الدكتور الشيخ محمد شقير
لقد قرأت بعناية مقالة لكاتب قدير تحمل عنوان "رجال الدين هم من يعمل على تصنيع الفتنة وتصديرها" ومع القبول بالعديد من الأفكار التي طرحها الكاتب في مقالته والتقدير للهدف الذي يبتغيه منها، لكنه ليس من الصحيح حشر المشكلة أو معظمها لدى علماء الدين ولا أن نتاولهم بخطاب لاذع ولغة حادة أو الدخول في تعميمات تأخذ الصحيح بالسقيم والبريئ بالمذنب.
وليسمح لنا الكاتب بتسجيل بعض الملاحظات:
أولاً: كيف ننتقد خطاب علماء الدين كونه خطاباً اقصائياً استبعادياً، ثم نمارس الخطاب نفسه تجاه علماء الدين، وهذا ما يجعل من الخطاب خطاباً متهافتاً في نفسه، وإذا أراد الكاتب أن يقول إنه يريد من كلامه بعضاً من علماء الدين، فكان يجب أن يتوجه إليهم بخصوصهم وأوصافهم ونفوسهم التي تجعلهم أقرب إلى الجهل بالدين من العلم به، وأقرب إلى كونهم رجالاً للسلطان وملئه، من كونهم رجالاً للدين وأهله.
ثانياً: هل من يعمل على تصنيع الفتنة وتصديرها هم فقط من لابسي الزي الديني؛ أين دور بعض السياسين، وأين دور بعض الأكادميين، وأين دور بعض الاعلاميين والكتاب والباحثين...
بل يبدو إن دور بعض المتزيين بزي علماء الدين دور تابع (ببغائي) لدور السياسيين فإن كان السلطان مع المصالحة نظر لها، وإن كان مع المواجهة أفتى بها، وهؤلاء هم رجال السلاطين وليسوا رجالاً للدين.
ثالثا: إن حقيقة المشكلة تكمن في الجهل والتعصب والانغلاق... وهذه المشكلة هي مشكلة المجتمع البشري كله بكل فئاته في جميع أزمانه، بمن فيهم لابسي الزي الديني، نعم حري بمن يكون أكثر علماً في الدين أن يكون أبعد عن الجهل والتعصب، وأقرب إلى الوسطية والانفتاح، بل إن ميزان العلم بالدين أو الجهل به هو كونه من أهل التعصب وناعقي الفتنة، أو من دعاة وأدها ومجابهي أهل التعصب وجهلائهم، فكلما كان المرء أبعد عن التعصب ومن العاملين على وأد الفتنة، كان أقرب إلى العلم بالدين والعمل به؛ وكلما كان من العاملين على تصنيع الفتنة أو تصديرها كان أقرب إلى الجهل بالدين والعمل على نقضه.
ومن الأفضل هنا عدم الدخول في مقارنات كمية بين قلة قليلة وكثرة كثيرة، لأنه إن صدقت هذه المقارنات، ربما تصدق على العديد من شرائح المجتمع، ولن تبقى حكراً على شريحة دون أخرى.
رابعاً: صحيح إننا نحتاج إلى غربلة التراث الإسلامي مما علق به من نصوص تكفيرية واقصائية... لكن يجب أن لا نغفل دور الأنظمة السياسية والهيئات السياسية، التي تملك قدرة تحكم وسيطرة، والتي إن شاءت تطلق العنان لأبواق التكفير والطعن المذهبي والديني... وإن شاءت لجمتها.
وإن كان العديد من تلك الأنظمة والهيئات تستجدي مشروعيتها، وتلتمس قوتها الشعبية والتاريخية... من خلال إثارتها للعصبيات والحساسيات المذهبية والدينية، في محاولة لتوظيف العامل الديني والمذهبي في خدمة المصالح الفئوية والآنية للحاكم والسلطان.
وإن من يقرأ التاريخ السياسي بما فيه المعاصر يصل بوضوح إلى أن العامل المذهبي والديني يوظف غالباً كأداة في إطار صراعي يرتبط بالحسابات والمصالح السياسية وغير السياسية وهذا لا يعني عدم وجود أكثر من خلل في المؤسسات الدينية وتحميلها لجزء من المسؤولية، لكن في المقابل لا يصح إغفال دور المؤسسة السياسية التي لها الدور الأساس والتي تهيمن في الغالب على المؤسسات الدينية وتملك مفاتيح التحكم بها وإدارتها.
خامساً: بغض النظر عن مستوى النتيجة التي قد يحصدها أي عمل توحيدي وتقريبي بين السنة والشيعة، يبقى هذا العمل مطلوباً وضرورياً ويبقى من المطلوب تطويره، ويبقى ضرورياً تعاون جميع الشرائح من ذوي الوسطية والعقلانية والفهم المتنور للدين، سواء كانوا سياسيين أو باحثين أو أكاديميين أو إعلاميين أو علماء دين أو... في مواجهة أهل التطرف والتعصب ودعاة الصدام والفتن والتكفير من أي فئة أو شريحة كانوا سواء كانوا من لابسي الزي الديني أو غيرهم ممن هم ليسوا بقليل.