هادي قبيسي**
لم يمر النفوذ الأمريكي في منطقة غرب آسيا بمرحلة تراجع وانحسار كما هو اليوم منذ عام 1979، كما لم يمر محور المقاومة بحالة من القوة والتكاتف والخبرة والإنجازات كما هو اليوم منذ عام 1979 كذلك، لم يكن الكيان الغاصب الجاثم على أرض فلسطين على هذا القدر من الضعف في مواجهة قوة المقاومة المتعاظمة على كل صعيد كما هي اليوم منذ تأسيسه عام 1948، كما لم تكن الأنظمة العميلة في منطقتنا بهذا الوضوح والصراحة في خدمتها لهذا الكيان الغاصب منذ تأسيسه عام 1948، كما لم يسبق أن وصل إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية رئيس بهذا المستوى من الجهل بالسياسة في مجالاتها المختلفة كما هو الرئيس الحالي، ولم يمر نظام آل سعود الراعي الأول للمصالح الأمريكية في المنطقة بحالة التوريث للجيل الثالث التي وصل إليها الآن.
في هذه المرحلة المصيرية والتاريخية من الصراع بين الإستعمار الخارجي وأدواته الإقليمية وبين قوى الاستقلال والحرية والمقاومة في منطقتنا، تأتي خطوة الولايات المتحدة الأمريكية لاختطاف القدس الشريف وتسليم المدينة إلى الكيان الغاصب، والاعتراف بها عاصمةً نهائية له. ولهذه الخطوة أسباب وأبعاد ومقاصد وتداعيات.
في الأسباب ما يتعلق بالظرف الأمريكي والسعودي والصهيوني، ولكلٍ دوافعه واستهدافاته. الأمريكي ترامب يحتاج إلى إنجاز في أي مكان ليغطي الأزمة الداخلية والحروب الإعلامية والقضائية التي تُشنُّ عليه من خصومه السياسيين، وقد وصلت التحقيقات في الدور الروسي في انتخابه إلى الدائرة اللصيقة به من الشخصيات. ومن ناحية أخرى هو يحتاج إلى الوقوف بشكل واضح وحاسم إلى جانب إسرائيل لحمايتها من تداعيات تفكك الجيوش التكفيرية التي كانت تشكل خطَّ الدفاع الأول عنها.
السعودي يمر بظروف استثنائية لم تحصل منذ تأسيس الكيان العائلي والنظام الملكي الوهابي، السلطة تنتقل إلى الجيل الثالث، وسط صراعات وخلافات ومنافسات من شخصيات كبرى ومؤثرة وذات ارتباطات دولية، كما يعاني من استنزاف اقتصادي هائل سببته المشاركة الأولى في حرب عسكرية مباشرة بدلاً من استخدام الوكلاء، كما كانت الحال طوال تاريخ المملكة الوهابية، وقبل ذلك فشل القوى التكفيرية التي تمثل مصالحه وتستنزف محور المقاومة في سوريا والعراق، هذه العوامل مجتمعةً يضاف إليها ضعف الإدارة وسوء الخبرة، دفع نحو التفكير في ما يعرف بـ"صفقة القرن" والإجهاز على ما تبقى من القضية الفلسطينية، من خلال إرضاخ الفلسطينيين بشكل نهائي، وبذلك تُسحب الذريعة ويسقط مبرر وجود المقاومة بقبول الفلسطينيين بالتخلي عن أرضهم وبلدهم، ويصبح ممكناً الإنقضاض على حركات المقاومة وفصائلها والتخلص من التهديد الذي تمثله تجاه إسرائيل والنظام الإقليمي المبني على أساس وجودها وبقائها، وقد مهَّدت السعودية لذلك عبر وسم حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية بصفة الإرهاب مؤخراً.
الكيان الصهيوني الغاصب هو الآخر يعيش ظروفاً غير مسبوقة في التهديدات التي تحمَّلها، فمع انهيار التكفيريين كخط دفاع كان من المأمول أن يستمرَّ لعشرات السنين، غدت إسرائيل في قلق وجودي يومي، تبحث عن ضمانات لعدم تعرضها للهجوم من محور المقاومة، الذي تطور بعد الحرب التي بدأت عام 2011 بشكل هائل في كل الإتجاهات، فقد نشأت قوة لم تكن موجودة في العراق، قوة كفوءة ومنجزة ومستعدة لخوض الحروب الكبرى والمكلفة، تملك التماسك والإنضباط والإستعداد الهائل للتضحية، وتملك الوعي وإمكانية نقل الوعي حول من هو العدو الحقيقي وأين يجب أن تتجه البوصلة. في سوريا كذلك أصبح لمحور المقاومة قوة فعَّالة ومجربة ومنجزة وقادرة على العمل ضمن تشكيلات مقاومة متعددة الجنسيات وخوض حروب واسعة والإنخراط في معارك متزامنة ومتنوعة الأشكال. اليمن مرشحٌ للتأثير على الممر الحيوي في باب المندب مستقبلاً، وهذا كذلك يهدد الأمن الاقتصادي لإسرائيل. مضافاً إلى الهزائم المتكررة للجيش الإسرائيلي أمام المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وعدم حيازة الجيل الجديد من المقاتلين لأي تجربة ناجحة، وتطور القدرات الصاروخية لمحور المقاومة بشكل كبير جداً، إلى جانب عناصر عسكرية وأمنية تفصيلية يتشكل منها ميزان قوة يهدد وجود إسرائيل. لكل هذه الأسباب تحتاج إسرائيل اليوم إلى إنهاء القضية الفلسطينية وحضانة عربية رسمية علنية وشاملة، تضفي بعض الطمأنينة على الكيان الغاصب، وتسمح مستقبلاً بالتحالف العسكري العربي الإسرائيلي للدفاع عنه في حال التعرض للحرب.
هذه هي آمال وطموحات المحور الأمريكي في هذه اللحظات الحساسة والتاريخية من الصراع، فهم يتطلعون إلى تغيير جذري في طبيعة الصراع، عبر حذف البؤرة المركزية له؛ فلسطين، من قائمة القضايا الدائمة الاهتمام لدى شعوب المنطقة وقواها الحية، لكن السؤال الهام : هل سيؤدي هذا السلوك إلى تحقيق النتائج المرجوة ؟
القوى الثلاثة الرئيسية : ترامب، السعودية، الكيان الغاصب، تتحرك بدوافع القلق والخوف أكثر مما تشتغل وفق خطة وضعت في ظروف طبيعية، تسمح لها بالإمساك بزمام المبادرة وتحديد التوقيت والشكل الأنسب، بل إنَّ كلاً منها يعيش ظروفاً استثنائية وخطيرة، تدفعه إلى التحرك في الإتجاه الذي يراه ممكناً، أو يحتمل ولو بنسبة غير كافية أن يؤدي به إلى الخروج من أزماته. إذا كان المحور الصهيوني يطمح إلى إلغاء القضية الفلسطينية فإنه بهذا السلوك يعيد إحياءها وإعادتها إلى قلب الأحداث، بعد أن عمل لسنين طويلة على إخراجها من دائرة الضوء وإعطاء الأهمية والأولوية لصورة المجازر التكفيرية وجرائم ما يسمى بالسلفية الجهادية، وإن كان يراهن على تغيُر الوعي الإسلامي خلال السنين الماضية تجاه القضية المقدسة، وبأن شعارات الصراع المذهبي قد غدت هي الأساس، فإنه بهذا القرار يعيد توحيد المسلمين حول قضيتهم الأساسية. فهذا قرار العاجز لا القادر.
**كاتب وباحث لبناني
المصدر: arabic.khamenei.ir