أ.غريبي مراد**
هذه السّطور لا تهدف إلى مناقشة حليّة الاحتفال بمولد خير خلق الله كلّهم، النّبيّ الأكرم(ص)، الرّحمة المهداة إلى العالمين، حيث تركنا ذلك الجدال حول مسألة الاحتفال لأهل الفقه المعمّق، واكتفينا بالفقه السّليم من التّناقضات والجدالات العقيمة، لأنّ الاحتفال بمناسبةٍ كهذه، هو من الرمزيّة الإسلاميّة المهمّة والضّروريّة في تفعيل أسلمة الذّات والاجتماع، من خلال مراجعة العلاقة مع أعظم شخصيّة في الإسلام والوجود كلّه...
المولد النبويّ: إشكاليّة الاحتفال
لقد فكّرت قبل أسابيع من حلول شهر الرّبيع الأوّل الأكرم، كيف نستقبل المولد النّبويّ كمسلمين؟ وهل الرّسول الأعظم(ص) راضٍ عنّا أم لا؟
ولعلَّ التَّعامل مع هذه المناسبة بشيئ من البساطة والمرور عليها مرور الكرام، كاحتفال كرنفاليّ نشعل فيه الشّموع، ونطبخ بعض الطّبخات، أو نتصدَّق ببعض الصّدقات على الأهل والأموات والمرضى، كلّ ذلك جميل والتفاتة جيّدة، كالالتزام بسنّةٍ من سنن النّبيّ(ص)، عبر التصدّق وصلة الرّحم، وإدخال السّعادة على الأطفال، وتجديد العلاقات الاجتماعيّة بالتّزاور والتّكافل والتَّضامن، وما إلى هنالك من عاداتٍ وتقاليد هادفة روحيّة واجتماعيّة...
لكنّي أتصوّر أنَّ الأجمل في وضعنا الرّاهن كمسلمين، إضافةً إلى ما سبق ذكره، يتمثَّل بالسّؤال التَّالي: هل من السَّخاء والوفاء أن نكتفي باستقبال هذه المناسبة العظيمة في عمق الوعي الإسلاميّ، بهذا النَّمط الاحتفاليّ أو الإحيائيّ الثّابت والبسيط؟ أليس النبيّ الأكرم(ص) رحل عن دنيانا بعدما أوصانا بوصايا دقيقة وعميقة وخلاقة للأمن الإسلاميّ المستدام؟ ترى أين واقع تلك الوصايا في واقعنا كمسلمين؟ وهل من المروءة العربيَّة أن نتذكَّر النبيّ(ص) يوم ميلاده، ونعدّد مكارم أخلاقه وعظمتها، الّتي لا تعدّ ولا تحصى، ونفتخر بالانتماء إليه عنواناً بلا محتوى ولا التزام بمنهجه؟
أعظم وصيّة انقلبنا عليها ولا نزال هي الوحدة، هذا المبدأ السّامي والعظيم الّذي ننكره فكراً وحركةً، ونكتفي بالتّعبير عنه مجاملةً بين النّاس..
الإحياء الحقيقيّ
إنّ الإحياء الحقيقيّ والصّحيح لمولده الشَّريف، تتحدَّد معالمه في إحياء هذه الفريضة الغائبة في خضمّ فوضى الأفكار والمشاريع والمصالح الطائفيّة البغيضة الّتي تتلوَّن بها مجتمعاتنا، والوحدة هي ذلك السّهل الممتنع، بسبب التّضليل السياسيّ والتّمويه المذهبيّ المسيطرين على واقع المسلمين...
فلا تكاد تبحث عن أسّ الفوضى العارمة في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، إلا وتجد وراءها مزيجاً من البراغماتيّة السياسيّة والخداع الطائفيّ، فالمفروض أنَّ يوم المولد النّبويّ الشّريف هو ذات رمزيّة زمنيّة، كاستذكارٍ لذلك النّور الإنسانيّ الّذي أطلّ على الكون ليملأه بالحكمة والموعظة الحسنة والخلق العظيم، وهذا اليوم يكون مركز لقاء الأمّة الإسلاميّة كعنوانٍ وواقعٍ بذكرى قائدها إلى الكمال الإنساني الحضاري، حيث السنَّة كلّها هي اجتهاد في تجديد حقيقة الأمَّة وتقويمها والارتقاء بها، من خلال رفد كلّ مقوّمات وركائز الوحدة بين المسلمين، عبر العقيدة كمبدأ، والشّريعة كمنهج، والأخلاق كحركة في الحياة كلّها...
أين المسلمون من النبيّ؟
ليس من المبالغة أن نحاسب أنفسنا في علاقتنا بالنّبيّ الأكرم(ص) ونسأل: هل نحن زين لمحمد الرَّسول الأعظم(ص) أم ماذا؟
ليس من الصَّعب أيضاً أن نجيب عن هذا السّؤال، سواء عبر الجرد العام لأفكارنا ونفوسنا وأخلاقنا وواقعنا ككلّ، لأنَّنا لو قمنا ببرمجة خريطة العالم الإسلاميّ وفق مؤشّرات التأزّم والتخلّف والخطر والصّراعات وما هنالك، فما إن تقترب من أيّ بلدٍ إسلاميّ إلا وتصادف إشارة حمراء تدلّ على مدى الخطورة والانحدار في المستوى الحضاريّ، ليس كما يتصوّره الغرب، وإنّما كما رسم معالمه النبيّ الأكرم(ص)، من خلال ثقافة القرآن وسيرته العطرة العظيمة...
هذه هي الحقيقة الّتي نجمّلها ببعض العادات والتّقاليد الفارغة من عناصر التّغيير والتّجديد والإصلاح لأحوالنا، لأنّ نفس تلك العادات والتّقاليد لسنواتٍ ماضية قريبة، كانت تجمع كلّ مكوّنات المجتمعات الإسلاميَّة بشتَّى تنوّعاتها القبليَّة والمذهبيَّة والفكريَّة والدينيَّة عبر العالم كلّه، لكن اليوم، بينما العالم يتقدَّم في تخصّصات العلم والمعرفة للقرب من حقائق الوجود وأبعاده وآفاقه، أصبح المسلمون يجتهدون في تأكيد الخصوصيّات الطائفيّة (العرقية و المذهبية و السياسية) على حساب قضايا الأمّة الإسلاميّة.. فالإسلام بدلاً من أن نتواضع له لينتشلنا من براثن الجاهليّة المعاصرة، أصبحنا نريده أن يتغيّر ليصبح على مقاسنا الطّائفيّ ومزاجنا السياسيّ...
والعجيب أنَّنا لا نزال نتنازع كالأطفال حتَّى حول تاريخ مولد النبيّ(ص)، وهذا دليلٌ على أنَّنا في علاقتنا مع هذه الشّخصيَّة البشريَّة النبويّة العظيمة، قد نغفل أو نتغافل عن وعينا للنبوّة في حياتنا كمسلمين، ما أربك انتماءنا الإسلاميّ والدّور المترتّب عليه في الحياة، فبدلاً من التَّركيز في هذا، أقحمنا أنفسنا في جدالٍ تاريخيّ لا يغير من الموضوع شيئاً، فالنبيّ الأكرم(ص) ولد وتربّى وشبّ وبعث وبلّغ وأنذر وجاهد وابتلي وعاش الإيمان بكلّ كمال وتمام، وأوصى أمّته أن لا تعود إلى الجاهليّة من بعده، بينما مسلمو هذا الزّمان، همّهم الوحيد هو الجمع بين متناقضين: الجمال الإسلاميّ والبشاعة الجاهليّة في كلّ شيئ، وذلك من الاستحالة بمكان، لأنّ الحقيقة واحدة، والنّور واحد بين الظّلمات شتّى...
وعليه، فإنّ اليوم الّذي تعود فيه الأمّة لتغدو الأمّة الواحدة الّتي نصرت نبيها وعزّزته واتّبعت النّور الّذي أنزل معه، حينها تكون الأمّة المفلحة...
عذراً إخواني على الصَّراحة المفرطة، لكن من الواجب علينا أن نستحي كمسلمين، ولندقّق في واقعنا المرّ المتدحرج نحو فتنٍ مخرّبة لمستقبل الكلّ، ولنا في الأمم السّابقة نباهة وبصائر...
مسؤوليّة الوحدة
أمّا بعد: كيف نعيد إلى عيد المولد النبويّ الشّريف أصالته الإسلاميّة الّتي تغني الوحدة والتّضامن وميلاد المجتمع الإسلاميّ الأصيل؟
في البدء: الجرأة في الدّعوة والعمل لوحدة الأمَّة، والمسؤوليّة العظمى تقع على عاتق علماء الدّين في الإعلان عمّا يخدم الأمّة ككلّ، بلا حرجٍ من الأتباع ممن ألفوا سخونة المفاصلة مع الآخر المسلم. والجرأة هنا تتحدَّد بتوجيه الأتباع للانفتاح على المسلمين الآخرين، عبر مواعيد الفرح الإسلاميّ، وبالتّحديد المولد النّبويّ كعيدٍ وحدويّ، بتجاوز الاختلافات التّاريخيّة في تحديد يوم المولد النّبويّ بين المسلمين، ولعلّ الاجتهاد الفقهيّ من أجل وحدة الأهلّة، مؤشّر استراتيجيّ على المستوى الثّقافيّ والاجتماعيّ للمسلمين...
ثانياً: مبادرة العلماء من جلّ المذاهب الإسلاميّة في إحياء المولد النّبويّ بشعار الوحدة الإسلاميّة، وتضييق الخناق على التّضليل السياسيّ بالفتاوى الهادفة والخلاقة للوحدة الحقيقيّة بين المسلمين، وذلك بتبادل الزيارات، وتنظيم الاحتفالات الجماعيّة بين المسلمين كافّة، ، لقطع الطّريق أمام تجار الفتن الطائفيّة خلال المناسبات الإسلاميّة...
ثالثاً: استحضار الوصايا الوحدويّة للنّبيّ الأكرم(ص) في ذكرى مولده الشّريف، وتنبيه الأمّة إلى مدى ارتباط أمنها العام بوحدتها، وانفتاح مكوّناتها على بعضها البعض في المحاضرات والخطابات والبرامج الإعلاميّة. وعلى سبيل المثال: دراسة وثيقة المدينة، وحديث النبيّ(ص) عن نتانة الجاهليَّة، لما حاول المنافقون بثّ سموم الفرقة بين المسلمين في المدينة المنوّرة...
استلهام الرّحمة المحمديّة
وفي الختام: إنّ النبيّ الأكرم(ص) هو الرّحمة المهداة، والرّحمة تختزن فيما تختزن السّماحة والعفو والانفتاح والتّواصل والتّعاون والابتسامة والخلق الكريم، فلماذا نحيي ذكرى مولده الشّريف ولا نستلهم من هذه الرّحمة شيئاً؟ أليس الأولى أن نبتهج بالنبيّ الأكرم(ص) عبر إصلاح نظرتنا إلى الحياة كما أراد رسول الله(ص)، وننطلق إلى الإنسانيّة بالرّحمة المحمديّة من خلال تأكيدها في تفاصيل حياتنا الإسلاميّة...؟ يكفينا جهالة باسم أمّة محمّد(ص)، فأمّة محمّد(ص) هي نور الحقّ والعبوديّة لله وحده، ورائدة العدل والكرامة لبني البشر، والخلاّقة للحضارة الكاملة المنفتحة على الله في تفاصيل الوجود...
مبارك عليكم مولد طه(ص)، منطلق الوحدة الإسلاميّة الكريمة ... والله من وراء القصد.
** كاتب وباحث إسلامي من الجزائر
المصدر: موقع بينات