الشيخ أحمد عابديني**
كثيراً ما نرى الخطباء والعلماء يتكلمون حول الوحدة ويأتون بعبارات جميلة وأنيقة حتى يظنّ السامع أنّه بعد هذه المحاضرات والخطابات لن يبقى أيّ خلاف بين المسلمين بل بين الموحّدين، بينما نرى الخلاف الواسع في العمل ونتأكّد أنّهم في الشعار يقولون أشياء لا يلتزمون بها في العمل أبداً؛ فمن أرفع شعارات الوحدة التمسك بالآيات القرآنية نظير}: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}آل عمران: 103)، أو الآيات التي تُعرِّف التفرّق عذاباً كقوله تعالى:{قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}(الأنعام: 65). أو استفادة الأولوية من الآيات التي تدعو أهل الكتاب للوحدة؛ إذ أَمَر اللهُ رسوله بدعوة أهل الكتاب إلى أن يجتمعوا حول كلمة التوحيد بقوله: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله} (آل عمران: 64)، فمن المجموع نفهم أن المسلمين يجب أن يكونوا متحدين بل يكونوا نفساً واحدة ويداً واحدة.
لكن عمليّاً لا نرى أثراً لهذه الشعارات؛ فالسُّنّي مثلاً يصلّي في مكان والشيعي في مكان آخر في مسجد واحد، أو يصلّي السنّي ابتداءً وبعده يصلّي الشيعة أو بالعكس. أو يرى كل واحد بطلان صلاة صاحبه؛ لذا إمّا لا يصلّي أحدُهما خلف الآخر ولا يقتدي به أو لو اقتدى في بعض الأحيان به يحسّ بقَلَقٍ في نفسه ويتمنّى مكاناً فارقاً أو نشاطاً كاملاً يحرّكه نحو إعادة الصلاة. فكل واحدٍ منّا بل وكل ناظر خارجي غيرنا يرى تغايراً محسوساً بين تلك الشعارات وهذه الأعمال. فعلى هذا إمّا أنّ فهمنا لآيات الوحدة كان غلطاً وخطأ أو أنّ هذه الأعمال بهذه الصورة التي نعملها لم يأمر بها الشارع بل أَمَرنا بغيرها مما يتناسب مع الشعارات القرآنية الصريحة.
والذي ينبغي أن يقال: إنه لا مجال لتخطئة فهمنا للآيات القرآنية؛ لأنّها نصّ أو كالنصّ في موضوع الوحدة بين المسلمين، تؤيدها الروايات الكثيرة الموجودة في كتب الفريقين؛ فعلينا أن نلتزم بالخيار الثاني؛ فإمّا نقول بأن الأمور التي صارت موجباً للخلاف بين المسلمين في الصلاة لم تكن من الواجبات وتركها لم يكن من المبطلات أو نقول: إن هذه الأمور واجبة أو محرّمة عندما لا يجتمع السنة والشيعة في مكان واحد للصلاة، أما في حالة الاجتماع فتسقط عن الاعتبار لأجل الاجتماع.
ونظير ذلك أننا ندري بأن الركوع ركنٌ في الصلاة، وزيادته عمداً أو سهواً مبطلة لها، لكن في الجماعة لا تبقى هذه الزيادة مبطلة؛ فإن رَفع المأموم رأسه من الركوع ورأى أنّ الإمام ما زال في الركوع جاز له بل استحبّ أن يرجع إليه ويكون معه. فبهذا القياس يمكن أن يقال: إنّ بعض الأمور يمكن أن يكون واجباً أو حراماً إذا لم تكن الفِرَق الإسلامية مجتمعة، أمّا مع الاجتماع للصلاة في مكان واحد ـ كأيام الحج ـ فكثير من الأمور الاختلافية تسقط عن الاعتبار([1]). ونتيجة ذلك أنّه عندما يكون الإنسان في بلاده وبين أهل مذهبه يجب عليه أن يعمل مطابقاً لمذهبه؛ لأنه يراه الحقّ، لكن عندما يكون في بلاد يشيع فيها مذهب غيره فالأمور التي تكون خاصّة بمذهبه تسقط عن الاعتبار، ويستحب بل يجب أن يعمل طبقاً للمذهب الشائع الموجود في الساحة رعايةً للوحدة والاتحاد.
إستحباب الحضور في صلوات أهل السنة ، الأدلّة والنصوص :
من الأعمال المستحبة الأكيدة الحضور في مساجد أهل السنّة والصلاة معهم وفي الصف الأوّل، وتفقّد حالهم؛ وإليك بعض الروايات:
1 ـ خبر حمّاد بن عثمان، عن أبي عبدالله(ع) أنّه قال: «من صلّى معهم في الصف الأوّل كان كمن صلّى خلف رسول الله’ في الصّف الأول"([2]). وسند الحديث جيدٌ؛ إذ محمد بن الحسين هو الصدوق المعروف، وكتابه في الحديث معروف أيضاً سمّاه «من لا يحضره الفقيه» والحديث مذكور فيه([3]). وفي المشيخة ذكر الأسانيد وقال: ما كان فيه عن حماد بن عثمان فقد رويته عن أبيt عن سعد بن عبدالله والحميري جميعاً عن يعقوب بن يزيد عن محمد بن أبي عمير عن حماد بن عثمان([4])، فالسند صحيح، وهذا الحديث بعينه نقله الكليني في الكافي والشيخ الطوسي في التهذيب بأسانيد صحيحة.
2 ـ قال: وقال الصادق(ع): «إذا صلّيت معهم غفر لك بعدد من خالفك([5]). "وهذا السند لا بأس به؛ لأنّه وإن لم يذكر سند الحديث لنا لكنّه لما قال: قال الصادق(ع) ولم يقل: رُوِي عن الصادق، يظهر لنا أن السند كان عنده تاماً بحيث كان يصح منه ـ وهو رجل تقّي صدوق ـ أن ينسب الخبر إلى الصادق.
3 ـ خبر إسحاق بن عمار الفطحي الثقة([6]) بمضمون قريب، لكن الراوي الثاني هو جعفر بن المثنى الذي لم يذكر بمدح ولا ذم، بل قالوا: كوفي واقفي([7])، فالسند غير موثق.
4 ـ خبر عبدالله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: "أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ، ولا تحملوا النّاس على أكتافكم فتذلّوا، إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} ثم قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلّوا معَهم في مساجدهم".
5 ـ خبر عبدالله بن سنان الآخر، عن أبي عبد الله(ع) أنّه قال: "ما من عبد يصلّي في الوقت ويفرغ ثمّ يأتيهم ويصلّي معهم وهو على وضوء إلاّ كتب الله له خمساً وعشرين درجة". وسند الصدوق إلى ابن سنان صحيح.
6 ـ خبر نشيط بن صالح، عن أبي الحسن الأوّل(ع) قال: "قلت له: الرجل منّا يصلّي صلاته في جوف بيته مغلقاً عليه بابه ثمّ يخرج فيصلّي مع جيرته تكون صلاته تلك وحده في بيته جماعة؟ فقال: الذي يصلّي في بيته يضاعف الله له ضعفي أجر الجماعة تكون له خمسين درجة، والذي يصلّي مع جيرته يكتب له أجر من صلّى خلف رسول الله، ويدخل معهم في صلاتهم فيخلف عليهم ذنوبه ويخرج بحسناتهم". وهو سند صحيح كما قال المجلسي في ملاذ الأخيار.
والروايات في هذا الباب كثيرةٌ، من يريد فليراجع في مظانّه كأبواب صلاة الجماعة في كتاب الوسائل، وأيضاً باب فضل المساجد في كتاب التهذيب، ونظائر هذه الأبواب في كتب الحديث الشيعية، وعلى أيّ حال فالتواتر الإجمالي بل المعنوي في هذا المجال موجود.
لكنّ النقطة الأساسية في هذا المجال: لِمَ هذا المقدار من الثواب العظيم في الصلاة معهم؟ لماذا الصلاة خلفهم تساوي الصلاة خلف رسول الله؟ ولماذا يكون المصلّى خلفهم كالشاهر سيفه في سبيل الله؟ أليست العلّة الأساسية هي حفظ الوحدة الإسلامية، ومن ثمّ حفظ الإسلام الذي جاء به رسول الله وشيّد بنيانه وسدّد ثغوره ثم بعد موته صار مطمعاً للأعداء ومجالاً لقتل الأولياء؟! فأئمتنا أمروا شيعتهم بالصبر على المظالم والحضور معهم في الجماعات، قال الصادق(ع) في ذيل قوله تعالى: {أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا} (القصص: 54)، قال: "صبروا على التقية"، وفي ذيل قوله تعالى: {وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} (القصص: 54)، قال: "الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة"([8]).
نعم كل شخص لاحظ نفسه يرى أنه من أشقّ الأعمال أن يصلّي خلف من ضربه أو أهانه أو قتل صديقه و.. لكن الصبر الجميل هو هذا الصبر، حتّى يبقى أساس الإسلام، فبهذا التوضيح يكون الثواب مناسباً للعمل.
الهوامش :
([1]) هذا هو الذي نقبله مما يسمّونه في عصرنا بتعدّد القراءات؛ فالأمور التي تكون كالنص في الدين أو نطق بها القرآن بالصراحة لا مجال لتعدّد القراءات فيها، بل يمكن أن يقال: إنه لا يوجد فيها قراءات متعدّدة؛ إذ كل الفِرَق ملتزمون بالنصوص وبالسيرة القطعية، أمّا غيرها مما لا يكون كالنص، فالتعدّد فيها ممضيّ، وعمل كل فرقة صحيح إذ كانوا بالإنفراد، وعند الاجتماع يعملون بالمشتركات أو الأقلّية يتّبعون الأكثرية. فنحن كشيعة الجعفرية نتّبع قراءة جعفر بن محمد عن الدين عندما نكون في بلادنا وبعيدون من أجواء أهل السنّة ونعمل بقراءتهم عن الدين عندما نكون بينهم كمكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة. وتوضيح هذا مرّ منّا في الرسالة المسماة به «الربط بين التقية وتعدّد القراءات» فراجع.
([2) المصدر نفسه، الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة، ح1.
([3]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 1: 382، ح1125.
([4]) المصدر نفسه 4: 453.
([5]) وسائل الشيعة، الباب 5 من أبواب صلاة الجماعة، ح2.
([6]) المصدر نفسه، ح7.
([7]) الخوئي، معجم رجال الحديث 3: 62.
([8]) وسائل الشيعة، باب 24 من أبواب الأمر بالمعروف، ح1، والسند صحيح أو مصحّح لأجل إبراهيم بن هاشم.
(**) باحث وأستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية بمدينة إصفهان.