاء طرف للطرف الآخر، فيحاول الزوج أن يجعل زوجته صورة عن قناعاته وفكره وتقاليده وأحاسيسه، وحتى النبي(ص)، لم يعطه الله تعالى مثل هذه الصلاحيات: {...أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}، {فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمصيطر}، فالله هو وحده الذي يغير الإنسان، ومع ذلك لم يتدخل ليفرض عليهم الإيمان: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}، فالله تعالى ركز الحياة الزوجية لا على أساس أن يلغي أحدهما الآخر، بل أمر الرجل والمرأة أن يختار كل منهما من يتناسب معه، وإذا لم يقدرا على ذلك، لأن الناس عادة تختلف في طبائعها وعاداتها، فعلى الأقل أن يعيشا في جو من الحوار والجدال بالتي هي أحسن، وأن يتعاطا مع الأمور بحكمة من خلال دراسة نقاط الضعف والقوة عند الطرفين، فلا يستطيع الزوج أن يفرض فكره على زوجته أو أولاده، ولا هي تستطيع أن تفرض نفسها وفكرها عليه.

امتلاك ثقافة الحوار

وهناك نقطة مهمة، وهي أن بعض الناس قد يدخل في الجدال في ما لا علم له به، ككثير من الناس ممن يسمعون كلمة يعتبرون أنها الحقيقة، والله تعالى يقول: {ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم}، فأنت لا تملك الثقافة الفقهية والتاريخية والفكرية لكي تناقش فلاناً في ما حمله على الإفتاء بفتوى ما، أو طرح فكرة تاريخية معينة، ككثير من الأجواء التي تجعل الناس يغسلون أدمغة المراهقين بطريقة عصبية وحزبية وطائفية، ويدفعونهم لإثارة الجدال والنقاش في ما لا يفهمون وما لا اختصاص لهم به. من حقك أن تدخل في جدال وحوار مع الآخرين، ولكن على شرط أن تملك ثقافة هذا الحوار، أما إذا كنت لا تملك هذه الثقافة، فإن الحوار سوف يتحول إلى سباب وشتائم واتهامات، وهذا ما نعيشه في مجتمعنا الشرقي.

إن الله تعالى يريد لنا أن نعيش إنسانيتنا في إنسانية الآخر، وهو تعالى خالق السموات والأرض، ذو العظمة المطلقة، ومع ذلك فإنه حاور آدم(ع)، وحاور إبليس، وحاور الملائكة. وفي الخط الإسلامي، نجد أن النبي(ص) حاور الكافرين والمشركين، ومن هنا قلنا مراراً: في البدء كان الحوار... فالحوار هو الذي ينشر السلام في البيت والمجتمع والعالم. لذلك، نحن، كمسلمين، في حاجة في هذا العالم إلى الحوار مع العلمانيين والغربيين، لأن هذا هو الطريق لكي تربح عقل الإنسان وفكره، ولكن من شروط الحوار أن تكون مستعداًَ لأن تقبل إذا اقتنعت وتلتزم، وأن يكون لك علم في ما تناقش فيه، وقد قال الله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد}، {إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان آتاهم إن في صدورهم إلا كبرٌ ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير}.

نحن نعيش مشاكل كبيرة جداً على مستوى الدين والمذهب والسياسة والاجتماع والاقتصاد، فلنتعلم كيف نصنع حلاً لهذه المشاكل التي ننتجها بأنفسنا. إننا متعَبون ومحاصَرون، فلماذا نبحث عما يُتعبنا أكثر؟ لماذا لا نتعاون على أن نجعل مجتمعنا مرتاحاً فكرياً وثقافياً ومعنوياً من خلال الحوار؟ {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.

المصدر: موقع بينات

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الجمعة 22 ديسمبر 2017 - 17:51 بتوقيت مكة