دقائق قليلة اعتقد أنها كافية لإقناع العالم بجملة أكاذيب وأضاليل تبرر جريمة ً لا أخلاقية سياسية متهورة تضرب عرض الحائط بكافة الجهود الدبلوماسية لعشرات الدول ومنها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وتشكل مخالفة ً سافرة لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومنها ما يمنع “إسرائيل” بالمطالبة بفرض سيادتها على كامل المدينة, والأهم هو التلاعب بمصير فلسطينيون ضحوا ودافعوا عن حقوقهم ووجودهم وأسوار مدينتهم المقدسة سبعون عاما ً.
فقد اعتبر ترامب أن (“إسرائيل” دولة ً ذات سيادة ولها الحق في تحديد عاصمتها كغيرها من الدول , ووجد فيها واحدة ً من أنجح الدول الديمقراطية في العالم, وأن القدس هي العاصمة التي أسسها الشعب اليهودي في الزمن القديم, واستطاعوا أن يجعلوها بلدا ً يعيش فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون بحرية ويمارسون عباداتهم وفق معتقداتهم), متجاهلا ً حقيقتها العدوانية العنصرية التي قامت على أساس إغتصاب الأراضي الفلسطينية وتهويدها , وما إرتكبته بحق أهلها من أبشع الجرائم والمجازر, وأفظع أساليب العنف والقمع بعدما ملئت سجونها بالأبرياء وطلاب المدارس وحتى المصلين, وتجاهل عنصريتها وأحلامها وأهدافها بإقامةٍ دولة يهودية لم تحترم يوما ً مقدسات الغير ولم تتورع عن تدنيس مساجدهم وكنائسهم عبر ممارساتٍ مدروسة وممنهجة على طريق طردهم وإخراجهم منها, والأهم فقد تجاهل عروبتها وأصالة شعبها وتاريخية وجودهم وجذورهم فيها, وأنها عاصمتهم منذ الأزل وإلى الأبد, وأنهم خاضوا من أجلها عشرات الحروب وواجهوا الطغاة والغزاة وكل من سبق الإسرائيليون في غزوها وإحتلالها, وحافظوا على أرضهم وتمسكوا بالقدس كعاصمة ً لهم عبر التاريخ.
لم يفاجِئ دونالد ترامب أحدا ً بهذا القرار, بل جاء تتويجا ً وحصيلة ً لمجمل عواملَ تتعلق بشخصه كرئيس ٍ للإدارة الأمريكية الحالية وعلى خطى الرؤساء والإدارات السابقة التي لطالما كانت الداعم الأول لقيام هذا الكيان وحمايته وتمكينه من تكريس مشروعه بإقامة الدولة اليهودية على الأرض الفلسطينية , بالإضافة إلى حالة الشرذمة والضعف والتفكك العربي والتي وصلت حد العمالة والخيانة لمعظم الحكام والحكومات العربية , اللذين نقلوا عروشهم وإمكاناتهم من كتف العروبة إلى كتف الصهيونية و كانوا “خير” عبيد لأعتى وأشرس قوى الإحتلال والإرهاب حول العالم , ولم يعد الحديث عن فضحهم وإثبات عمالتهم أمرا ً صعبا ً , فقد بلغوا من الوقاحة حد الإعلان والكشف عن علاقاتهم السرية والعلنية وتحوّلهم عن العداء الصهيوني واستبداله بالعداء لأعداء واشنطن و”إسرائيل”.
فأصبحت دولة إيران وسوريا وحركات وأحزاب وفصائل المقاومة وكل من حمل راية الدفاع عن الإنتماء والهوية والحقوق العربية عدوهم الأول , وباتت “إسرائيل” الحليف والصديق وربما الشقيق .. وخاضوا بالنيابة عنها حروب “الربيع العربي” المزور , وتصدروا معركة تصفية القضية الفلسطينية وتدمير عواصم المقاومة في سوريا والعراق ولبنان واليمن …إلخ, وبتنا نسمع مواقف لساسة العالم العربي يندى لها جبين الإنسانية , فذهب بعضهم نحو تحرير فلسطين سلما ً ! وبرفضِ حمل السلاح وتشكيل فصائل مقاومة على غرار حزب الله اللبناني , وبإعتبار المقاومة إرهابا ً, وقبول مبدأ تبادل الأراضي , وكل ما يجري الحديث عنه من صفقة القرن التي تكشفت بعض فصولها وستؤدي حتما ً إلى ضياع الحقوق العربية مقابل حفنة من مليارات الدولارات, إن تسويق مفهوم المقاومة تحت مسمى الإرهاب من قبل حكام اّل سعود ومن لفّ لفهم لم يكن إلاّ مقدمةً لتقديم الوطن الفلسطيني هديةً للكيان الصهيوني على طبقٍ من خذلانٍ وتآمرٍ عربي – صهيو- أميركي .. فشرفاء الامة والغيارى والمقاومون لن ينتظرون صحوةً عروبية شاملة لغسل عار من تخاذلوا وتاّمروا , ولن ينتظروا زمنا ً يُصلح ويُنعش الآمال بعدما أفسدها دهر العمالة والخيانة.
فقد ساهمت غالبية الأنظمة الرسمية العربية بفعالية كبيرة في دعم الحركة الصهيونية بقبولها إستبدال أدوات الصراع السياسية – القومية بصراعٍ ديني يمنح قادة العدو الإسرائيلي فرصة إثبات الذات وسط صراعاتٍ دينية تغطي مساحة المنطقة , فالصراع بحسب وعد بلفور كان بمنح الصهاينة أرضا ً لتكون وطنا ً قوميا ً لهم , لكنهم أرادوها هروبا ً من مفهموم خيالي أجوف لا يملكون فيه الحد الأدنى من عوامل نشوء الأمم والقوميات بما يساعدهم على الوصول لهدفهم “المنشود” وفضلوا خوض المعركة على أساسٍ ديني عنصري صرف تماهيا ً مع ما يُبيح لهم طرد كل عربيٍ وغير يهودي من أرض فلسطين, الأمر الذي دفعهم لتسويق الصراع الديني بأدواته و مصطلحاته الخاصة , واختاروا الإستفراد بمكونات الشعب الفلسطيني , فكان إستهداف المسيحيين وتهجيرهم أولا ً, و من ثم العبث وإشاعة الفتنة بين المسلمين والدفع بالصراع السني الشيعي ليكون بوابة الصراع القاتل , فإنقسم العرب بين محورين ووقف نصف الأمة بمواجهة نصفها الاّخر والعدو الصهيوني يقود الحرب نحو تدمير الطرفين.
لم يكن غالبية العرب أذكياء بما يكفي , إذ ساروا بركب تحويل الصراع القومي إلى صراع ديني من دون وعي وحسابات متقدمة, ولم يعرفوا أن دفاعهم الأساسي هو عن دولة فلسطين وهويتها و إنتماءها العربي بما يشمل الأرض والشعب والمقدسات , وما يشكل من واجبٌ وطني وقومي وإنساني مقدس يُلزم جميع الفلسطينيين وجميع العرب والأحرار في العالم بالدفاع والوقوف معهم , ولو فعلها العرب لما وقعوا فريسة الفتن الطائفية والمذهبية التي استغلها أعداء الأمة واجتهدوا لتشويه الدين الإسلامي عبر عروش البدع الدينية في الخليج (الفارسي) وشيوخ فتنهم المأجورين ما مكن العدو من تحقيق أهدافه كاملة ً لولا صمود الدولة السورية ومن وقف إلى جانبها من المقاومين والشرفاء الكثر في عالمنا العربي.. ولكانت نصف الدول العربية الاّن تحت حكم الإخوان المسلمين بالقيادة التركية ونصفهم الاّخر تحت القيادة التلمودية الوهابية بالقيادة الإسرائيلية المباشرة , ولكان عدد الدول والدويلات العربية يسجل رقما ً قياسيا ً بين الأمم, أعتقد أنه من المناسب و ربما من الواجب أن تشكر الشعوب العربية كافةً الدولة السورية قيادةً وجيشاً وشعبا ً , فصمود سوريا أعاد الأمل إلى الأمة العربية بالنهوض مجددا ً وبمواجهة ما تبقى من المشروع الصهيو– أمريكي الذي تم ويتم إستكمال دحره بالقضاء على جحافل الجيوش الإرهابية في “داعش” و “النصرة” وغيرها على إختلاف مسمياتها عن أرض سوريا و العراق .. وندعو شرفاء الأمة ومقاوميها للإلتفاف حول قيادة الرئيس بشار الأسد وكافة قادة المقاومة الحقيقيين كسماحة السيد حسن نصر الله ليقودوا الأمة نحو إستعادة كرامتها وتعزيز هويتها وإنتماءها العربي الأصيل والزود عن حياض الأمة و إستعادة حقوقها وعلى رأسها تحرير دولة فلسطين العربية وعاصمتها القدس الشريف .
ويبقى من اللافت إختيار دونالد ترامب توقيت إعترافه بالقدس عاصمة لليهود وتوقيعه صك نقل السفارة الأمريكية إليها, فكما هو معروف أن واشنطن – ترامب وفريقه الإرهابي الدولي والإسرائيلي والخليجي , يعيشون أزمة حصاد هزائمهم في سورية و العراق واليمن ولبنان , وهزائم كبرى في الشرق الأوسط خصوصا ً بمواجهة إيران , وهزائم دولية بمواجهة روسيا وحلفائها من جهة , وبمواجهة خصومها و منافسيها في أوروبا و الشرق الأقصى والأدنى من جهة أخرى , وتعاني من إحراجٍ كبير في مواجهة الرعيم الكوري , ناهيك عن أزمات داخلية تتعلق بخلافاتٍ عميقة جسدها إعلان ترامب الأخير من البيت الأبيض وليس عن طريق وزارة الخارجية , وسط معلومات عن رفض وزير الدفاع الجنرال ماتيس ووزير الخارجية تيلرسون هذا الإعلان , في وقتٍ لا تحقق هذه الخطوة أية مصلحة أو مكسب للإدارة الأمريكية , فما فعله ترامب قوبل بإستجانٍ فلسطيني وعربي ودولي كبير رصدته الصحافة الغربية والأمريكية , فالغارديان البريطانية رأت أن قرار ترامب “يعيد إلى الأذهان أيام الغضب وقد تليها سنوات من الغضب” , فيما اعتبرت اللوموند أن ترامب “زاد من عزلته” , أما لوفيجارو فإعتبرت أنه بقراره هذا “وحد المسلمون شيعةً و سنةً من طهران إلى الرياض وأنقرة تحت عنوان القدس خطٌ أحمر”, هذا يقودنا إلى البحث عن السبب الأكثر واقعية ً, وسعيه لما يحفظ ماء وجهه , أو ما يجد فيه تعويضا ً عن هزائمه وهو على أعتاب نهاية الحرب في سوريا وحتمية خروج وإخلاء العسكريين الأمريكيين قواعدهم هناك , وربما من باب حرف الأنظار عن عملٍ عسكري كبير قد يقدم عليه مجنون البيت الأبيض تجاه حزب الله في لبنان أو تجاه سوريا أو إيران و ربما كوريا الشمالية.
لا يسعنا إلاّ أن نحيي بطولة الشباب الفلسطيني الذي أثبت و يثبت في كل يوم أنه شعب لا يقهر ولا يستكين قبل تحقيق المراد ودحر المحتل , ويليق بقادة الدولة الفلسطينية وقادة حركات المقاومة وفصائلها المسلحة أن تضع خلافاتها جانبا ً , وأن يحذوا حذوها قادة وحكام النظام الرسمي العربي , و أن يستغلوا التهديد الجديد بالتوحد على أسس الهوية والإنتماء العربي والبوصلة الفلسطينية , فالمغامرة والمقامرة الأمريكية فشلت والزمن هو للتوحد و للتكفير عن “الذنوب” فالشعوب العربية بلغت من الوعي والرشد ما سبق قادتها بأضعاف و ربما يكون الوقت مناسبا ً للم الشمل والوقوف وقفة رجل واحد في دعم الإنتفاضة الرابعة التي تتضح معالمها بسرعة كبيرة , ففلسطين تحتاج جهود ومقدرات كل الأمة , ولا بأس أن تتقدم الشعوب حكامها , وأن تصل متأخرا ً خيرا ً من ألاّ تصل , فلن تهزم الشعوب الحية المقاومة ومن له اّذان فليسمع.
المهندس : ميشيل كلاغاصي
المصدر : شام تايمز
31