أميركا أرادت أن تكون في عهد ترامب أول دولة في العالم تعترف بالقدس المحتلة عاصمة لـ"إسرائيل"، وكان لها ما أرادت، ولكنها لا تعرف أنها ورئيسها "العنصري" وفرا "الصدمة" التي تحتاجها الأمتان العربية والإسلامية للخروج من غيبوبتها، وحالة الهوان والإذلال التي تعيشها.
ترامب ينقل عاصمته من تل أبيب المحتلة إلى القدس المحتلة، ويطلق رصاص الرحمة، ليس على رأس عملية السلام المزورة، وإنما على رؤوس حلفائه من الحكام العرب أيضاً، وفي مصر والسعودية على وجه الخصوص، اللتين أيدتا خطوته هذه مسبقاً، وقبل إعلانها حسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، والقناة التلفزيونية العاشرة تحديداً، وهذا ما يفسر تأخر ردهما وضعفه.
ترامب لا يريد حلفاء وإنما خدماً وتابعين، يتعاطى معهم بغطرسة وفوقية، فبعد أن حلب أكثر من 550 مليار دولار في اجتماعه الأول معهم في الرياض (460 ملياراً منها من السعودية وحدها، والباقي صفقات أسلحة لقطر والإمارات والبحرين)، ها هو يكافئهم، ويرد لهم الجميل، بصفعة تهويد القدس المحتلة.
***
نحن لا نعول على اجتماع مجلس الأمن الذي سيعقد غداً لبحث هذه الإهانة الأميركية، وإنما على باحات المساجد في أكثر من 56 دولة عربية وإسلامية، التي ستتحول صلاة الجمعة فيها إلى ساحات غضب، وإطلاق الشعارات المعادية لأميركا و"إسرائيل" والمطالبة بالثأر.
هناك بعض الأصوات المحيطة، والمحبطة، التي تنظر للتطبيع مع إسرائيل، وتعتبرها حليفاً موثوقاً لم يقتل سعوديا أو خليجيا واحداً، وترى فيها صديقاً وحليفاً، وتتطاول على الفلسطينيين وتعايرهم ببيع أرضهم، هذه الأصوات التي تنشر ثقافة الاستسلام والخنوع، وتشكك في قيمة مظاهرات الغضب هذه، مثلما تشكك بجدوى الانتفاضات، نقول لها، ومن يقف خلفها، أن موجات الغضب هذه هي التي فجرت انتفاضة الحجارة الأولى، وانتفاضة السلاح الثانية، وحشدت لهزيمة ثلاثة "عدوانات" إسرائيلية على قطاع غزة في أقل من ثلاث سنوات، وألحقت الذل والعار بالاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وأجبرته على الانسحاب مهرولاً من طرف واحد عام 2000، ومرمغت أنفه بالتراب في حرب الأيام الثلاثة والثلاثين في لبنان في تموز (يوليو) عام 2006.
ترامب ما كان يمكن أن يقدم على هذه الخطيئة، أو الحماقة، لو كان العراق قويا، وسوريا لا تواجه مشروع المؤامرة طوال السنوات السبع الماضية، وليبيا لا تعيش الفوضى والتشرذم، ومصر الرائدة تتسول رغيف خبزها من قوارين (جمع قارون) العصر العربي الحديث، والجزائر تداوي جروح عشريتها السوداء، واليمن تتصدى لعدوان ظالم.
بينما يخرج علينا رئيس "الشرعية" الفلسطينية محمود عباس بخطاب هزيل مخجل يلخص رده على هذه الإهانة بالانضمام إلى مزيد من المنظمات الدولية، ومواصلة التشاور مع "الأشقاء" قبل اتخاذ أي قرارات، وكأنه رئيس مكرونيزيا، وليس منظمة التحرير الفلسطينية.
المشروع الأميركي بتدمير دول المركز العربي، تحت عنوان الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتكريس "إسرائيل" القوة الإقليمية العظمى القائدة، هو الذي أوصلنا إلى هذا الهوان، وجاءت آخر صفعاته بقرار ترامب الأخير، كمقدمة لصفقة الاستسلام الكبرى، وإقامة الدولة الفلسطينية في سيناء، وتتويج نتنياهو أميناً عاما للجامعة العربية "الجديدة".
ترامب أسقط الأقنعة، وأظهر الوجه القبيح لحلفائه العرب، وأشعل فتيل حرب دينية، ستكون بلاده وحليفها الإسرائيلي حطبها، لأن زمن هيمنة النفط وعوائده على القرار العربي الرسمي يلفظ أنفاسه الأخيرة.
راهنا دائماً على الشعوب العربية والأسلامية، ولم نراهن مطلقاً على الأنظمة، ولنا ثقةٌ كبرى فيها، ولا تخدعنا مطلقاً بعض "الفقاعات" الزائفة والمضللة هنا وهناك، وعندما يتصدى أشقاؤنا في الخليج {الفارسي} لعمليات التطبيع والمروجين له، بشجاعة وجرأة، فهذا يؤكد أن رهاننا في محله، وأن هذه الشعوب على طول العالم الإسلامي وعرضه لن تخذل قدسها وأقصاها وكنيسة قيامتها.
أطمئنكم أن أهل الرباط في فلسطين سيكونون عند حسن ظنكم، ومثلما عهدناهم دائماً، أليسوا هم الذين تمترسوا في باحات الأقصى حاملين أكفان شهادتهم، وأجبروا نتنياهو على اقتلاع بواباته الإلكترونية والفرار بجلده؟ أليسوا هم الذين أجبروا شارون على الهروب من قطاع غزة تاركاً خلفه مستوطناته؟ أليسوا هم الذين قدموا قوافل الشهداء دفاعاً عن كرامة الأمة وشرفها وعقيدتها على مدى مئة عام من الجهاد والنضال؟
***
أطمئنكم بأن الشعوب العربية، وليس الحكام والحكومات، بألف خير، وستجرف ثورات غضبهم "الحقيقية" كل أدران العفن التي لحقت بالأمة في السنوات السبع العجاف، ويقفون في خندق المقاومة متبنين ثقافتها ومتغنين بشعاراتها.
إعتراف ترامب كان فرصة ذهبية للرئيس عباس وسلطته للتطهر من خطايا أوسلو والتنسيق الأمني المعيب، و23 عاماً من المفاوضات المخجلة، ولكنه لم يفعل، ولن يفعل، ويصر على رسم خط نهايته بطريقة مأساوية، ومن المؤلم أن هناك من الملتفين حوله يتهربون من التقاط هذه اللحظة التاريخية، ويزينون له مواقفه المتخاذلة هذه.
نشكر ترامب، وإن كان لا يستحق الشكر، لأنه أشعل فتيل الصحوة العربية والإسلامية دون أن يقصد، وهي صحوةٌ ستعيد ترتيب أوضاع المنطقة مجدداً على أسس جديدة عنوانها المقاومة، وقدم الذخيرة الأقوى للتطرف والتشدد على حساب حلفائه المتخفين خلف لافتة الاعتدال.
سيترحم ترامب وحلفاؤه العرب على أيام "الدولة الإسلامية" وتنظيم "القاعدة" الذي سيمهد انحيازه السافر للعدوان العنصري الإسرائيلي لصعود تنظيمات أكثر خطورة وأقوى شكيمة، ستستغل هذه الفرصة التي أتاحها لها للثأر والانتقام.
القدس، وليس أبو ديس، ستظل عاصمة فلسطين، كل فلسطين، ومثلما غير المناضلون في جنوب أفريقيا وروديسيا والجزائر الواقع الاستعماري المفروض بالقوة، سيسير الفلسطينيون بدعم أشقائهم العرب والمسلمين على النهج نفسه وسينتصروا.. والأيام بيننا.
* عبد الباري عطوان
27/ 102