الشيخ حسين الخشن
في وسط هذا الجو المشحون بالأحقاد والمحموم بالعصبيات المذهبية والطائفية والعرقية والقومية والذي تغلي به منطقتنا العربية والإسلامية في هذه المرحلة المصيرية من تاريخها قد يعتبر البعض أنّ حديث الوحدة والتقريب هو حديث غير ذي جدوى، ولا يجد آذانا صاغية أمام أصوات "المدافع" الطائفية والمذهبية، وبالتالي فهو ليس سوى هواء في شبك يمر مرور الكرام دون أن يترك أي تأثير أو صدى.
ولكننا لا نعتقد بصحة هذا الكلام، لا لأنّ اليأس والقنوط ليس من ثقافتنا الدينية في شيئ فحسب، بل لأننا لا نؤمن بهذا المنهج في التفكير ومعالجة الهموم الفكرية والاجتماعية والإنسانية والدينية، ولأنّ من يتمسك بمثل هذه الذريعة في هذه المرحلة قد يتمسك بذرائع أخرى في حال كانت الأجواء طبيعية وهادئة ويقول لك - مثلا - إنه لا داعي للحديث عن الوحدة وأسسها وشروطها ومعوّقاتها، لأنّ أمورنا بخير والقلوب بحمد الله مؤتلفة، والأمة أمامها تحديات خارجية ولا داعي لنكء الجراح ولا لإثارة حفيظة الفريق الرافض لفكرة التقريب من الأساس، إلى غير ذلك من ذرائع ومعاذير قد تُساق من هنا أوهناك، وهي لا تُعبِّر في حقيقة الأمر إلاّ عن شيئ واحد نُفلِحُ فيه جيداً وهو الهروب المستمر من مواجهة قضايانا الإشكالية بجرأة ومسؤولية.
صوتٌ بألف
لكن لا يسعني وأنا أصر على التفاؤل ورفض اليأس إلا أن أتساءل هنا باستغراب ومرارة مع كل الغيارى والحريصين على مستقبل هذه الأمة وعزتها: لم يا ترى لا نجد لأصوات الوحدويين - بالرغم من إخلاص البعض منهم - هذا التأثير البين وفي الأمة، خلافاً للأصوات الرافضة للوحدة والمناوئة لكل جهود التقريب؟! وربما لا نبالغ ولا نجانب الصواب إذا قلنا: إن صوتاً واحداً يدعو إلى الفرقة يعادل في تأثيره السلبي ألف صوت يدعو للوحدة، وإنّ ما يبنيه الوحدويون أو يبذلونه من جهود مضنية في سبيل التقريب بين المسلمين قد ينهار بسرعة ويذهب هباءً منثوراً مع أول هزة مذهبية، وهكذا تتبخر الجهود الوحدوية وتتلاشى أمام كلمة غير مسؤولة يطلقها البعض، إنه حقا لأمر مرعب ومخيف ومدعاة للتفكير الملي أن تجد أمة برمتها تعيش على حافة الاهتزاز الدائم لمجرد كلمة غير مسؤولة قد تنطلق من هنا أو هناك، ما قد يعرض أمنها الداخلي للتصدع ووحدتها للتفكك، وهكذا نظل نعيش على هاجس الفتنة ووقع طبولها!
إنّ ذلك إنْ دلَّ على شيئ فإنما يدل على أننا نفتقد إلى جهاز مناعة قوي يحصن الأمة ويحمي أمنها وسلامها واستقرارها.
وعندما نفتش عمن يتحمل المسؤولية عن هذا الواقع المأزوم فلا نستطيع أن نستثني دعاة الوحدة وحاملي رايتها من تحمل نصيبهم الوافرعلى هذا الصعيد، لأنهم لما لم يعملوا بجدية وإخلاص لترسيخ الوحدة في النفوس فقد أعطوا انطباعاً بفشل هذا المسار وإيحاءً بخطأ الفكرة، ولذا دعونا نعترف بأننا لم نبن صرح الوحدة الإسلامية على أسس متينة وراسخة، ولم نعتمد المصارحة والمكاشفة سبيلاً ومنهجاً في مقاربة مشاكلنا وقضايانا، وإنّما بقيت المجاملات الشكلية هي التي تحكم علاقاتنا ولقاءاتنا، ونحن نعرف أنّ هذه المجاملات لا تبني وحدة ولا تُحصِّن ساحة ولا تحمي واقعنا من الانزلاق إلى فخ الفتنة والاحتراب، بل إنّ أول المنزلقين إلى أتون الفتنة والمندفعين في غمراتها إذا ما وقعت - لا قدر الله - هم أولئك المجاملون والمتكاذبون.
شروط النجاح
وقد لا يمثل اكتشافاً جديداً القول: إنّ أول شرط لنجاح الدعوة التوحيدية هو أن يقتنع حاملوها – قبل غيرهم- بنهج التقريب ويتمسكوا به باعتباره خشبة الخلاص لأمتهم، ويروا فيه عملاً عبادياً يتقربون به إلى الله، بل لا بد أن يتحوّل ذلك إلى همٍّ رسالي يؤرقهم ويشغل بالهم وتفكيرهم، وإذا ما توفرت القناعة واقترنت بصدق النية والاخلاص لله فمن الطبيعي أن يبارك الله في جهودهم وخطواتهم {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين}( العنكبوت 69).
والشرط الثاني لنجاح الدعوات التقريبية والجهود التوحيدية هو العمل الدؤوب على تأصيل الوحدة على أسس عقدية وشرعية، لأن الوحدة الحقيقية لا تبنى على مصالح سياسية أو اعتبارات وطنية أو أقليمية .. فإنّ هذه المصالح وتلك الاعتبارات هي اعتبارات ظرفية متغيرة ولا شك أن أدنى تغير أو تبدل في المصالح السياسية والاعتبارات الظرفية سيطيح بكل تلك الجهود الوحدوية بلمح البصر.
باختصار: إن لم نتعامل مع الوحدة باعتبارها دينا ندين الله به فلن تؤتي دعوتنا أكلها ولن تصمد بوجه الأعاصير المختلفة والأراجيف المتلاحقة والجهود الكبيرة لأعداء الداخل والخارج والتي تعمل بشتى الوسائل ومختلف الإمكانيات على تمزيق الأمة وتشتيت شملها واستهداف كل عناصر المنعة ومكامن القوة فيها وعلى رأسها عنصر الوحدة.
إذابة الجليد المذهبي
ولا ريب أنّ المهمة صعبة والطريق ليست مفروشة بالورود، فهناك تراكم تاريخي عمره مئات السنين وإرث ثقيل من النزاع والتخاصم قد ابتنى على أرضية أيديولوجية ومنظومة كلامية معقدة نظَرت للخصام وأصَّلَتْ للافتراق، حتى دخل ذلك في التربية الدينية ونشأت عليه أجيال وأجيال، فأصبحنا أمام ذهنيات مشبعة بالعداوة "المقدسة"والحقد "الديني" الذي يتقرب حاملوه إلى الله بسفك دم المسلم الآخر ولا يرون له حرمة ولا يرقبون فيه إلاًّ ولا ذمة.
ومن هنا فإنّ الخطوة الأولى في مهمة الدعوة التقريبية والتوحيدية تبدأ من الأصول الاعتقادية وعلم الكلام وليس من الفروع الفقهية، لأنّ المشكلة في عمقها وجوهرها كلامية وليست فقهية، فما كان التنوع الفقهي في يوم من الأيام ليشكَّل في حد ذاته عائقاً أمام وحدة الأمة وتعايش أبنائها بسلام ووئام، وإنما العائق الأساس هو في منطق التكفير ومستتبعاته، وفي احتكار الإسلام واعتباره حقاً خاصاً وحصرياً لهذا الفريق أو ذاك، فكل فريق يزعم أنه هو الإسلام وغيره الكفر، هو الحق وغيره الباطل، هو الفرقة الناجية وغيره هو الفرق الهالكة. وأنى لك أن تكون صادقا في دعوتك للوحدة ومناداتك بشعارات الإخاء إذا كنت تعتقد أن الآخر هو من أهل النار طبقا لما جاء في حديث الفرقة الناجية! أَوَيتَلاقى أهل الجنة مع أهل النار، وأهل الكفر مع أهل الإيمان؟! (لكاتب هذا المقال دراسة مستفيضة حول حديث الفرقة الناجية يفند فيها هذا الحديث سنداً ودلالة، راجع: كتاب هل الجنة للمسلمين وحدهم؟)
ولهذا فإننا ندعو للانطلاق في العمل التوحيدي من العقيدة والاصول لنؤسس لبناء عقدي وحدوي قبل أنْ نؤسس لفقه تشريعي وحدوي.
وعلينا إذا كنا صادقين في دعوتنا التوحيدية أن نبدأ بالعمل الجاد على إذابة هذا الجليد الراسخ والمتراكم بين المذاهب الإسلامية والذي تحولت معه المذاهب ليس فقط إلى كهوف مظلمة مليئة بالعصبيات المقيتة، بل إلى متاريس متقابلة يتحصن فيها الأتباع، إما بهدف الدفاع عن النفس وحمايتها من "ضلال" المذاهب الأخرى و "انحرافها وابتداعها"، وإما بغرض الهجوم والإنقضاض على أتباع المذاهب الأخرى لتطهير الأرض من "رجسهم"، وقد أصبحنا نسمع نغمة جديدة في الآونة الأخيرة مفادها: أن هذه الأرض أو تلك هي أرض سنية لا محل فيها للشيعة، أو أرض شيعية ولا مكان للسنة فيها!.
الخطوة الأخرى التي علينا أن نخطوها على هذا الصعيد بعد التأسيس النظري والعقدي هي العمل الميداني الدؤوب على تربية الأمة على ثقافة الوحدة والإخاء كي لا تبقى الأخوة الإسلامية مجرد شعار نرفعه أو شعر ننظمه أو شعور تنبض به القلوب دون أن يجد إلى الأرض الملتهبة بالعصبية سبيلاً، ولذا فنحن بحاجة إلى استنفار عام تربوياً وإعلامياً وثقافياً ... للتبشير بثقافة الوحدة وتربية النفوس عليها، ليألف المسلم أخاه المسلم ولا يجد حاجة للسؤال عن مذهبه.
إنّ هذه الخطوة على الصعيد التربوي مهمة وأساسية جداً في إذابة الجليد المشار إليه وتحتاج إلى صبر وأناة، لأنّ مشكلتنا أننا نواجه أحقاداً مترسخة في النفوس ويعمل الخطاب التكفيري على تكريسها، والحقد كما نعلم مرض نفسي مدمر للنفس وللغير وهو يحتاج إلى علاج تربوي معمق بغية التخلص من آثاره ونتائجه الكارثية، هذا لو كان الحقد في قضايا شخصية أو دنيوية، فكيف إذا كان حقداً "دينياً" ، أوبعبارة أدق أريد إضفاء القداسة الدينية عليه، بالتأكيد فإنّ مفعوله حينئذ سيكون قاتلا ومدمراً ولا يوازيه في الخطورة أي أمر مهما بلغت خطورته .
فقه الوفاق لا فقه الشقاق
وإذا ما نجحت جهود التقريب في تخطي العقبات المتأتية من مقولة التكفير ومنطق الفرقة الناجية فسيكون من السهولة بمكان الانطلاق إلى التقريب على الصعيد الفقهي، لأنك حينئذٍ تنطلق بروحية جديدة ومختلفة وذهنية منفتحة، ومن الطبيعي حينها أن يَحلَّ فقه الوفاق محل فقه الشقاق، وأن يغدو الفقيه غير محكوم لخلفية ذهنية موروثة تفرض عليه وتدفعه – بشكل قهري- إلى تتبع العثرات لدى الآخر وتسجيل النقاط عليه وتضخيمها وإحصاء الزلات والتشهير بها، بل إنه سيغدو معنياً بتأكيد الجوامع لا بتعزيز الفوارق، وبترسيخ المشتركات لا بتضخيم المنفردات، وحينئذ سنكتشف أنّ مساحة الاشتراك بين المذاهب الاسلامية على الصعيد الفقهي كبيرة جدا، وأنّ الخلاف بين علماء المذهب الواحد قد يفوق في مستواه وحجمه الخلاف بين المذاهب المختلفة ، كما اعترف بذلك أحد أعلام الشيعة الإمامية، وهو الشيخ الطوسي، والذي يقول بشأن الاختلافات الفقهية داخل البيت الشيعي:
" إني وجدتها – يقصد الطائفة الشيعية- مختلفة المذاهب في الأحكام يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه، من الطهارة إلى أبواب الديات، من العبادات، والأحكام، والمعاملات، والفرائض، وغير ذلك " ويسهب في تعداد بعض هذه الاختلافات ثم يقول : " وغير ذلك في سائر أبواب الفقه حتى أن باباً منه لا يسلم إلاّ وقد وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه...وذلك أشهر من أن يخفى، حتى أنك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك"!، ويختم رحمه الله بكلمة ذات أهمية بالغة ومغزى عميق وينبغي أن نأخذ منها درسا بليغا في أدب الاختلاف، وهي قوله: " ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه، ولم ينته إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفته" (راجع كتابه:عدة الأصول ج1 ص137 – 138).
مصادر الاستنباط المشتركة
وكيف لا تكون المساحة المشتركة بين المذاهب الفقهية كبيرة، والحال أنّ أصول انتاج الفتوى هي في معظمها أصول مشتركة، وعلى رأسها كتاب الله وسنة نبيه المصطفى، وهما المصدران الأساسيان للتشريع، أما الكتاب فيتفق الجميع على مرجعيته واعتباره مصدراً رئيساً للتشريع والاستنباط الفقهي كما العقدي والمفاهيمي، وإذا وُجِدَ اختلاف فهو ليس في ثبوت النص القرآني، بل في فهمه وتفسيره، ولكنّ الخلاف في الفَهم لا يتخذ طابعاً مذهبياً في الغالب، فربما يختلف علماء المذهب الواحد في ذلك أكثر مما يختلف فيه علماء المذاهب المتعددة.
وأمّا السُّنة النبويّة، فهم أيضاً متفقون على مرجعيتها التشريعية وحجيتها، ولكنهم قد يختلفون في فهمها، إلاّ أنّ اختلاف الفهم لا علاقة له أيضا باختلاف المذاهب، بل في تنوع الأفهام، أجل، ثمة سبب آخر للاختلاف في السُّنة وهو الاختلاف في ثبوتها، فما يثبت عند البعض أنه من السنة قد لا يثبت عند الآخر أنه منها، الأمر الذي جعل للسنة "سنتهم" وللشيعة "سنتهم"، ولكني أعتقد أنّ ثمة مجالاً واسعاً للتقريب على هذا الصعيد، وهذا أمر يحتاج إلى دراسة مستقلة ربما نُوَفَقَّ للكتابة عنه في مقال لاحق.
وحتى أننا عندما ندرس مصادر الاستنباط الأخرى فقد نكتشف أنّ فيها الكثير من النقاط المشتركة، وأنّ الحديث عن كونها مصادر خلافية بشكل تام هو حديث مبالغ فيه، فلو أننا أخذنا القياس باعتباره أحد أبرز وسائل الاستنباط الفقهي الخلافية فسوف نجد أنّ مدرسة أهل البيت لم تنفرد برفض الاعتماد عليه في استنباط الحكم الشرعي، فقد وافقهم الظاهرية على ذلك حتى ألف ابن حزم الأندلسي الظاهري رسالة في رفض العمل بالقياس، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ فقهاء الشيعة منفتحون على العمل ببعض أنواع القياس، كالقياس المعروف بمنصوص العلة أو قياس الأولوية، بل إنّ الكثير من الفتاوى التي يتمُّ تخريجها لدى علماء الشيعة وفقهائهم تحت عناوين أخرى غير القياس، كعنوان "إلغاء الخصوصية" أو "تنقيح المناط" يدرجها الآخرون تحت عناوين القياس أو الاستحسان أو المصالح المرسلة.
لا أريد بهذا الكلام أن ألغي الفوراق بين المدرستين في آليات الاستنباط المشار إليها ولا ضرورة ولا مبرر لإلغاء الفوارق، فلتبق الفوارق والتنوعات الاجتهادية، فإننا لا نريد من الدعوة إلى التقريب على الصعيد الفقهي انتاج مذهب فقهي واحد وتذويب سائر المذاهب الفقهية أوالغاء الفوارق بينها، ففي اختلاف المذاهب وتعدد الاجتهادات الكثير من اليسر والسعة على الأمة، وفي تنوع المذاهب والمدارس الفقهية الكثيرمن الغنى والثراء للفقه الاسلامي نفسه، لأنه بحاجة إلى التطوير المستمر في العديد من المجالات، ومؤكد أن تنوع الاجتهادات سواء كان ذلك بين المذاهب المختلفة، أو داخل المذهب الواحد سيمد الفقه الاسلامي بطواعية خاصة وقدرة مستمرة تمكنه من مواكبة المستجدات.