قراءة في كتاب "خطاب الوحدة الإسلامية" للأستاذ زكي الميلاد**
هو كـتاب من القطع المتوسط يقع في 320 صفحة، طبعته الأولى سنة 1996 ببيروت - دار الصفوة، يهديه كاتبه إلى مـن «زرعـتم فـي قلب هذه الأمة بذرة الوحدة.. (و) بذلتم من حبر القلم ودمع العين أمل الوفاق .. وتخطيتم الصـعاب لإشراقة شمس الحرية ..(و) إلى كل نداء بالتآلف والتقارب والتسامح. (و) إلى كل داعية لقيم الخير والعـدالة والإخاء".
الكتاب يتضح مـن عـنوانه بأنه استقراء لنشاطات الوحدة الاسلامية، وتركيز على مساهمة الفكر الشيعي فيها.
يقول الكاتب في المقدمة:
"من «طنجة» غرباً، إلى «جاكرتا» شرقا، مقلق ما نراه من التمزق والتفتت والانقسام، الظاهرة التي مضي عـليها زمن طويل، ولاتزال تأخذنا بقوة تداعيتها في حاضرنا وعلى امتداد العالم الإسلامي. ولا نعلم متى نضع حداً لنهايتها. فأينما تذهب يأتيك الحديث عن هذا التمزق والتفتت والانقسام، وبين من! بين أبناء القـبلة الواحـدة، والدين الواحد، والكتاب الواحد. هذا الواقع البائس هو الصورة الحقيقية لما وصلنا إليه بما كسبت أيدينا. الواقع الذي هو أكبر من أن نخفيه ونتكتم عليه. وهذه المشكلات هي من أشد حـالات التـخلف، لأن الحضارة تعبر عن نفسها بالعلاقات المتطورة، وبالتواصل الذي يتصف بالإيجابية والحيوية بمختلف أشكالها وأنماطها، وبالتعايش الكريم، وبتحويل الفروقات إلى مصادر للتنوع والإثراء الحيوي. ومتى بدأت الحضارة ، تبدأ معها مسيرة الوحـدة التـي تأخذ حركتها التصاعدية. لأن مكتسبات الحضارة هي مقومات فاعلة في تدعيم وتجذير حركة الوحدة. ومن هذه المقومات الارتقاء بالإنسان علمياً وثقافياً، تحسن مستويات المعيشة، تطور النظم والعلاقات الاجتماعية، التعاون والشـراكة فـي الإنـماء والأعمار، سيادة القيم والمبادئ الحـضارية إلى غـير ذلك. فـهذه المقومات لا تنفصل ومسيرة الوحدة في الأمم. ومتى مابدأ التراجع، بدأت حركة الوحدة بالانكسار وحلّ مكانها ما هو ضد الحضارة من التـمزق والتـفتت والانـقسام. وما هو جدير بالاهتمام أن الوحدة من المصالح العـليا عـند كل الأمم والشعوب، لأنها من الشروط الأساسية والمحرزة في حفظ النظام العام وفي قوامه وفاعليته، وهو الذي أكد عليه الفـقهاء، وطـالبوا به، وبـتحصيل كل ما يدخل في عنوانه كالواجبات التي اصطلح عليها فـي الفقه الإسلامي بالواجبات الكفائية ومنها الطب والنظام السياسي وكل المؤسسات والأنشطة والفعاليات التي يتوقف عليها حفظ النظام العـام وقـوامه.
وحـان الوقت الذي، نقف فيه وقفة جريئة في نقد الذات، ومن غير هذا النـقد فـلا إصلاح، ولا تجديد، في أوضاع الأمّة. فما من أمة نهضت إلا بعد اكتشاف ذاتها. وما نريده من نـقد الذات هـو اكـتشاف ما هو أصيل من ما هو دخيل، واكتشاف ما هو حي مـن مـا هـو ميت، وما هو حضاري من ما هو ميت. وأعتقد أننا في مرحلة وصلنا فـيها إلى أن نـكون فـي مستوى الشجاعة علي نقد الذات، وما هذا النهوض الإسلامي والصحوة الاسلامية إلا بداية لاكتشاف الذات ونـقدها. هـذا من حيث الفعل; أما من حيث القوة فتتأكد هنا أهمية وضرورة الترشيد لحـركة الصـحوة الاسـلامية وتوجيهها نحو المسارات الحضارية التي ترتبط بالمصالح العليا للأمة. ومع هذا النهوض الذي حصل فـي الأمـّة والذي يشكل بداية سليمة علي طريق البناء الحضاري، إلا أن الواقع بفعل التراكمات التاريخية لا يزال يـختزل اشـكاليات ذهـنية حرجة، ومشكلات تطبيقية صعبة. فلا يزال الشيعي يصعب عليه أن يتعايش مع السني، وهذا الآخر يـصعب عـليه أن يتعايش مع الشيعي. ولا يزال الحوار واللقاء بينهما صعباً. هذا هو الواقع الذي قـلنا عـنه، الواقـع المر والرديئ.
هذه هي الحقيقة بل هي جزء من الحقيقة، لأننا لم نتطرق إلى ظاهرة التكفير، وكـأن الإسـلام ليـس بيننا ديناً للتسامح، والحوار، والمجادلة بالتي هي أحسن، دينٌ للمودة والعفو والرحـمة، ديـنٌ للعدل والمساواة والإخاء، دين للسلم والسلام والأمن.. لا أدري كيف سنصف هذه العصور لو ارتقينا إلى سلم الحضارة! هـل سـنصفها بالقرون الوسطى في تاريخ المسلمين وبعصر الظلام والظلمات أم بأكثر من هـذا..فـلنتدارك هذا الانحدار الخطير بأيد متحدة، وقلوب مـجتمعة، وفـكر لنـغلق ملفات الماضي، ولنفتح ملفات المستقبل.ولنصارح أنـفسنا أكـل هذا يحصل والقرآن بين أيدينا.هو الجهل، بل هو العلم، لكن ليس عـلم النـور والبصيرة والهدي، إنما العلم المـغلف بـالجهل، أو الجهل المـغلف بـالعلم. العـالم من حولنا يتغير ويتقدّم وقد دخـل مـرحلة تاريخية جديدة، ونحن نعيش خارج التاريخ، على هامش الزمن، ولدينا من الطـاقات البـشرية والزراعية والمعدنية الكثير، لكنها في سـاحة الفعل لا تأثير لها ولا فـاعلية.
لنـرجع ونقول: (إن اللّه لا يغير ما بقوم حـتى يـغيروا ما بأنفسهم). وحينما بحثت في هذا الموضوع وجدت نفسي أقف على تراث مـشرق يـنبض بالروح ويتلألأ ناصعاً، تتزاحم فـيه عـناصر الحـياة، ومقومات النهوض، وإذا بـي أجـد نفسي بين نفحات مـن الروح تـغمرني، وتأخذني بخيالات عدتُ بها إلى ماض حي، وتحلق بي إلى مستقبل تقنا وما وصـلنا إليـه. نعم كان لنا عظماء، وما يـزالون، كـان لنا رجـالات الوحـدة، والتـضامن والوفاق. ليتنا نعود ونـسمع صرختهم من جديد، ونتعلم من مدرستهم مدرسة الوحدة الاسلامية الكبري.. لقد كانوا لكل الأمة، لكـل قـيم الخير والعدل والإحسان والتسامح، لكل قـيم الوحـدة والتـعاون والتـقارب والوفـاق".
أما لماذا التـركيز عـلى الفكر الإصلاحي الشيعي؟ يقول:
أولا: لضرورات منهجية تتعلق بإمكانية حصر البحث، وتوفير المعلومات، والإحاطة الممكنة بالبحث.
ثـانياً: لأنـنا فـي العالم الشيعي بحاجة إلى هذا الفكر الإصلاحي، والى إحـيائه، لأسـباب وظـروف، أتـرك للواقـع مـهمة الإفصاح عنها.
ثالثاً: إن التاريخ الشيعي لم يؤرخ - بفتح الراء - له بعدالة وإنصاف، ولا تجد له حضورا في التاريخ الإسلامي العام."
في الفصل الأول من الكتاب مدخل في الإطار المعرفي والمنهجي. ويتناول ما نـزل بالتاريخ من تحريف وتزييف ويخلص إلى النتيجة التالية:
"التاريخ الإسلامي كما هو مصنف في كتب بعض المؤرخين، بل كثير منهم، هو تاريخ تفريق وشقاق ويكرس الطائفية والتجزئة في الأمة.. وهذا مـن المـشكلات الخطيرة علمياً ومنهجياً في كتب التاريخ.
فهل نريد أن يكون تاريخنا تاريخ تفريق ونزاع وشقاق، ونحن نتطلع إلى مستقبل حضارة، وهل إن الحضارة تنمو وتتقدم مع الفرقة والنزاع والشقاق.. أم إن الحضارة تـنهض عـلى أرضية الوحدة والتعاون والتقارب... كيف نصدق أنفسنا أننا نريد الوحدة وبوصلة تاريخنا تسير بنا نحو التفكك والانقسام..؟!كما لا نريد ان نحمِّل التاريخ مالا يـحتمل. إن التاريخ الإسلامي الذي نريده هو تـاريخ التـوحيد وليس التفرقة، تاريخ التقريب وليس التبعيد، تاريخ الإنصاف والموضوعية وليس الإجحاف والانفعالية، تاريخ احترام الذات والآخر، تاريخ الأمّة، وليس السلطان، تاريخ العلم وليس المال، تـاريخ الحـضارة وليس الحرب.. هذا الذي نـريده فـي إعادة كتابة التاريخ الإسلامي من جديد وبرؤية نقدية معرفية جديدة.. والتاريخ الشيعي ليس مفصولاً ولا مقطوعا ولا عرضياً على التاريخ الإسلامي العام كما لا نريد له أن يكون كذلك.
نحن نعلم أن ما تعرض له التاريخ الشـيعي مـن تحريف وتزييف يفوق بكثير ما تعرض له التاريخ الإسلامي العام. وحان الوقت، وبعد أن سبقنا كثيراً، أن نعيد النظر في هذا التاريخ ونعيد له الإنصاف والموضوعية والاحترام والاعتبار، إنصافاً وموضوعية واحتراماً واعتباراً للحق والحـقيقة."
وبـعد أن يتناول الكـاتب بعض التجارب التقريبية عبر حركة السيد جمال الدين ومؤتمرات القدس ودار التقريب ومجلتها رسالة الإسلام ومشاريع الوحدة الاسـلامية في إيران الإسلام، يدخل في نقد معرفي لازمة الحوار الإسلامي عـامة وأزمـة الحـوار السني الشيعي بشكل خاص. ويرى أن مشكلات المنهجية في الحوار هي:
أولاً: أن يفكر كل طرف مسبقاً في الانتصار عـلى الطـرف الآخر، والنتيجة انهزام الطرفين، لأن كل طرف لن يرضى لنفسه بانتصار الطرف الآخر عليه.. بـينما مـنطق القـرآن الحكيم في الحوار (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)(سبأ/24) استيعاب هذه الآية يساهم فـي إعادة تشكيل العقل المسلم حيث تجذبه للحوار وبمنهجية موضوعية متوازنة توحي للطرف الآخـر بضرورة تقصي الحق وقـصد الحـقيقة.
ثانياً: إننا نريد الحوار لكي يفهم بعضنا بعضا، ويتعرف على وجهات نظر كل طرف وعن قرب، ومن خلال منهجية الحوار.
وفي هذا الصدد يقول العلامة الشيخ «محمد جواد مغنية» [1322 - 1400هـ 1980مـ] (إن في كتب الشيعة الإمامية اجتهادات لا يعرفها الخواص من علماء السنة، ولو اطلعوا عليها لقويت ثقتهم بالشيعة وتفكيرهم، وكذا الشأن بالقياس إلى كتب السنة وعلماء الشيعة، إن اطلاع كل فريق على ما عند الآخـر مـن أقوى البواعث على تمهيد السبيل للتقريب بين الأخوة، من حيث يدرون أو لا يدرون)( دعوة التقريب بين المذاهب الاسلامية / 107).
ويعزز هذه الحقيقة الشيخ «حبيب آل إبراهيم» صاحب كتاب "الحقائق في الجوامع والفوارق» بقوله: (ما الطائفة الشيعية إلا كـغيرها مـن الطوائف السنية، فكما يوجد اختلاف بين الحنفية والشافعية، وبين الشافعية والمالكية وهلم جرا، كذلك يوجد بين الشيعة وغيرها، بل لا يكاد يوجد مسألة للشيعة فيها حكم إلا ولهم من السنة فـيها مـوافق)( الحقائق في الجوامع والفوارق. الشيخ حبيب آل ابراهيم / 10). ويثبت هذه الحقيقة من علماء السنة الشيخ «سليم البشري» [1248-1335هـ / 1832 – 1996/م[ بقوله: (لا يوجد في مسائل الفقه المروية عن آل البيت، ما يخالف المسائل المروية في كتب جمهور أهل السنة)( الإسلام بين السنة والشـيعة. هـاشم الدفـتر المدني ومحمد علي الزعبي، 2/ 2).
ثـالثاً: إن المـنهجية التـي نريدها في الحوار، هي مـنهجية (الذيـن يـستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم اللّه وأولئك هم أولوا الألباب)( الزمر / 18). فالحوار هو لاختيار أحسن الأقوال من أية مرجعية فكرية كانت بعيداً عن التعصبات والحـساسيات المـذهبية، بـتحكيم العقل (وأولئك هم أولوا الألباب). والوصول إلى أحسن الأقوال بعد مـعرفة واسـتيعاب مختلف الآراء وتقليب النظر حولها وبتجرد علمي.. وهذه هي منهجية التفاهم والتقريب..
رابعاً: ليست مهمة الحوار إلغاء نقاط الاختلاف حـتى نـصل إلى نقاط الاتفاق، فهذه ليست منهجية علمية ولا تصل بنا إلى التفاهم والتـقارب.. لأن إقصاء نقاط الاختلاف والخلاف ليس ممكناً، بل ليس مطلوباً أيضاً .فما نريده من الحوار أن نعرف أين نختلف وأيـن نـتفق، ونـؤسس الاختلاف أو الخلاف على أسس علمية محكمة ونجردها من التعصبات، ونحررها مـن التـزييف والتحريف السياسي والتاريخي والكلامي. ونؤسس الاتفاق عـلى قـاعدة عـلمية رصينة وثابتة. وعن ذلك يقول الشيخ «محمد حسين آل كاشف الغطاء»: (ليس المراد من التقريب بـين المـذاهب الاسـلامية إزالة أصل الخلاف بينها، بل أقصى المراد وجل الغرض هو إزالة ان يكون هذا الخلاف سبباً للعـداء والبـغضاء، الغرض تبديل التباعد والتضارب بالإخاء والتقارب)( دعوة التقريب بين المذاهب الاسلامية / 67). وعن هذه المنهجية يقول العلامة السيد "مـرتضي العـسكري» (لن يـتحقق أي تقارب أو تفاهم بين المسلمين دون تدارس مسائل الخلاف والبحث عن منشئها ثم المبادرة إلى علاجها)( معالم المدرستين/ السيد مرتضى العسكري: 1/ 23(
خـامساً: ضـرورة ان يخرج الحوار من إشكاليات الماضي ورواسب الواقع إلى تجديد خطاب ثقافي للوحدة الاسـلامية يـتأسس عـلى المعطيات الجديدة في الوضع الإسلامي، والتحولات العالمية الكبرى، وعلى قراءة جديدة وواعية للمستقبل وحساباته الشـاملة. فـخطاب الوحدة الاسلامية ينبغي أن يتجدد ويصاغ بمعرفية جديدة، يشترك في تأسيسه وصياغته كـل الفـرقاء وعـبر منهجية الحوار..
وأخيراً علينا أن ننتبه إلى أزمة الحوار الإسلامي، والى إعادة النظر في هذه الأزمة، للنهوض بـمشروعات الحـوار الإسـلامي لخلق الأرضية الحيوية والخصبة لمشروعات الوحدة الاسلامية."
والفصل الثاني من الكتاب يـتناول «تـطور مساهمات الشيعة في مشروعات الوحدة الاسلامية." يلقي فيه نظرة على بعض الشخصيات مثل: محمد بن مـكي العـاملي المعروف بالشهيد الاول، وزيـن الديـن بن علي العاملي الملقب بالشهيد الثاني، والسـيد حـسين البروجردي، ومحمد حسن الشيرازي، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والشـيخ مـحمد صالح المبارك، والشيخ محمد تـقي القـمي، والشيخ مـحمد جـواد مـغنية، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد أبـو القـاسم الخوئي، والسيد محمد رضا الكلبايكاني. وإضافة إلى مساهمة أولئك الأعلام يسلّط الضوء بشكل خـاص عـلى من احتلت هموم وحدة المسلمين الجـانب الأكبر من حياتهم وهـم: الشـيخ عبد الكريم الزنجاني، والسيد مـحسن الأمـين، الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين، والشيخ أبو الحـسن الخـنيزي.
ثم يعرض في الفصل الرابـع بـعض النـصوص من الفكر الإصـلاحي الشـيعي حول الوحدة الاسلامية.
الكـتاب مـحاولة هامة لابراز جانب من تاريخ هموم إسلامية في الوحدة والتقريب، وخاصة لدى الشيعة، ويحمل الدليـل القـاطع على أن الرسالية تعلو على المذهبية لدى كـل مـن يخلص وجـهه للّه فـي عـلمه وعمله. كما أنه جـهد توحيدي مشكور أمام الجهود الضخمة التي تبذل في سبيل تكريس التفريق والتشتيت والحساسيات الطائفية.
**باحث و مفكر إسلامي من القطيف
المصدر: رسالة التقريب