السيد علي فضل الله
لم يكن الجدل حول علاقة الدين بالسياسة جديداً، بل هو قديم قدم الدين والرسالات السماوية، وهذا الجدل يعود لنوعية الدور الذي جاء الدين لتجسيده على أرض الواقع، ولنوعية السلوك الذي انتهجه المتدينون استناداً إلى انتمائهم للدين و المراقب لحركة الرسالات السماوية منذ نشوئها.. وحجم التحديات التي واجهتها يرى أن الدين لم يقف عند حدود العلاقة بالله: {ولَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
وكانت السياسة بالنسبة إلى الأنبياء والمصلحين هي وسيلتهم لتحقيق هذه الغاية وهذا الهدف.. ثم أنّهم لو اقتصروا في رسالاتهم على تبيان علاقة الناس بالله وأبقوا الناس في معابدهم يصلّون ويصومون... لما واجهوا كلّ هذا التحدّي.
لقد أرادوا لكل الذين يلتزمون رسالاتهم أن يكونوا حاضرين في ميادين السياسة، أن يكونوا دعاة عدلٍ وحقٍ وإصلاحٍ وصولاً إلى بناء دولة دين،هي دولة العدل.
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}.
إن العلاقة الوطيدة بين الدين والسياسة والدولة أمرٌ لا يمكن الشكّ فيه، على الأقل من منظورنا الديني، فالدين فيه حثّ على ممارسة العمل السياسيّ واعتبر ذلك جزء من الانتماء للدين: «ليس منّا من أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين»، «من أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين ليس بمسلم»، وأمور المسلمين تشمل كلّ المرافق الحياتية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والتربوية...
هذا ما نؤمن به، ولا يمكن لأي أحد أن يقول لك إنس كونك متديناً إذا أردت أن تتعاطى الشأن العام، لا بل إنه حق من حقوقك الإنسانية وهو حسب عقيدتك واجب عليك القيام به، إن السياسة هي فعل دينيّ، هي عبادة تؤدّيها لربك، إن اجتماع الديني والسياسي في الشخص قوة وميزة، لأن السياسي فينا يستعير من الديني منظومته الأخلاقية والروحية، ويطبعه بطابعه الرحب والمتسامح، ويبتعد به عن الفظاظة والحدّة.. الديني يهذّب السياسيّ ويتحكم بأسلوبه ليكون الأحسن والأفضل وليكون محكوما للفضائل، و مأسورا لها فلا يفلت من عقالها.
مفاهيم مغلوطة
أما الحديث عن أنّ الدين يقدّم قوالب جاهزة للحكم وللسياسة ولا يستفيد من تطور العصر.. فهذا مجاف للحقيقة.. فالدين يختلف في تعامله مع العبادات عنه في المعاملات والسياسات.. ففي العبادات هناك تحديد واضح لها، ودخول في أدق تفاصيلها، فيما الأمر في المعاملات كما هو موضوع الدولة والحكم، لم يضع الدين له قوالب جاهزة. نعم، الدين وضع ضوابط يراها ضرورية لتحقيق العدالة أو لضمان مسيرة الحكم، وقد اختُلف في حدودها.. البعض اعتبرها ولاية الفقيه العامة، والبعض الآخر حدّدها بالشورى، والبعض زواج بين النظريتين، وإذا كان هناك بعض التفاصيل فهي محدودة، فيما القاعدة هي ترك العقل البشري والتجارب الإنسانية تقدّم نماذج مختلفة، فلكل عصر نموذجه حسب المصلحة التي يراها.. المهمّ هو أن هناك مقصداً للدين يجب أن يسود ليحفظ البشر ويؤمّن لهم الحياة الكريمة الحرة بتحقيق العدالة، وأن يحقق الإنسان خلافته لله على الأرض، من خلال كل تجلياته الإنسانية الحقة.. أما الشكل فقابل للتغيير..
ولكن قد يقول البعض، ونحن منهم، أنه في ارض الواقع الصورة لا تبقى واضحة ونقية هكذا، بل على العكس نرى أن السياسي والديني إذا اجتمعا، أخذ الديني من السياسي خصلاته السيئة،من الدهاء والمواربة وعدم الشفافية والنفعية والاستئثار هذا إلى جانب صعود طفرات هي ليست في الدين وتمظهرات غريبة عن الدين كالحساسيات الطائفية ورفض الآخر.
ومن العوامل المسرّعة في بروز هذه المشكلة دخول عوامل السلطة والمال والموقع، وامتلاك الإعلام مما جعل الدين بكل فضاءاته مغيّبا كمضمون و كجوهر، فيظهر بشكله الخارجي كخادم للسياسة ليس إلا.
لقد انكشف الكثير من الإسلاميين اليوم أمام تجربة القوة، وهيمنت عليهم الممارسات التي من غير العدل، ومن الظلم أن نعتبر الدين وراءها.
أمام هذا الواقع، لا بدّ أن نعترف بسوداوية المشهد وكآبة الأفق، لأنه وبكل بساطة قد تحول كلّ المشهد إلى معطيات لا سابق لها فقد كانت الدعوة دائماً ولإشاعة جو السلام والتسامح في المجتمعات، أن وجهوا الناس باتجاه المساجد، حيث الصفاء الروحيّ والإيماني، أمّا اليوم فللأسف بتنا نرى أن هناك مساجد باتت مدارس للعنف والقسوة والفظاظة والانقسام وعدم الرحمة، وتصنيف الناس، وإعطائهم صكوك وشهادات الإيمان، أو وصمات الكفر، متناسين أن المتضرر الأكبر من كل هذا هو الإسلام ..هو الدين حيث يبدو عاجزاً، بدلاً من أن يكون حلاً للمشاكل، وكيف به أن صار هو المشكلة . هذه الرؤية السوداوية التي أَشترك فيها مع الكثير ممن يراقبون المشهد، استندت إلى عدة ظواهر ثقافية ودينية قد أصابها المرض والعمى.. ظواهر ليست في خط التاريخ فقد أخرجت قاطرة الدين عن مسارها، ويقيننا أنّها لن تستمرّ لأن من سنن الله أن لا يقيم الجور والظلم حتى ولو كان مع الإيمان وعلى العكس قد يقيم العدل في غياب الإيمان أو مع الكفر.
أبرز الآفات
وبالعودة إلى الواقع، وإذا قربنا المشهد أكثر يمكن تلخيص المشكلة في عدة ملاحظات أبرزها:
الأولى: الحاصل اليوم هو عدم التمييز بين الدين بحدّ ذاته، كمعطى مقدس، وبين الفهم الديني وهو غير مقدس، فقد تتعدّد المفاهيم خاصة أن الدين أوسع بكثير من أن نحصره بفهم واحد وابتلاؤنا اليوم أن هناك من يأسر الدين لفهمه هو وهذا اختطاف للدين ومصادرة له. علماً أنه لا إساءة للدين أبداً إذا انتُقد هذا الفهم أو ذاك، وعلينا ألا نخشى على الدين فهو متين بمتانة مصدره وانتقاد الفهم الديني ليس إلحاداًً أو كفراًً.. وهذا نسحبه على الواقع السياسي إذا ما مورس تحت عباءة الدين بحيث تصبح الآفة أنه لا يمكن ممارسة عملية النقد الضرورية للأداء السياسي، إذ سيعتبر إساءة للدين الذي يمثلونه، ولهيبة الموقع الذي يحتلّونه، وبالتالي سيتهمّ كلّ من يخالفهم بالتكفير والتضليل والانحراف.
وفي السيرة، قدّم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أنموذجاً متقدماً في استدراج النقد إليه، فلا موقع أعلى من موقع الرسول، ومع ذلك وقف أمام أصحابه في نهاية حياته، طالباً منهم أن ينتقدوه في كل تاريخه قائلاً لهم: «وإني والله ما تمسكون عليَّ بشيئ، إني والله لم أحِلّ إلا ما أحلّ القرآن ولا أحَرِم إلا ما حرم القرآن».
ويكرر الأمر تلميذه علي(ع): «لا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ».
أضف أن المشكلة في هذا الشأن مشكلة ثقافية حيث الجمهور أو الأتباع أو الرعية هم من يسبغ القداسة والشرعية على كل ما يقوم به رجل الدين انطلاقاً لا من منطق عقلي إنما من منطلق عصبي غرائزي وهي مشكلة لا تفصل بين انتقاد الشخص وانتقاد القيمة وأنّ أيّ انتقاد للفكرة يعني إساءة للدين الذي يمثله ، علماً أنّ هذه الممارسة تغيرت قياسا لما كنا عليه منذ ربع قرن، حيث غياب الثقافة أو العقيدة النقدية أو الحساسية النقدية لرجال الدين فكان الموضوع لا يمسّ لا من قريب أو بعيد. طبعاً لا نقصد هنا الافتراء أو النقد العصبيّ أو التجريحيّ بل النقد العلميّ والموضوعيّ.
اكتمال صفات القيادة
الثانية: هو بخصوص ما يُثار عن تجربة تصدي الإسلاميين للدولة والسياسة، فأختصر بإيراد نموذج النبي يوسف بعبارته التي أشار إليها القرآن عندما طلب من عزيز مصر أن يوليه على خزائنها قال عن نفسه: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، فلم يكتف بالأمانة كونه مؤمناً بل أضاف إلى ذلك العلم والمعرفة.
فلا يكفي لمن يتصدّى لشأن الناس أو لرعاية مصالحهم وتولّي أمورهم عبر السلطة أن يكون مؤمناً مصلياً قائماً، بل لا بدّ أن يكون قادراً على إدارة شؤون الموقع الذي يحتلّه، ويملك القرار فيه. ومن يتصدى لذلك بغير علم فهو خائن وغاش من منظور الحكم الشرعي.
إن هذا الموضوع هو جدّ بديهي وعلينا أن لا نعيش القلق من ذلك، فلا انتقاص من الدين أو من الصفة الدينية إن تمت الاستفادة من خبرات الآخرين ومشاركتهم وتداول السلطة بينهم والتداول هو مبدأ إسلامي.. لا بل على العكس إن وجودك في موقع المراقب أحياناً، سواء كنت فرداً أم مؤسسةً أم حزباً، يشكل ضابطة أكثر من وجودك في موقع الفعل والقرار المباشر، خاصة في ظل تعقيدات الواقع والتحديات التي تواجهك.. لهذا تحفّظنا وما زلنا نتحفظ عن استعجال دخول بعض الإسلاميين للحكم وهم لم يمتلكوا بعد الأدوات اللازمة ولم تتهيأ الأرض لذلك وهذا ليس انتقاصاً من قدرة الإسلام على الحكم.
في المقابل ومن قبيل الإنصاف أيضاً علينا القول إننا نلمس تجنياً وتعميماً واضحاً من قبل المراقبين للتجربة الإسلامية، حيث الاستعجال أيضاً في الحكم عليهم وعدم قدرتهم أيضاً على الخروج من عباءة عقيدتهم اللادينية، في تقييم التجربة بغض النظر عن عمرها وعن الأرض التي تعمل فيها، وحجم التوقعات غير الواقعية التي تُنتظر منها.
إن الحديث عن الدين والسياسة والدين والدولة بما هي ممارسة اليوم موضوع متسع وشائك, ويحتاج إلى البحث بجدية والى العمل الحثيث والدؤوب، لأنّ الوقت يُسابقنا، ونخشى أن ندخل في تجربة مريرة يكون فيها هذا الفهم أو ذاك للدين هو السلاح الفتاك النوعيّ الذي لا تقف قوة أمامه، وسيحرق عندها اخضر الحياة ويابسها والمتهم والخاسر والضحية سيكون الدين بلا منازع وستضحك السياسة كثيراً.
المصدر : موقع الكاتب