فمن الواضح أن حلفاءه الأقرب في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات ارتكبوا خطأ أكبر عندما لم يتخذوا موقفا قويا رادعا له، وتحذيره من تبعات قراره هذا، والانحياز إلى الثوابت العربية والإسلامية، ومشاعر الغضب المشروع التي تجتاح الشارعين العربي والإسلامي حاليا، وهو موقف رقص له الإسرائيليون طربا في إعلامهم.
عندما يردد آلاف من المحتجين الغاضبين في مختلف أنحاء الأردن الشعارات المنددة بالأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، وتتهمه بالعمالة للولايات المتحدة، ولأول مرة في تاريخ هذا البلد، ويواجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الهتافات نفسها في أكثر من بلد عربي، وتعتقل قوات أمنه حفنة من المتظاهرين كسروا الحظر الرسمي وتجمعوا أمام نقابة الصحافيين، فهذا لا يعني تصنيف محور "الاعتدال" العربي في خانة أمريكا و"إسرائيل"، وإنما بداية تفككه وعزلته العربية والإسلامية أيضا.
لا نعرف على أي أسس يبني هذا "المحور" قواعد استراتيجيته في المنطقة، ووفق أي معايير يحدد عقيدته العسكرية والسياسية معا، ولكن ما نعرفه أن خصوم هذا "المحور" الإقليميين يجنون ثمار هذه الأخطاء، ويخطفون الشارع العربي، والأهم من ذلك، يصنفونهم في خانة المتعاونين مع السياسات والمواقف الأمريكية الحالية الداعمة للعنصرية الإرهابية الإسرائيلية في وقت تتغير فيه معادلات القوة، والتحالفات بسرعة في المنطقة، على حساب تراجع النفوذ الأمريكي.
من الصعب علينا الجزم بمن ضلل الآخر، فهل ضلل الرئيس ترامب حلفاءه "المعتدلين" عندما اعتقد بأن انشغالهم بأزماتهم الأخرى، مثل التدهور الاقتصادي (مصر)، أو الحرب في اليمن، وبروز "الخطر الإيراني"، أهم من الانشغال بقضية القدس، وفلسطين بالتالي، التي باتت مهمشة وتحتل ذيل اهتمام الشارع العربي والعالم، أم أن هؤلاء الحلفاء هم الذين ضللوا ترامب عندما أكدوا له أن الشارعين العربي والإسلامي في حال موت سريري، وأن عليه أن يمضي قدما في مخططاته بنقل السفارة، والاعتراف بسياسة فرض الأمر الواقع الإسرائيلية بالقوة في كل فلسطين المحتلة، وأيا كان المضلل، أو المضلل، فإن هذه "الصدمة" ستطلق شرارة الصحوة في العالمين العربي والإسلامي.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التقط هذه اللحظة التاريخية بطريقة بارعة، وقرر توظيف أخطاء محور الاعتدال وانحيازه لأمريكا، الذي يحتل قائمة الأعداء بالنسبة إليه، لخدمة "زعامته" المتسارعة للعالم الإسلامي التي يعمل على تكريسها حاليا بعد تحوله إلى محور المقاومة الذي يضم إيران والعراق وسورية و"حزب الله"، وإدارة ظهره للغرب الأوروبي والولايات المتحدة، ولا نستبعد أن يكون المؤتمر الطارىء لمنظمة التعاون الإسلامي، الذي دعا إلى عقده في اسطنبول يوم الأربعاء المقبل للرد على الإهانة الأمريكية، هو الخطوة الأبرز على طريق تكريس هذه الزعامة.
القيادة السعودية "ترشي" الرئيس ترامب بأكثر من 500 مليار دولار استثمارات وصفقات أسلحة، وتطبع علاقاتها بشكل متسارع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتعطي الضوء الأخضر لبعض كتابها لتحسين صور اليهود والإسرائيليين والإشادة بهم باعتبارهم لم يقتلوا سعوديا واحدا، وتجريم الفلسطينيين أصحاب القضية العربية والإسلامية العادلة، وضحايا العدوان الإسرائيلي الأمريكي (فهل قتل الفلسطينيون سعوديا واحدا؟)، كل هذا من أجل الإعداد لحروبها المفترضة القادمة مع إيران، ولكنها لا تعلم أنها بمثل هذه التوجهات تقدم المكافأة التي تنتظرها القيادتان التركية والإيرانية دون أن تخسرا دولارا واحدا في المقابل.
دولتان رئيسيتان خرجتا من تحالف الاعتدال العربي حتى الآن هما الأردن والمغرب، ولا نستغرب أن تكون مصر هي الثالثة التي تحذو الحذو نفسه في المستقبل القريب، في ظل حالة الغليان التي تجتاح الشارع المصري حاليا بسبب التنازل عن جزيرتي "تيران" و"صنافير" للسعودية أولا، وتزايد التقارير عن مشروع إقامة وطن بديل للفلسطينيين في سيناء ثانيا، وتزايد أعمال القمع ومصادرة الحريات مع استمرار الأزمة الاقتصادية، وفشل معظم الحلول لعلاجها ثالثا.
لا نعتقد أن الدكتور أحمد الطيب جمعة، إمام الأزهر أحد أبرز المرجعيات الإسلامية في العالم، والبابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية، كانا يتصرفان من تلقاء نفسيهما عندما أعلنا رفضهما بشكل قاطع طلبا رسميا سبق ووافقا عليه، بلقاء مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي يوم 20 كانون الاول (ديسمبر) الحالي في إطار جولة عربية، احتجاجا على اعتراف إدارته بالقدس عاصمة للدولة الإسرائيلية الذي وصف بأنه باطل شرعيا وقانونيا، ويزور أصحابه التاريخ، ويسلبون حقوق الشعوب ويعتدون على مقدساتها.
هناك تفسيران لهذا الموقف المشرف من الدكتور الطيب رجل السلطة، وأبرز مؤيدي محور "الاعتدال العربي" وسياساته، والبابا تواضروس الذي يحظى باحترام كبير مصريا وعربيا:
الأول: أن يكونا أقدما على هذه الخطوة بطلب من الرئيس عبد الفتاح السيسي في محاولة لتوزيع الأدوار، واسترضاء الشارع المصري، ومحاولة امتصاص غضبه واحتقانه، وهو الشارع الوطني الذي لا يمكن أن يقبل أي تفريط بالقدس والقضية الفلسطينية اللتين قدم آلاف الشهداء لنصرتهما على مدى عقود.
الثاني: أن يكون شيخ الأزهر والبابا تواضروس ينطلقان من موقف وطني مسيحي وإسلامي مستقل، ومتمرد، على المؤسسة السياسية في بلادهما ومواقفهما المتهاونة تجاه الاعتداءات الإسرائيلية المدعومة أمريكيا على المدينة المقدسة وكنائسها ومسجد أقصاها وقبتها، ومحاولة تهويدها، ومسح هويتها العربية والإسلامية بالتالي.
ربما من المبكر ترجيح هذا التفسير أو ذاك، فالأمور في بداياتها، ولكن ما نحن متيقنون منه، أن مصر التاريخ والحضارة، والريادة، والإرث الوطني الضخم، الممتد لقرون، لا يمكن أن تسكت على هذا الفجور، وهذه الإهانات الأمريكية والإسرائيلية، وتتحول إلى أداة لتمرير مخططات التهويد للأرض والمقدسات في فلسطين.
فعندما يطالب شيخ الأزهر أهل الرباط في القدس، وكل فلسطين بإشعال فتيل الانتفاضة الثالثة، فإن هذا تحول خطير في موقفه، سواء كان بإيعاز من الحكومة أو تمردا على سياساتها المتواطئة مع رئيس أمريكا السمسار والأهوج.
قمة التعاون الإسلامي التي سيتزعمها الرئيس أردوغان في اسطنبول يوم الأربعاء القادم تأتي ردا، ومن ثم نسخا، للقمة الإسلامية التي عقدتها السعودية في الرياض في شهر أيار/ مايو الماضي، ترحيبا بالرئيس ترامب وحريمه، وتتويجا لزعامته لمحور الاعتدال، أما غضبة شيخ الأزهر هذه، فإنها رسالة سواء من الرئيس السيسي أو إليه، بأن استمرار حشر مصر في القفص السعودي الخليجي ورهاناته الأمريكية، لن يعمر طويلا، إن لم يكن قد اقترب من نهايته بطريقة أو بأخرى.
بالقدر نفسه من الأهمية يمكن الحديث عن التمرد الأردني الرسمي والشعبي على الهيمنة السعودية على القرار العربي، وذهاب الملك عبد الله الثاني إلى اسطنبول في أقوى إشارة في هذا الصدد، لتكريس مصالحة، ثم تحالف، بين المرجعيتين الإسلامية العثمانية والهاشمية، ومقدمة لتوسيعه بحيث يشمل قم والنجف الأشرف.
ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأمريكي، نصح القيادة السعودية بالتحلي بأكبر قدر من الهدوء في التعاطي مع ملفات أزماتها وخلافاتها في اليمن ولبنان وقطر، ومراجعة سياساتها في هذا المضمار، ونحن ننصحها وحلفاءها في مصر والإمارات بتصويب بوصلتهم نحو القدس المحتلة، والتصدي للعار الأمريكي الذي استهدفها، فمن غير المقبول أن تكون أرض الحرمين الشريفين الأقل تعاطفا، ونصرة لأهل الرباط الذين يدافعون عن الحرم الثالث في القدس، مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم.
* عبد الباري عطوان – راي اليوم