د. علي آقا نوري**
ترجمة: نظيرة غلاّب
يتمحور موضوع هذا المقال حول البحث في المبادئ النظريّة وآليات الوحدة الدائمة والأصول المشتركة للتقريب بين المذاهب في سيرة وخطابات أئمّة الشيعة، ناظرين في هذا إلى مجموعة من المصادر التاريخيّة، الروائية والتفسيريّة.
الإقرار العامّ بين مختلف المذاهب بالأصول المشتركة، والتي من جملتها: القرآن؛ والسيرة النبويّة؛ والأحاديث النبويّة الشريفة؛ وكذا وجوب إطاعة الزعامة الدينيّة والمرجعيّة الدينيّة لعترة النبيّ الأكرم، والمتمثِّلة في الأئمّة من أهل بيته(ع). وهي الأركان التي تمثِّل في مجموعها جملةً من المحاور المشتركة التي ينطلق منها الكاتب في تثبيت مبدأ الوحدة الإسلاميّة، باعتباره أصلاً من أصول الفكر الدينيّ والتوجُّه العقديّ في نهج أئمّة أهل البيت(ع). منهجه في كلّ هذا قراءة للموروث الروائيّ الصادر عن أئمّة أهل البيت(ع).
مقدّمة
لا أحد يستطيع إنكار ممارسة الأئمة(ع) لكلّ الأخلاقيّات التي تعمل على تثبيت مبدأ الوحدة الإسلاميّة على المستويين النظريّ والعمليّ، والتزامهم الدؤوب بعدم إيجاد ما يستتبع أو يستلزم الفرقة والتفرقة بين المسلمين كافّة. والقدر المتسالم عليه هو كون إيجاد الوحدة في المجتمع المسلم بمختلف مكوّناته المذهبيّة والفكريّة لا يتيسَّر بمجرّد سنّ القوانين، بل لابدّ من النظر في الأصول المشتركة لكلّ هذه المكوّنات والأطياف، والتأكيد على ما به الاشتراك، سواءٌ في مجال العقيدة أو في مجال الفقه، وغيره من المحاور التي تقوم عليها المنظومة الدينيّة للمجتمع المسلم.
من هنا فإنّ أئمّة الشيعة عملوا على عرض مجموعة من القواعد والأصول الدينيّة، والتي من خلال العمل بها والاستناد العمليّ عليها يتسنّى للفكر الإسلاميّ والعقل الجمعيّ للمسلمين استخلاص آليات الوحدة، أو في الحدّ الأدنى التقليل من مساحة الاختلاف، وبالتالي تقصير مسافة الفرقة، وسدّ باب العداوة والنزاعات المذهبيّة والفرقية. ومجموع هذه الأصول والمحاور التي تأسَّست عليها الوحدة في نهج الأئمّة، والتي تظل اليوم النظريّة والسلوك العمليّ الوحيد الكفيل بجمع شتات الأمّة ورأب صدعها، ترتكز على ضروريّات أربع:
1ـ الاعتراف الرسميّ بالاختلاف في الأفكار والأذواق.
2ـ محوريّة القرآن.
3ـ محوريّة السيرة والأحاديث النبويّة الشريفة.
4ـ إطاعة الزعامة الدينيّة، والإقرار بسنّة أهل البيت وسيرتهم؛ باعتبارهم المؤهَّل الأوّل لتفسير القرآن الكريم، ولبيان سنّة وسيرة النبيّ الأكرم|؛ انطلاقاً من حديث الثقلين، الذي تقرّ الفرق الإسلاميّة بصحّة صدوره من النبيّ الأكرم|.
1ـ الاعتراف الرسميّ بالاختلاف الفكريّ، وفي المعتقد :
إنّ الإقرار والاعتراف الرسمي باختلاف وتنوّع الفكر، وطبيعيّة اختلاف الطبائع والذوق التعبُّدي وفق ما يختاره الفرد من مذهب أو توجُّه دينيّ داخل المنظومة الإسلاميّة، لعمري هي أوّل خطوة نحو الوحدة، بل يعتبر هذا أعظم أصل في إيجاد الوحدة والتكافل والتماسك بين مختلف المذاهب الإسلاميّة. فهذا البند الأصل إذا تمّت مراعاته وتبنّيه بالشكل الصحيح ضمن الأصول الأخلاقيّة وما به الاشتراك المذهبيّ سيقف مانعاً أمام العديد من الاختلافات والنزاعات الاجتماعيّة. و بلحاظ تأثيره الإيجابيّ في إزالة موجبات الاختلاف الثقافيّ والأخلاقيّ فإنّ باستطاعته إيجاد نوع من الوحدة تكون ديناميكيّة وفعّالة، وبالتالي الدفع بالمجتمع المسلم إلى الرفع من مستوى سقف الرشد الفكريّ الجمعي، وهو المستوى الذي يجعل العقل الجمعي المسلم ينظر إلى نقاط الاشتراك أكثر من اهتمامه بنقاط الاختلاف، وستصبح معه رغبته في الوحدة أشدّ وأقوى.
وقد اهتمّ أئمّة أهل البيت(ع) بهذا الأصل، وأشاروا إليه حين تحدَّثوا في تقسيمهم البشر إلى مجموعاتٍ بلحاظات مختلفة. وكذلك أشاروا إلى اختلاف درجات الإيمان بين الناس، واختلاف مستوى الاعتقاد والاقتناع، ومن جهة أخرى قسَّموا المعارف الدينيّة إلى أقسام متعدِّدة. و هو ما يعطي إحساساً وإدراكاً لطبيعة الاختلاف بين بني البشر، وأن الاختلاف مسألة طبيعيّة، وبالتالي فإنّ مراعاته والإقرار به حقٌّ عقلائيّ.
أـ تقسيم عموم الناس بلحاظ القابليّات وخصوصيّات أخرى مختلفة :
لقد تعدَّدت الروايات الصادرة عن أئمّة أهل البيت(ع) والتي تبيِّن أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، وجعل بعضه يختلف عن بعض، وفق اختلاف القدرات وتفاوت درجة الفهم والإدراك. نقرأ في هذا الموضوع رواية عن الامام الصادق(ع) تفسِّر نوعية هذا الاختلاف، بحيث لو تمّ التمعُّن فيه لما بقيت حاجة إلى الاختلاف. فقد قال(ع): «لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق لم يلُمْ أحدٌ أحداً، فقلتُ: أصلحك الله، فكيف ذاك؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزءاً، ثم جعل الأجزاء أعشاراً، فجعل الجزء عشرة أعشار، ثم قسَّمه بين الخلق، فجعل في رجل عشر جزء، وفي آخر عشرَيْ جزء، حتى بلغ به جزءاً تامّاً، وفي آخر جزءاً وعشر جزء، وآخر جزءاً وعشرَيْ جزء، وآخر جزءاً وثلاثة أعشار جزء، حتى بلغ به جزءين تامّين، ثم بحساب ذلك حتّى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزءاً. فمَنْ لم يجعل فيه إلاّ عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين، وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة أعشار، وكذلك مَنْ تمّ له جزءٌ لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزءين، ولو علم الناس أن الله عزّ وجلّ خلق هذا الخلق على هذا لم يلُمْ أحدٌ أحداً، لو علم الناس كيف ابتدأ الخلق ما اختلف اثنان)([1]).
ويمكن تلخيص مضامين هذه الرواية في كون تقسيم الناس ناظراً إلى القابلية لدى كلّ واحد منهم. لكن إلى جانب هذا هناك روايات أخرى تبيِّن أنّ اختلاف الناس وتفاوتهم البعض عن الآخر يأتي بلحاظ معتقداتهم ومصيرهم في الآخرة، وهم بهذا اللحاظ ينقسمون إلى عدّة مجموعات. ولابدّ من الإشارة إلى أنّ التقسيم في هذه الروايات لا يتمحور حول المؤمن والكافر والضالّ فقط، بل إنّ الأئمة الأطهار^ قسَّموا الناس في ظلّ هذا المعيار بلحاظاتٍ تتفاوت بين مَنْ عرض عليه الحقّ فأنكره تعصُّباً وعناداً، أو لم يعمل طاقاته وجهده في البحث عنه والوصول إليه، وبين فئة أخرى لم تصِلْ إلى الحقّ بسبب قصور فهمها؛ إما لضعف قدرات الإدراك عندها أو لأسباب أخرى، فلم تؤمن، وأنكرت جزءاً أصيلاً من الحقّ ومن الدين. ووفق العدل الإلهيّ فإنّ حساب هذه الفئة يختلف عن حساب الفئتين السابقتين، فهم لن يكونوا في صفّ المعاندين، ولا من المنكرين جحوداً وكفراً، لكنّهم سيكونون ضمن من أسماهم القرآن بـ «المستضعفين»، و«المرجون لأمر الله». ويلاحظ على الكثير من الروايات أنّ الأئمّة قد جعلوا أكثرية الناس ضمن فئة «المستضعفين»، يعني طبقة العاجزين والفقراء المحرومين، و«المرجون لأمر الله»، وبمعنى آخر: الذين ترك عملهم إلى الله، والله سبحانه وتعالى يحكم في أمرهم، وفق ما تقتضيه حكمته ورحمته. ويلاحظ أن كلا التعبيرين قد اقتبسا من القرآن الكريم([2]).
وفي تفسير الآية 106 من سورة التوبة: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ﴾ يقول الإمام الباقر(ع): «المرجون قومٌ كانوا مشركين، فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين، ثمّ إنهم بعد ذلك دخلوا في الإسلام، فوحَّدوا الله، وتركوا الشرك، ولم يكونوا يؤمنون فيكونوا من المؤمنين، ولم يؤمنوا فتجب لهم الجنّة، ولم يكفروا فتجب لهم النار، فهم على تلك الحال مرجَوْن لأمر الله"([3]).
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق(ع)، حيث سئل عن المستضعفين، فأجاب: «هؤلاء ليسوا ضمن زمرة المؤمنين، وليسوا من الكافرين، هم «المرجون لأمر الله"([4]).
ومهما يكن فهؤلاء لا يختصّون بغير المسلمين، بل قد يكونون كذلك من المسلمين. روى زرارة أنّه دخل على الإمام الباقر(ع)، وقال له: إنّا نمدّ المطمار، قال: وما المطمار؟ قلتُ: مَنْ وافقنا من علويّ أو غيره تولّيناه، ومَنْ خالفنا تبرّأنا منه، فقال لي: يا زرارة، قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾؟ أين المرجون لأمر الله؟ أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلَّفة قلوبهم». وزاد حماد في الحديث قال: فارتفع صوت أبي جعفر(ع) وصوتي، حتّى كان يسمعه مَنْ على باب الدار. وزاد فيه جميل بن درّاج، عن زرارة: فلمّا كثر الكلام بيني وبينه قال لي: يا زرارة، حقّاً على الله أن لا يدخل الضلاّل الجنّة"([5]).
ووصفوا في بعض الروايات الأخرى بأنّهم ليسوا من أهل الإيمان والتسليم والنجاة، كما أنهم ليسوا من أهل الإنكار والهلاك: «نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلاّ معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا. مَنْ عرفنا كان مؤمناً، ومَنْ أنكرنا كان كافراً، ومَنْ لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاًّ حتّى يرجع إلى الهدى الذي افترضه الله عليه من طاعتنا الواجبة، فإن يمُتْ على ضلالته يفعل به الله ما يشاء، (وهم المرجون لأمر الله)". وجاء في بعض الروايات أن من المستضعفين مَنْ يكون من أهل الصلاة والصيام، كما يكون من المتقّين أيضاً([6]). ونعتقد أنّ الملاك في تعيين الاستضعاف يكمن في عدم استقلال الفكر، وعدم القدرة على تشخيص الحقيقة من غيرها. وفقدان هذه القدرة لا تتعلَّق بنفس الشخص بشكل مباشر.
ونستند في هذا إلى بعض الروايات الواردة في الموضوع، والتي تبين بشكلٍ صريح مراتب الكفر والإيمان والضلال. وهي روايات كثيرة([7]). والظاهر أن تشخيص الاختلاف والتمييز بين الحقّ والباطل غير ميسَّر للكلّ.
جاء في نهج البلاغة، في تفسير معنى «الاستضعاف»، أنّ مَنْ قامت له الحجّة، وسمع كلام الله وخطابه، وعقل ما سمعه بعقله وقلبه، فليس من المستضعفين([8]).
كذلك ورد في الكافي عن الإمام موسى الكاظم(ع) أنّه سئل عن مصاديق الاستضعاف فقال: مَنْ لم ترفع إليه الحجّة، ولم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس من المستضعفين([9]).
لكنْ هناك من الناس مَنْ ليست له القدرة على التمييز بين الحقّ والباطل، ومعرفة الصحيح من السقيم، لذا فإثبات الحجّة عليهم ليس من العمل السهل.
نعم، ذكرت مراتب ودرجات مختلفة للمستضعفين والضالّين، وشملت بعض مصاديقهم الكفّار، كما شملت أخرى البعض من المسلمين، كما يكون من مصاديقه النساء والأطفال. لكنّ الملاك الذي يجتمع في كلّ تلك المصاديق يكمن ـ كما أشرنا ـ في «عدم تشخيص الحقّ»، بشرط أن لا يكون عن طريق الجحود والعناد، بل عن طريق الجهل وعدم الإدراك.
وقد تحدَّث العلاّمة الطباطبائي صاحب الميزان عن الاستضعاف ومَنْ يشمله من الناس، بعد أن ذكر العوامل الخارجيّة للاستضعاف، فقال: «وهذا المعنى كما يتحقَّق في مَنْ أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقّي معارف الدين؛ لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف؛ للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الإسلام والالتحاق بالمسلمين؛ لضعفٍ في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر ماليّ ونحو ذلك، كذلك يتحقَّق في مَنْ لم ينتقل ذهنه إلى حقٍّ ثابت في المعارف الدينيّة، ولم يهتدِ فكره إليه، مع كونه ممَّنْ لا يعاند الحقّ، ولا يستكبر عنه البتّة، بل لو ظهر له الحقّ لكان له من التابعين، لكنْ خفي عنه الحقّ لسبب من الأسباب الخارجة عن اختياره. فهذا مستضعفٌ لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً، لا لأنّه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحقّ والدين بالسيف والسوط، بل إنّما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل. هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية، الذي هو في معنى عموم العلّة، وهو الذي يدلّ عليه غيرها من الآيات، كقوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ﴾ (البقرة: 286). فالأمر المغفول عنه ليس في وسع الإنسان، كما أنّ الممنوع من الأمر بما يمتنع معه ليس في وسع الإنسان. فهذه الآية الشريفة من سورة البقرة كما ترفع التكليف بارتفاع الوسع كذلك تعطي ضابطة كلّية في تشخيص مورد العذر وتمييزه من غيره، وهو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الإنسان، ولا يكون له في امتناع الأمر الذي امتنع عليه صنعٌ. فالجاهل بالدين جملةً أو بشيئ من معارفه الحقّة إذا استند جهله إلى ما قصَّر فيه وأساء الاختيار استند إليه الترك، وكان معصيةً، وإذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شيء من مقدّماته، بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل، لم يستند الترك إلى اختياره، ولم يعدّ فاعلاً للمعصية، متعمِّداً في المخالفة، مستكبراً عن الحقّ، جاحداً له، فله ما كسب وعليه ما اكتسب، وإذا لم يكسب فلا له ولا عليه"([10]).
ب ـ تقسيم الإيمان إلى درجات ومراتب :
لقد وصلتنا روايات متعدِّدة حول تقسيم الإيمان إلى درجات ومراتب، تتفاوت بعضها عن بعض وما يلازمها من أسباب. وقد خصّ المؤلِّفون في الحديث باباً مستقلاًّ لهذا الموضوع، أدرجوه تحت عنوان: «درجات الإيمان وحقائقه»، وضموا في هذا الباب كلّ الأحاديث والآيات التي يشملها نفس العنوان، وتتحدث في نفس الموضوع([11]). وانطلاقاً من التعريف الخاصّ للإيمان فهو درجات ومراتب مختلفة، تجد المؤمنين يتفاوتون في مراتبهم بلحاظ كماله ونقصانه، وبالنظر إلى النقص والكمال صنّفوا درجات ومراتب، ووفق ما بيَّنته الروايات نصبح أمام قاعدة تنفي أيّ قدرة على حمل الناس على الاعتقاد والتعبُّد وفق مذهب من المذاهب، كما تسحب من الناس جميعاً أيّ سلطة في تكفير مخالفهم، فليس لأحد الحقّ في تكفير الناس ورميهم بالكفر، لمجرّد أنّهم يخالفونه في التوجّه المذهبيّ أو الفكريّ. ولمزيدٍ من تثبيت هذا المبدأ نرى ضرورة التذكير ببعض الروايات المتعلِّقة بالموضوع:
1ـ عن عبد العزيز القراطيسي قال: قال لي الإمام الصادق(ع): "يا عبد العزيز، إن الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم، يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لستَ على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشر. فلا تُسقِط مَنْ هو دونك فيُسقِطك مَنْ هو فوقك. وإذا رأيت مَنْ هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفقٍ، ولا تحملنّ عليه ما لا يطيق، فتكسره؛ فإنّ مَنْ كسر مؤمناً فعليه جبره."
وظاهر الحديث واضحٌ في بيان أنّ الناس تختلف درجاتهم تبعاً لقابليّاتهم. فالله سبحانه وتعالى جعل الخلق، وجعل فيه القابلية والاستعداد، فلا يستطيع أن يتجاوز هذه القابلية. وهذا لا يعني أنّ الانسان يولد بهذه القابلية وهذا الاستعداد، لكنّه أمرٌ لابدّ من السعي والعمل للوصول إليه. فالفيوضات الرحمانية تحتاج إلى بذل الجهد وتحمّل مشقة السعي حتّى يغترف منها العبد بحسب قابليته وما وهبه الله المتعالي من قوّة واستعداد.
2ـ وعن الإمام الباقر(ع): «إنّ المؤمنين على منازل: منهم على واحدة؛ ومنهم على اثنتين؛ ومنهم على ثلاث؛ ومنهم على أربع؛ ومنهم على خمس؛ ومنهم على ستّ؛ ومنهم على سبع. فلو ذهبتَ تحمل على صاحب الواحدة اثنتين لم يقوَ، وعلى صاحب الثنتين ثلاثاً لم يقوَ، وعلى صاحب الثلاثة أربعاً لم يقوَ، وعلى هذه الدرجات".
3ـ وعن الإمام الصادق(ع) قال: «ما أنتم والبراءة؟! يبرأ بعضكم من بعض. إنّ المؤمنين بعضهم أفضل من بعض، وبعضهم أكثر صلاة من بعض، وبعضهم أنفذ بصراً من بعض، وهي الدرجات، حيث قال تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ﴾"([12]).
4ـ وفي حديثٍ آخر أنّ شخصاً قال لأبي عبد الله(ع): إنّ عندنا قوماً يقولون بأمير المؤمنين(ع)، ويفضِّلونه على الناس كلّهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم، فقال لي: نعم، في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله، ولرسول الله عند الله ما ليس لنا، وعندنا ما ليس عندكم؟ إنّ الله وضع الإسلام على سبعة أسهم، على الصبر، والصدق، واليقين، والرضا، والوفاء، والعلم، والحلم. ثم قسَّم ذلك بين الناس. فمَنْ جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كاملٌ محتمل. ثم قسَّم لبعض الناس السهم، ولبعضهم السهمين، ولبعض الثلاثة أسهم، ولبعض الأربعة أسهم، ولبعض الخمسة أسهم، ولبعض الستة أسهم، ولبعض السبعة أسهم، فلا تحملوا على صاحب السهم السهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة، ولا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم، ولا على صاحب الأربعة خمسة أسهم، ولا على صاحب الخمسة ستة أسهم، ولا على صاحب الستة سبعة أسهم، فتثقلوهم، وتنفِّروهم، ولكن ترفَّقوا بهم، وسهِّلوا لهم المدخل، فلا تخرقوا بهم؛ أما علمتَ أنّ إمارة بني أمية كانت بالسيف والعسف والجور، وأنّ إمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد. فرغبوا الناس في دينكم، وفي ما أنتم فيه"([13]).
5ـ وفي رواية أخرى: عن رجلٍ، عن أبي عبد الله(ع) ـ في حديث ـ، أنّه جرى ذكر قومٍ قال: فقلتُ له: إنّا نبرأ منهم، لا يقولون ما نقول. قال: فقال: يتولّونا، ولا يقولون ما تقولون، تبرؤون منهم؟ قلتُ: نعم، قال: فهو ذا، عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أن نبرأ منكم، إلى أن قال: فتولّوهم، ولا تبرؤوا منهم؛ إن من المسلمين من له سهم، ومنهم من له السهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة أسهم، ومنهم من له سبعة أسهم"([14]).
وفي بقية الرواية ينهى الإمام عن أن يحمِّل صاحب الأسهم الكثيرة عقيدته لمَنْ هو أقلّ منه سهماً ومرتبة.
6ـ ونقل كذلك قاسم بن طفيل أنّه كان عند الإمام الصادق(ع)، فتكلَّمنا عن رجلٍ من أصحاب أهل البيت، فقال بعضهم: إنه رجل ضعيف، فتوجَّه إليه الإمام وقال: إنْ كان لا يقبل ممَّن دونكم حتّى يكون مثلكم لم يقبل منكم حتّى تكونوا مثلنا"([15]).
7ـ وفي تفسير قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ روى داوود بن كثير عن الإمام الصادق(ع) قوله: «قُلْ للذين مننّا عليهم بمعرفتنا أن يغفروا للذين لا يعلمون، فاذا عرفوهم فقد غفر لهم".
ولعلّ هذا هو السرّ في نهي الإمام علي(ع) عن قتل الخوارج بعده، وقال: "ليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه كمَنْ طلب الباطل فأدركه". فوفق نظرة الإمام الملكوتية إنّ مَنْ مشى وراء الحقّ يبحث عنه، فاشتبه عليه الأمر، فاختلط عليه الحقّ بالباطل، ليس كمثل مَنْ طلب الباطل؛ جحوداً وعناداً.
8 ـ وعن الإمام السجّاد(ع): لا تعيِّرنّ أحداً بذنب. وإنّ أحبّ الأمور إلى الله ثلاثة: القصد في الجدة، والعفو في المقدرة، والرفق بعباد الله. وما رفق أحدٌ بأحد في الدنيا إلاّ رفق الله به يوم القيامة. ورأس الحكمة مخافة الله عزّ وجلّ"([16]).
وقد كان الأئمّة الأطهار على اطّلاع ومعرفة كاملة بأحوال المؤمنين، من حيث استقبالهم وفهمهم للدين. فالإيمان تختلف درجاته وتتفاوت من شخص إلى آخر، بحسب قابليته واستعداداته. ثم إنّ تديُّن المؤمن تختلف غاياته وأهدافه الأخرويّة عن مثله عند الآخر. فهناك من المؤمنين مَنْ يتديَّن بالدين طلباً للحصول على ما وعد الله عزّ وجلّ من نعم وثواب في الآخرة؛ وآخر تديَّن خوفاً من العقاب الأخرويّ، وخوفاً من النار؛ لكنّ هناك فئة ـ على قلّتها ـ إنّما عبدت الله وتدين بدين الإسلام مخلصةً فيه؛ حبّاً لله وعشقاً لذاته المقدّسة، لا خوفاً من النار، ولا رغبة في الجنّة، إنّما طلباً للوصال بمعشوقها، فقد آمنت بأنّه أحقّ أن يُعبَد فعبدته، ووجدته أحقّ في الحبّ فأحبّته، وفنت فيه: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار؛ وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد؛ وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار".
والمؤمن، على اختلاف درجاته ومراتبه، ومع اختلاف حيثيات عبادته وتديّنه، غير خارج من عرصة الإيمان، وغير محروم من المأدبة الإلهيّة الممتدّة لهم بالجملة، لا إقصاء فيها لأحد، ولا تبعيد لهذا أو ذاك.
ولا نفوِّت الفرصة هنا أن نذكِّر بإحدى الروايات المرويّة عن النبيّ عيسى(ع)، والتي تبيِّن كيف أنّ الله يشمل بعطائه وعفوه وحبّه كل المؤمنين، ويعطي لكل واحد ما سأل وما عمل له: يروى أنّ النبيّ عيسى(ع) مرّ على ثلاثة أشخاص، وقد أخذ منهم الضعف كلّ مأخذ، حتّى بدا بدنهم ضعيفاً ولونهم شاحباً، فسألهم: مَنْ حملكم على هذا؟ فقالوا: الخوف من العقاب ومن النار. فقال لهم عيسى: حقّ على الله أن يرزق الخائف الأمان، فودَّعهم ومضى. ثم وقف على ثلاثة أشخاص آخرين، ووجدهم على حالة تفوق حالة النفر الأوّل، فسألهم عن السبب؟ فقالوا: إنّه الشوق إلى الجنة ونعيمها هو الذي دفعنا إلى حرمان أنفسنا من نعم الدنيا وزخرفها. فقال لهم عيسى(ع): حقّ على الله أن يعطيكم الذي من أجله حرمتم أنفسكم ويهبكم الجنّة ونعيمها، فسلَّم عليهم ومضى. ثم مرّ على ثلاثة أشخاص آخرين، فوجدهم على حال تخالف ما كان عليه مَنْ سبقهم، كانوا كأنّ وجوههم أشعّة من نور، فسألهم عن السبب؟ فقالوا: محبة الله وامتلاء قلوبنا وكلّ كياننا حبّاً وعشقاً لله، فقال لهم: أنتم المقرَّبون، أنتم المقربون حقّاً.
ج ـ تصنيف وترتيب المعارف والتعاليم الدينيّة :
لقد تعدَّدت الروايات عن النبي الأكرم| وأهل بيته(ع) التي تبيِّن أنّ تعاليم الدين والمعارف القرآنيّة على مستويات مختلفة، بلحاظ ما تتضمَّنه من معانٍ ومفاهيم، فلا تقتصر على الجانب الظاهريّ الذي توحيه ألفاظها، والذي يتوصَّل إليه بمقتضى العرف والاستعمال اللغويّ، وإنّما إلى جانب الظاهر هناك معانٍ وحقائق باطنيّة عميقة([17]).
يقول النبي الأكرم(ص)، كاشفاً هذه الحقيقة: إنّ للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه سبعة أبطن"([18]).
ويقول أمير المؤمنين عليّ(ع): «ظاهره أنيق، وباطنه عميق"([19]).
وعن الإمام الصادق(ع) أنه قال: كتاب الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق. فالعبارة للعوامّ؛ والإشارة للخواصّ؛ واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء".
كذلك بيَّن الأئمّة الأطهار أنّ كلامهم، والذي يأتي بعد القرآن والحديث النبويّ كمصدرٍ ثالث للتعاليم الإسلاميّة والمفاهيم الدينيّة، أنّ كلامهم لا يقف عند المعاني الظاهريّة، بل له معانٍ باطنية عميقة، وجهازا مفاهيمياً مستعصياً على عوام الناس، لا يدركه إلاّ الخواصّ ممَّنْ وهبهم الله طاقة تحمله. وفي هذا يقولون: "إنّ حديثنا صعبٌ مستصعب".
نجدهم في أكثر من رواية يقسِّمون أحاديثهم بلحاظ درك معانيها وفهم مرادها الحقيقيّ إلى طبقات. وخصّوا كلّ طبقة منها بفئة خاصّة من المؤمنين، اقتصر فهمها عليهم، واستيعابها بما لديهم من مواهب في الفهم وما تحمله قلوبهم من معارف يستشرفون بها لبّ أحاديثهم، ويتوصَّلون إلى المراد من وراء اللفظ، حتّى أن هناك من كلامهم ما لا يدركه إلاّ ملكٌ مقرَّب أو نبيٌّ مرسل.
وما يبيِّنه هذا التفسير أنّه لا يقتصر على تقسيم حقائق القرآن إلى: ظاهرة؛ وباطنة، بل لحقائقه الباطنة أيضاً مراتب وطبقات، تتعدَّد وفقها مراتب الناس في تلقّيها واستيعاب مفاهيمها. وهذه الحقائق الباطنية خاصّة بمَنْ وهبوا النظر الثاقب والتفكر العميق، وعوامّ الناس من معرفتها في الخارج تخصُّصاً.
وهذا يكشف أنّ كل طبقة من معاني القرآن خصّ لها أناسها، ولها فرسانها الذي يملكون سلاح فهمها وسبر أغوارها، ممّا يعني أنّ الجمود على المعاني السطحية من شأنه أن يغيب جانباً عظيماً من المعاني والمفاهيم التي لا يعدّ اللفظ سوى آلة اقتضتها شأنيّة التواصل، وإلا فإن المعاني المجرَّدة لا تصل إليها إلاّ العقول التي تتجرَّد عن المادّة، ولا تحبس نفسها بين قضبان اللفظ، بل تراها تتطلَّع إلى ما وراء الحروف، وتكتفي بالإشارة لتسبح في عالم المعنى، وترتوي من فيوضاته رواءً رويّاً. وهنا جديرٌ أن نقول: لكل مقام آذان صاغية، ونفوس متفانية.
درجات إيمان الصحابة، واقترانها بمراتب فهمهم للخطاب الدينيّ :
تفاوتت درجات إيمان الصحابة بعضهم عن بعض، شأنهم شأن سائر الناس. يوضح لنا هذا بعض الروايات الواردة عن أهل البيت الكرام(ع). فعن الإمام السجاد(ع) يصف تفاوت أبي ذرّ عن سلمان، وكان كلاهما من أجلّة وعظماء الصحابة، وأثبتهم على الدين، وأشدّهم فناء في اتّباع الحقّ، قال(ع): إنّ النبي الأكرم(ص) قال: "والله لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله"([20]).
وقد نقل الإمام الصادق نفس الرواية، عن أبيه الإمام الباقر(ع)، أنّ عليّاً(ع) كان يتحدَّث يوماً عن التقيّة، وقال: "إنْ علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لقتله، وقد آخى رسول الله بينهما، فما ظنّك بسائر الناس"([21]).
مع التذكير بأنّ سلمان كان من الصحابة المخلصين، حتّى أنّ النبيّ الأكرم(ص) قال فيه: «سلمان منّا أهل البيت». وكذا كان أبو ذرّ من خلّص الصحابة، وأكثرهم بصيرة، فقد قال فيه النبيّ الأكرم(ص): "ما أظلَّتْ الخضراء ولا أقلَّتْ الغبراء أصدق من أبي ذرّ"([22]).
وفي رواية أخرى يحكي فيها سلمان قصّة إسلامه، وكيف أنه نهل من العلوم المختلفة والمعارف العميقة والمتنوِّعة الكثير، حتى قال: "لو أخبرتكم بكلّ ما أعلم لقالت طائفة: إنّه لمجنون، وقالت طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان"([23]).
وكذلك جاء في حديث آخر أنّ النبي الأكرم(ص) قال لسلمان: "لو عُرض علمُك على المقداد لكفر"([24]).
إنّ من ضمن التعاليم الجليلة التي نستشفّها من هذه الروايات كون علم ومعرفة الإنسان على قدر ما يحتمل، وبلحاظ ما له من استعداد، وأن لا أحد يستطيع أن يفرض علماً، فكراً أو تصوّراً، على الآخر، ما لم تكن له قابلية استيعابه ودركه. فلا أحد مجبورٌ في ما لا يستطيع، أو لا يملك له القدرة والطاقة. فكلّ ظرف إنّما يحوي على قدر سعته.
وقد روي أنّ أبا ذرّ دخل على سلمان، وكان يطبخ على النار قدراً له، وبينما هما يتحدثان إذ انكبّ القدر على وجهه على الأرض، فلم يسقط من مرقه ولا من ودكه شيئ، فعجب لذلك عجباً شديداً، وأخذ سلمان القدر فوضعها على النار على حالتها ثانية، وأقبلا يتحدّثان، وبينما هما كذلك إذ انكبَّت القدر على وجهها، فلم يسقط منها شيئ من مرقها ولا من ودكها، قال: فخرج أبو ذرّ مذعوراً من عند سلمان، وبينما هو متفكِّر إذ لقي أمير المؤمنين علياً(ع) على الباب، فلما أبصره عليٌّ(ع) قال له: يا أبا ذرّ، ما الذي أخرجك من عند سلمان؟ وما الذي أذعرك؟ قال له أبو ذرّ: يا أمير المؤمنين، رأيتُ سلمان صنع كذا وكذا، فعجبت من ذلك، فقال أمير المؤمنين(ع): يا أبا ذرّ، إنّ سلمان لو حدَّثك بما يعلم لقلتَ: رحم الله قاتل سلمان. يا أبا ذرّ، إنّ سلمان باب الله في الأرض، مَنْ عرفه كان مؤمناً، ومَنْ أنكره كان كافراً. إنّ سلمان منّا أهل البيت"([25]).
ونظير هذه الروايات يمكن العثور عليها في كتب الرجال، وهي كثيرة([26]).
إن الاقتناع والإيمان بهذا المبنى، وإدراك أبعاده، سيخمد الكثير من البؤر المشبعة بالتعصُّب ولغة التكفير، وما ينتج عنها من ممارسات قبيحة في العنف والتقتيل والتجهيل. وفي المقابل سيشغل فكر الإنسان عن البحث في الاختلافات الفرقية أو المذهبيّة، بل سيفسح المجال أمام تصدّر علاقات وروابط التسامح والأخوة، تحت المبادئ الكلّية للدين، وسيرفع كل العراقيل أمام النظرة الإنسانيّة إلى الآخرين، مهما اختلفت توجّهاتهم أو مذاهبهم ومشاربهم الفكريّة.
ويلاحظ من كلّ تلك الروايات أنّ الأئمّة الأطهار(ع) سعوا طوال مسيرة حياتهم إلى بناء الفرد المسلم، الذي يملك القدرة على استيعاب الآخر، مهما اختلف معه في الأفكار وفي المعتقد. كانت تربيتهم منصبّة على أنّ المخالف وإنْ خالفك في بعض الأمور فحتماً هناك أمورٌ كثيرة يشترك فيها معك، ويجب أن لا ننتظر من كلّ الناس أن يكونوا على مستوى واحد ومماثل في الفهم. وكذلك الناس في تقبُّلهم للحقائق، وفي ممارستهم للتديُّن، ليسوا على درجة واحدة. فالطاقات والقابليّات تختلف من فرد إلى فرد. فكما حصل الفرق في درجات إيمان وفهم واستعداد الناس كذلك حصل التفاوت والتفريق بين المعارف القرآنيّة والتعاليم الدينيّة، فظهر منها أنواع وأقسام، اختلفت بين الظاهر والباطن، العبارات والإشارات، الحقائق واللطائف. ولكلّ قسم ونوع رجالاته، كما لكل ميدان فرسانه.
**أستاذٌ مساعد في جامعة الأديان والمذاهب
الهوامش :
([1]) أصول الكافي 2: 44، كتاب الإيمان والكفر.
([2]) سورة النساء: 97 ـ 99؛ سورة التوبة: 106.
([3]) أصول الكافي 2: 405.
([4]) المصدر نفسه.
([5]) معاني الأخبار: 202؛ تفسير العياشي 1: 268 ـ 270.
([6]) أصول الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب أصناف الناس؛ بحار الأنوار 72: 157 ـ 172.
([7]) نهج البلاغة؛ أصول الكافي 2: 406، ح11.
([8]) نهج البلاغة، الخطبة 189.
([9]) أصول الكافي 2: 406.
([10]) الميزان 5: 80.
([11]) أصول الكافي 2: 42؛ وسائل الشيعة 11: 429؛ جامع أحاديث الشيعة 18: 313.
([12]) أصول الكافي 2: 45.
([13]) أصول الكافي 2: 43؛ وسائل الشيعة 11: 427.
([14]) بحار الأنوار 66: 174. وهناك العديد من الموارد يرجع إلى: جامع أحاديث الشيعة 21: 315 ـ 331.
([15]) تفسير القمي 2: 294.
([16]) تفسير العياشي 1: 10 ـ 12؛ تفسير بيان السعادة 1: 12 ـ 13؛ تفسير المحيط الأعظم 1: 203 ـ 205؛ التفسير والمفسِّرون 1: 97 ـ 112.
([17]) تفسير الصافي: 8، المقدمة.
([18]) نهج البلاغة، الخطبة 18.
([19]) بحار الأنوار 2: 190.
([20]) رجال الكشّي، ح40؛ بحار الأنوار 22: 343