الحمد لله رب العالمين، الحمد لله مالك الملك، خالق الخلق، باسط الرزق، فالق الإصباح، ديّان الدين، رب العالمين، والحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى طول أناته في غضبه وهو قادر على ما يريد. والصلاة والسلام على نبي الرحمة ورسول الهدى والسلام، وبشير رحمة الله ونذير نقمته، سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين.
قال الله الحكيم في كتابه {بسم الله الرحمن الرحيم يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتّبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد...} (ص،26).
أبدأ بالترحيب بضيوف "عشرة الفجر" وبالفضلاء والعلماء المشارين في هذا المؤتمر القيّم، وكذلك بجميع الإخوة المحترمين والأخوات المحترمات، أرحب بكم جميعاً أيها الأعزاء..
يُعقد هذا المؤتمر في ظروف يمر العالم فيها بواحدة من أكبر أزماته التاريخية التي تؤدي عادة الى ظهور تطورات ضخمة، وهي أزمة تشتد تفاقماً يوماً بعد يوم.
لقد شهدت النظم الاجتماعية والأمم على امتداد التاريخ وفي فترات متباعدة حالات من هذا القبيل، وهي حالات ترى فيها الأمم الذكية وشخصياتها التي لها ما يكفي من الذكاء والفطنة بشائر ببزوغ يوم أفضل وحالة فضلى.
وعلى الرغم من أن الأزمة الحاضرة ـ بما فيها من مشقة وحرارة وثقل وظلام وصعوبة ـ لا تصيب عادة إلا الشعوب الضعيفة، وعلى الرغم من أن هذه الشعوب الضعيفة هي التي تتحمل التضحيات في خضم هذا التناحر العالمي العنيف والمتزايد، فإن موطن هذه الأزمة ومسقط رأسها في مكان آخر، إن بؤرة هذه الأزمة تقع في قلب النظم القائمة على المدنية المادية. إن أفضل المرض هناك، وأولئك هم المرضى الحقيقيون، وإن الخطر الحقيقي في نهاية المطاف يتهددهم هم.
في الواقع إن أخطار هذه الأزمة التي أشرت إليها إنما تهدد الأنظمة القائمة على الصناعة والمدنية المادية، وتلك الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية المبنية على الحضارة المادية والإيديولوجية المادية (شرقية كانت أم غربية). إن الزلزلة ستقع هناك، على الرغم من أننا نشهد آثارها ومشاكلها وأزماتها وأمراضها، كما قلت، في أفريقيا وفي الشرق الأوسط وفي آسيا وفي بلدان أميركا الوسطى وأميركا اللاتينية. غير أن المرضى الحقيقيين هم أولئك، وأعراض المرض بادية عليهم، إنها إخفاق المدنية الصناعية المادية في إدارة أمور الإنسان، إنها الأمراض المستعصية المنتشرة في أوروبا وأميركا، كالتضخم والبطالة والفساد الاجتماعي المستحكم، وضروب من الاختلالات النفسية التي تزرع اليأس في الجيل الشاب وتشيع الخمول بين قوى المجتمع النشطة، وتجعلهم يركضون وراء التافهات من الأمور والخاويات من الأفكار، ومن ثم التحول الى الجريمة. هذه دلائل سوء في المجتمع، وظهورها في أي مجتمع دليل على أن ذلك المجتمع قد أصيب بالشلل، ولم يعد قادراً على إدارة شؤونه، وخاصة إذا عرفنا أن تلك الأمراض ليست سريعة الزوال، بل إن تلك المشاكل والاختلالات خرجت من نطاقها الضيق الخاص بالمحللين والمختصين الى حيث المؤسسات العامة والناس، ففضلاً عن كونهم يلمسون تلك الأمارات والآثار بكل وجودهم فإنهم يحسون بها في أفكارهم وعقولهم أيضاً، بما ينطبق تماماً مع الآية الشريفة {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس...} (الروم،41).
هذه هي حصيلة ذلك الحطب الأخضر الذي باعه مؤسسو التمدن المادي، الغربيون والشرقيون، للناس والأجيال، إن دخانه اليوم يعمي عيونهم هم ويهددهم بالزوال والفناء.
غير أن الشعوب، من جهة أخرى، قد استيقظت، وهذا أمر مهم وجديد. إن هذه اليقظة تختلف عن يقظة الشعوب في أواسط النصف الأول وأواخره من القرن العشرين فيومئذ كان الناس يصحون، ويغادر المستعمرون البلاد المستعمرة، وتقام أنظمة أسمَوها بالأنظمة الوطنية أو الشعبية لتحل محل المستعمرين. إلا أن الخديعة التي ألبسوها على الناس، والمكر الذي مكروه بهم، قد زادا الناس خبرة وحنكة وشحذا ذكاءهم. إن يقظة المسلمين اليوم يقظة لا يقنعها غير القضاء جذرياً على المشكلات. إن اليقظة اليوم تتخذ وجهة واحدة، وهي الوقوف بوجه الظلم الذي ينزل بعض القوى الاستكبارية في العالم بالشعوب، وذلك هو جوهر القضية، وإن تكن الشعارات تختلف من حيث المكان واللسان.
إن شمال أفريقيا وجنوبها يغليان اليوم، ولكن بشعارات مختلفة ولغات متباينة، أما المطاليب فواحدة. في كلتا الجهتين يعلو الهتاف ضد النظم والحكومات، ضد التمييز العنصري في الجنوب وضد أمور أُخَر في الشمال.
إن أهالي مصر وأهالي أفريقيا الجنوبية يطالبون جميعاً بحكم عادل وباحترام الإنسان حيث يحتقر. إن الإنسان في مصر قد احتقر مثلما احتقر الإنسان في أفريقيا الجنوبية.
لقد هبّت الشعوب اليوم من نومتها، وقد رافقت يقظتها تجربة ناجحة بين شعوب العالم الثالث، تلك هي تجربة إيران الإسلامية.
إن من العوامل الرئيسية في يقظة الشعوب هو وجود نظام يستند الى حركة جماهيرية، ويعتمد مقاومة شجاعة لا تعرف الاستسلام للقوى العالمية. إنها جاذبية النظام الجمهوري الإسلامي التي تحيي الأمل في نفوس الشعوب، وكلما مضى يوم ونحن باقون، وهذا النظام باقٍ، والإسلام هو الحاكم الوحيد، ازداد هذا الأمل في الشعوب قوة ورسوخاً.
إن المحاباة لم يُقضَ عليها بعد، والمتشائمين لما تدخل الثقة في قلوبهم، إلا أن مرور الوقت كفيل بتحقيق ذلك، على أن يكون مرور الوقت هذا مصحوباً بحفظ المبادئ، إذ أننا إذا فقدنا مبادئنا نكون قد فقدنا هويتنا الثورية، وهو ما سوف يدعو الى زوال ثقة الشعوب التي تريد أن تجعل من إيران قدوة تقتدي بها.
هذه الظروف العجيبة تكشف عن عظم الكارثة التي تحيق بالقوى العظمى والناشئة عن ضعف أنظمتها القائمة على القوى العسكرية الغاشمة. أي أننا حتى لو افترضنا عدم وجود أي طرف معارض لتلك الأنظمة المتسلطة المادية في العالم، غربية وشرقية، فإنها لا بد لها من الإنهيار والسقوط بسبب بنيتها السقيمة والاختلال والنقص الموجودين في داخلها.
إن هذا النقص الذاتي والبناء المادي السريع العطب والسريع الزوال شبّهه الله تعالى بالكلمة الخبيثة بقوله {ومَثَلُ كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتُثّت من فوق الأرض ما لها من قرار} (إبراهيم، 26).
فهي أنظمة غير باقية، لأن تلك الكلمة الخبيثة تفتقر الى الإمكانية الذاتية على البقاء، خاصة وأن الشعوب المظلومة والمستضعفة قد سارعت الى إعلان معارضتها لتلك النظم المادية، كالذي نراه في أفريقيا والشرق الأوسط، في لبنان وفي جنوب آسيا وفي كل مكان في العالم حيث يوجد شعب مستضعف، وهي اليوم أشد من أي وقت مضى. إن ما يعتبر قدوة للشعوب هو النظام الجمهوري الإسلامي، وما من نظام آخر تتخذه الشعوب قدوة لها اليوم. في الماضي كانت هناك نظم لفتت أنظار الشعوب التي كانت تريد صنع نفسها ومستقبلها، أما اليوم فلا. إن البقعة النيّرة التي تتطلع إليها الشعوب وهي تناضل وتضحي وتخاطر بحياتها، هي نظام الجمهورية الإسلامية. والمسلمون من تلك الشعوب أقرب الى ذلك بطبيعة الحال. وذلك لأن المسلمين يرَون أن شخصيتهم الإسلامية المضطهدة المحتقرة قد برزت اليوم في صورة نظام شجاع، مهاجم، مقدام، تقدّمي، مجرِّب، ولذلك فإنهم يشعرون بالعزة والفخر.
ظلت الهوية الإسلامية عرضة للمهانة والتحقير سنوات طويلة. وقد أريدَ للمسلمين أن يتركوا هذه الهوية وينبذوها لأنها مجرد خرافة زائدة.
إن الذين استسلموا للضغط وهجروا هويتهم الإسلامية، يشعرون اليوم بالثورة في أعماقهم، وهم يرَون تلك القيم التي اعتبروها قيماً سلبية غدت اليوم قيماً إيجابية فعالة أثبتت وجودها النشط على الصعيد العالمي الواسع. إنهم يحسون بالحاجة الى العودة الى تلك القيم. وهذا هو السبب في ما نشهده اليوم من أن المتنورين، الذي تنكروا للإسلام، عادوا يزحفون نحو القرآن والإسلام الصحيح في كثير من دول العالم، فضلاً عن الشعوب والجماهير المستضعفة التي بقيت محافظة على هويتها الإسلامية والحيوية، وفعالة في إيجابيتها، وشجاعة في مواجهة القوى العظمى، وثابتة لا يعتريها الكلل، ونامية كالكوثر في العطاء، لا يعود يخامرهم الشك لحظة في أن هذه الهوية قيّمة، فيتجهون نحوها، مدركين أنها مصداق الآية {إنا أعطيناك الكوثر. فصلِّ لربك وانحر. إن شانئك هو الأبتر}. ذلكم هو الدليل على أن التاريخ يعيد نفسه، فاليوم ذلك التمدن نفسه يطعن القيم الإسلامية والإيمانية، إنه هو "الأبتر"، هو المنتهي الذي لا عقب له. إن الأمة الإسلامية تحس بهذا كله، ولكنه إحساس ليس مقتصراً على الأمة الإسلامية، فالأمم غير المسلمة تحس الإحساس نفسه، وهم كذلك يحبون النظام القوي المقتدر المقاوم لقد أتعبتهم السلطة، ولا فرق بين السلطات فالسلطة الظالمة سيئة بصرف النظر عن نوع النظام الذي تمثله. لذلك فإننا نشهد اليوم التوجه نحو الإسلام وإيران الإسلامية والجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية وشعارات هذه الثورة في بلدان هي تحت سيطرة الشرق والغرب. إننا نشهد هذا الميل فيهم بكل وضوح وثبات؛ ولا يختلف الأمر مع أولئك الذين نادَوا بالشعارات الاشتراكية في بلدانهم، فهم بعد أن أدركوا فراغ أنظمتهم وضعفها وهشاشتها لكونها بُنِيت على تلك الشعارات، التفتوا بميولهم نحو ذلك النظام المقتدر الصلب المقاوم؛ ذلك هو نظامكم، نظام الجمهورية الإسلامية.
إنكم وفي مثل هذه الظروف يدور بحثكم حول الحكومة الإسلامية، إنكم تحسبونه بحثاً جافاً، ولكنه ليس بحثاً عقلياً مجرداً. إن البحث في الحكومة من أكثر البحوث واقعية وعملية مما يمكن أن يجري بحثها في العالم.
الحكومة في النظام الإسلامي تعتبر العمود الفقري والدماغ والقلب ومقر قيادة الجسم ومصدر الأوامر للأعصاب، ذلك لأنها أحد العناصر الثلاثة المهمة التي يتألف منها النظام الاجتماعي في النظام الإسلامي. وهذه العناصر الثلاثة هي: الحاكم، والقانون والناس، فالحكومة تأتي على رأس هذه العناصر الثلاثة. ليس من الممكن أن نفكر بإقامة نظام إسلامي من دون أن نفكر في الحاكم وفي شكل نظامه.
إذا ما ادُّعيَ أنه نظام إسلامي، فإن خير محك لهذا الزعم هو أن ننظر الى حاكمه، وهذا أقرب محك الى متناول اليد. كيف يصح أن يكون الإسلام هو نظام الحياة في بلد ما ثم يكون أهم قسم من هذا النظام ورأسه، وهو الحكومة، بعيداً عن استلهام الأحكام الإسلامية، ولم يتشكل بالشكل الإسلامي؟ إننا إذا أردنا أن نبحث في الحاكم والحكومة علينا أن نبحث بكل دقة وإنعام نظر، ذلك لأن هذا الموضوع يقع اليوم هدفاً للهجوم. إن من المهم للأجيال القادمة ولسائر جماهير العالم أن تعرف أن الإسلام وتحقق نظامه على صعيد الواقع ليس هو وحده الذي يتعرض للتهجم وإخصام على يد القوى العظمى وأعدائه، إنهم يهاجمون حتى وجوده الذهني في الأفكار، إنهم يحاربونه في كل جبهة تظهر فيها حكومة إسلامية، وها هي أمامكم إيران الإسلامية كمثال على ذلك. إن قوى العالم بلا استثناء لم تترك وسيلة تؤذي بها هذا البلد وهذا الشعب وهذه الحكومة وهذا النظام إلا استعملتها، ولم تترك طريقاً لإظهار العداء لهذا البلد وهذه الأمة إلا سلكته، بما في ذلك حياكة المؤامرات، والحرب، والاعتداء العسكري، ونشر الشائعات والأراجيف، والمقاطعة الاقتصادية. هذه كلها كانت كافية لتطيح بأي نظام آخر. غير أن مناعة هذا النظام ناشئة من القرآن الذي حفظه من الإنحراف يساراً أو يميناً لاستمالة فريق من الناس.
هذه الهجمات قد وجهت الى وجود الحكومة الإسلامية العيني. إلا أن مهاجمتها في وجودها الفكري لا يقل عن ذلك عنفاً، ويتمثل هذا في تحريف مفهوم الحكم الإسلامي. وهو ليس بالأمر الجديد، فقد كان على امتداد التاريخ. فباسم الحكم الإسلامي وإمامة المسلمين، في عهد السلاطين العباسيين والأمويين، حدثت أمور ضد "أئمة العدل" كما يصفهم الشاعر الإسلامي المجاهد "الكميت الأسدي" في إحدى قصائده التي يقول
فيها:
ساسة لا كمَن يرى رعية الـ ـنــاس سواء ورعية الأنعــام
من هذا يبدو أن الذين كانوا على رأس الحكم يومذاك، والذين يعرّض بهم الكميت، كانوا لا يميزون بين رعي الناس ورعي الأنعام، ومنذ ذلك اليوم أناس ارتكبوا مثل تلك الأعمال باسم حكم الإسلام والحكومة الإسلامية، واليوم ما يزال هذا التحريف في مفهوم حكم الإسلام باقياً في الأذهان بشكل أو بآخر.
لقد أثار عالم اليوم الكثير من اللغط حول تحريف مفهوم الحكومة الإسلامية. فمرة يشبّهونها بالحكم الكنسي في الفترة المظلمة من تاريخ أوروبا، ومرة يقولون إنها حكم رجعي ومتخلف لا يؤمن بالتطور ومرة ثالثة أنها ضد العلم، ورابعة أنها ضد المدنية، أو يسمونها بأنها تعارض حقوق المرأة التي تؤلف نصف سكان المعمورة، لو أنهم استطاعوا بكلمة واحدة أن يدخلوا في الأذهان أن النظام الإسلامي يعارض منح المرأة حقوقها، لتمكنوا من إثارة نصف سكان العالم ضد هذا النظام، وإذا ما صدّقت النسوة بهذا فمن البديهي أنهن لن يقفن الى جانبه.
كثيرة تلك الأساليب التي مارسوها والتهم التي ألصقوها بالنظام الإسلامي والحكومة الإسلامية لتحريف حقيقة الإسلام، ولهذا كان لا بد من القيام بعمل جاد في هذا السبيل. إن الآيات القرآنية كثيرة بهذا الشأن، وكذلك المصادر الإسلامية أيضاً، فعلى المفكرين الإسلاميين والعلماء المسلمين أن يشمّروا عن ساعد العمل، فلو أنهم تناولوا هذه المسألة وحدها بالشرح والتوضيح، لكان له أثر كبير في تهيئة عقول الأمم والشعوب لمعرفة الحق. وهذا ما حدث فعلاً في بلدنا، فخلال الخمس عشرة سنة من نضالنا الثقافي والسياسي كانت أشد ضربة أنزلناها بالتصورات التي أشاعها النظام الشاهنشاهي السابق هي بحث الحكومة الإسلامية وشرحها، سواء في الدروس التي كان يلقيها إمام الأمة في النجف الأشرف، أم في البحوث التي دارت حول هذه المسألة كمقدمة لها، فكانت هذه تدخل في أعماق مجتمعنا، يتناولونها بالدرس والفهم والاستيعاب. إن البحث في هذه القضية مهم وينبغي أن لا نستصغر شأنه. إننا في هذا النظام الجمهوري أقمنا الحكومة الإسلامية، وإن لم ندَّعِ أنها أقيمت بصورتها المتكاملة، ولكننا ندّعي بأننا نتخذ الاحتياطات التامة للتقيد بتطبيق أحكام القرآن، وإننا ندرك أن الحركة نحو تكميل هذا النظام حركة تدريجية، وإننا سائرون على الدرب نحوه، إذ أن هناك الكثير من المسائل لم نحلها بعد.
إن أول مسألة برزت أمامنا في باب الحكومة في نظام جمهوري إسلامي، وارتسمت في أذهاننا جميعاً باعتبارها شعاراً إسلامياً وعَلَماً من أعلام الحكم الإسلامي، هي القول بأن الإنسان قد ولد بطبيعته حراً، وليس هناك تحت الشمس إنسان يحق له أن يحكم إنساناً آخر. وكان هذا في نظرنا جزءاً من البديهيات والمسلّمات الإسلامية. والأمر كذلك أيضاً في النصوص الإسلامية، فقد جاء في الآية الكريمة {وتلك نعمةٌ تمنّها عليّ أن عبَّدت بني إسرائيل} (الشعراء، 22)، وكذلك ورد عن أمير المؤمنين علي (ع) قوله "لا تكن عبدَ غيرك وقد جعلك الله حراً".
وهذا هو مضمون آيات قرآنية متوافرة ومتواترة. وفي هذه الآية التي ترد على لسان موسى (ع) مخاطباً فرعون، القصد من تعبيد بني إسرائيل هو التسلط عليهم وحكمهم واضطهادهم دون اهتمام بمشاعرهم. إن الإسلام يمنع كل أنواع التسلط المعنوي والمادي على الناس، ما دامت هذه السلطة غير منتهية الى الله. يقول الله سبحانه {إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} (التوبة، 31).
أي أن سلطة الأحبار والرهبان الفكرية والروحية تعتبر ربوبية، فهي ممنوعة. كذلك سلطة فرعون المادية سلطة ربوبية ممنوعة.
إن الحكم على الناس لله وحده سبحانه، كما جاء في الآية الثانية على لسان يوسف (ع) {... إنِ الحكم إلا لله أمَرَ ألاّ تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيِّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف، 40).
ولعل السبب في أن أكثر الناس لا يعلمون هو أنهم قد اعتادوا على غير ذلك، إنهم اعتادوا على أن يحكمهم أفراد من البشر فليس بمقدورهم أن يتصوروا أن أياً من البشر، مهما تكن قدرته وثروته، ومهما يكن شرف قبيلته ونبل نسبه، لا يمكن أن يتسلط على جمع من البشر ويحكمهم {ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.
وفي الآية التي أوردتها في صدر كلامي، يخاطب الله سبحانه وتعالى داود (ع) قائلاً {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} أي لولا "الإرادة" الإلهية في "جعل" داود خليفة، لما كان لداود الحق في هذا على الرغم من كل فضائله ومقامه.
وفيما يتعلق بالأنبياء جاء في سورة البقرة {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه...} (البقرة، 213). ههنا تعيّن أن النبي يحكم بين الناس لا بحسب ما يهوى ويشتهي بل وفق الكتاب، فهو الحاكم وهو ميزان الحكم. إن هيكل النظام العام يقرره كتاب الله، والنبي قد "جعله" الله القائم بتنفيذ ما جاء في الكتاب. وهذا هو المبدأ الثاني من مبادئنا المقبولة عندنا.
أي أننا بعد أن قبلنا بأن أفراد البشر لا حق لهم في أن يحكم بعضهم بعضاً وأن كل حكم من هذا القبيل لا ينتهي الى الله يكون حكماً غاصباً وغير منطقي، نعود لنبحث عما يجب أن يعتمده الحاكم الإلهي عند الحكم، وهو كتاب الله، وهذا هو "القانون" الذي يعتبر العنصر الثاني من العناصر الثلاثة في الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي. فالحكم يجب أن يكون على وفق ما جاء في كتاب الله.
والحاكمون هم الأنبياء الذين نصّبهم الله، أو الأوصياء الذين ينصّبهم النبي. أما عندما لا يكون هناك حاكم نصّبه رسول الله (ص)، كزماننا هذا، فلا موجب للاختلاف حول إمام منصوب بين القائلين بنصب خليفة بعد رسول الله (ص) والقائلين بعدم نصب خليفة بعده. لم يعد اليوم معنى في وجود ذلك الاختلاف حول العثور على الحاكم الإسلامي، لأننا سواء أقلنا بالتنصيب أم لم نقل، فإن الإمام الحاكم المنصوب لا وجود له، فعلينا أن نبحث عن المعيار.
ترى ما هي تلك المعايير التي إذا توفرت في فرد حقَّ له أن يحكم من قبل الله. إن مثل هذا الفرد يجب أن يحكم بكتاب الله، ويجب أن يكون عالماً بالكتاب إذ لا يمكن أن يحكم بكتاب الله مَن لم يكن عالماً به، ولـمّـا كان عليه أن يربي الناس ويهذبهم ـ وهذا من شؤون الأنبياء، وعلى الحاكم الإسلامي أن يكون كذلك أيضاً ـ فلا بد أن يكون هو نفسه قد تربى وتهذب، ولهذا تجب مراعاة العلم والعدالة في الحاكم الإسلامي. إن الإمام أو القائد ـ وهو تعبير دقيق وكامل عن الحاكم الإسلامي ـ لا بد وأن يكون عالماً بكتاب الله، أي يجب أن يكون متفقهاً في الدين، ولا بد وأن يكون عادلاً، لا يتّبع هوى نفسه، ذلك لأن الله تعالى أمر نبيه داود (وسائر الأنبياء) قائلاً به {ولا تتّبع الهوى فيُضلَّك عن سبيل الله} لأن اتّباع الهوى هو أصل الفساد في المجتمعات، وبناءاً على ذلك فلا بد للحاكم الإسلامي من أن يتجنب الوقوع تحت تأثير هوى نفسه، وهذا لا يكون إلا بالعدالة، فتكون نفسه مصونة عن الميل الى الدنيا، فلا تجذبها المطامح الدنيوية.
هذه الشروط والمؤهلات لم ترد بصورة تفصيلية في النصوص الإسلامية ولا في الكتاب والسنّة، إنما هي: حكومة الفقيه وولاية الفقيه التي اخترناها محوراً وقاعدة لبناء نظامنا الجمهوري وأعلنّا عنها. حكومة الفقيه هي حكومة العالم بعلم الكتاب، العالم بالدين، ولكن لا كل فقيه، فالعالم الذي يقع تحت تأثير هوى نفسه لا يمكن أن يدير شؤون البلاد، وبالإضافة الى العلم والتهذيب، أو العلم والعدالة، لا بد وأن تكون له القابلية على الإدارة، وهذا شرط عقلي، كما جاء في القرآن الكريم في حكاية طالوت {... إن الله قد بعث لكم طالوت مَلِكاً قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤتَ سَعةً من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم...} (البقرة، 247)، وبديهي أن البسطة في الجسم لا تعني القوة الجسمية والبنية السليمة فحسب بل لعلها تعني أيضاً العقل السليم والقدرة على الإضطلاع بأعمال الإدارة، وحتى لو لم تعنِ ذلك فإنها شرط لا بد منه.
هذه أمور نرى لزوم توفرها في الحاكم وعلى أساسها تم اختيار الحاكم، فالولي الفقيه أو ولاية الفقيه مبنية على هذا الأساس، وبموجبه اختير الولي.
وهكذا نكون قد وجدنا الحل لقضية الحاكم والقانون، فالحاكم هو ذلك الإنسان الذي اختير على وفق المعايير والموازين، وهي موجودة في القرآن. والقانون هو ما أشير إليه في القرآن وما وجب حتى على الأنبياء اتّباعه دون أن يصدروا حكماً من عندهم؛ فالكتاب فيه قوانين الدين والوحي الإلهي.
العنصر الثالث هو الناس، أترانا في النظام الإسلامي قد أهملنا الناس؟ كلاً أبداً، فالناس عنصر رئيسي في النظام، هم الذين ينتخبون، وهم الذين يعيّنون، وهم الذين يرجع إليهم في التشاور وفي اتخاذ القرارات. إن الناس في الواقع هم أصحاب الاختيار والاختيار حقيقة موجودة.
إن في انتخاباتنا اختلافاً مبدئياً عن الانتخابات الديمقراطية الغربية ـ وإن كانت التسمية تُطلق عليهما كليهما ـ وهي تختلف عن الديمقراطية الشرقية اختلافاً رئيسياً أيضاً، على الرغم من أنها في ظاهرها انتخابات ديمقراطية.
في الديمقراطية الغربية يحق لجميع الناس أن يشتركوا في الانتخابات وأن ينتخبوا مَن شاؤوا، أي لا وجود لشروط خاصة في المنتخَب؛ فإذا استطاع شخص فاسد أو فاسق أو ضعيف أن يعلن عن نفسه، بالمال أو بالإغراء، فيحرز أصوات بعض الناس، فإن النظام لا اعتراض له على ذلك. أما في النظام الإسلامي فالأمر ليس كذلك، فثمة شروط لا بد وأن تتوفر في المنتخبين، والناس ينتخبون ممن تتوفر فيهم تلك الشروط أو الموازين، ومَن لا تنطبق عليه تلك الموازين لا يرشح للانتخاب.
أما في الديمقراطية الشرقية فالأمر أسوأ، إذ أن الانتخابات لا تجري بين الناس جميعاً، فحق الانتخاب مقصور على أعضاء الحزب. بل يمكن القول في كثير من الحالات إنه حتى أعضاء الحزب لا يحق لهم الانتخاب، بل إنه مقصور على كبار النخبة من الأعضاء فقط.
أما في نظام الجمهورية الإسلامية فالانتخاب حق للجميع، أو للأكثرية القريبة من الإجماع، فيما يتعلق بانتخاب القائد، على شرط أن يكون فقيهاً عادلاً وحائزاً على الشروط الأخَر، كالقدرة والإدارة والتدبير والإيمان بخط الثورة الإسلامية وغير ذلك مما هو مدوَّن في دستور الجمهورية الإسلامية المعمول به حتى الآن، فالناس ينتخبون واحداً من بين هؤلاء، ومَن يفز بأكثرية أصوات الناخبين المطلقة يكن هو القائد للأمة.
أما بالنسبة للحكم فللناس دورهم في انتخاب مجموعة لنظام كامل، كما أن للقيم دورها، وللأحكام الإلهية دورها أيضاً. وهذا هو النظام النبوي. ذلك أننا عندما ندرس تاريخ الأنبياء نجد أن أهم عمل قاموا به هو التعليم والتزكية وإدارة شؤون المجتمع. هذه هي الأعمال الثلاثة التي كان الأنبياء يضطلعون بها: تعليم الناس المعارف الإلهية، والمنظور الإسلامي، والأحكام الإلهية، وتربيتهم، وتزكيتهم، ورعاية مواهبهم، وإعداد الناس لكي يديروا شؤونهم بأنفسهم، ومن ثم إدارة شؤون المجتمع الذي تكون إدارته من شؤون الأنبياء، ما دام فيهم نبي، بحسب الحكم الإلهي.
إن لدينا اليوم هذا النموذج، ولكن كما قلت هنالك بون بين هذا النموذج وما يمكن أن يكونه النموذج الثالث، إلا أن هذا البون ينبغي أن يتضاءل يوماً بعد يوم، وأن تردم الهوة التي تفصل بينهما حتى يتطابقا معاً.
لقد كنا نعلم بالطبع أن مجرد وجود نظام كهذا سيؤلب علينا القوى العظمى والسلطات الاستكبارية، وكنا ننتظر حملاتها، وما زلنا ننتظرها حتى الآن. لم يخطر لنا ببال أن القوى العظمى في العالم سوف ترفع أيديها الأثيمة بسرعة عن هذا النموذج الإسلامي الحي، ولا نحن نتوقع ذلك منها، بل الذي نتوقعه هو استمرارها في التهجم والهجوم، بمثلما كان الحال في صدر الإسلام كما جاء في القرآن الكريم {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصَدَق الله ورسوله..} (الأحزاب، 22).
فهم لم يستغربوا حشود الأحزاب لأنهم كانوا يتوقعونها. ونحن اليوم كذلك، فكلما ازدادت حساسية الاستكبار الشرقي والغربي من جهتنا وازداد تكالبه علينا، زاد إيماننا بحقانيتنا وبأننا خطر حقيقي على الاستكبار العالمي، ولذلك راح يلقي بثقله ضدنا.
واليوم وبعد أن وصل تكالب الاستكبار علينا الى أقصى درجاته، فقد وصل إيماننا ـ بفضل الله ـ الى أقصى درجاته أيضاً.
ها أنتم اليوم أمام هذا النموذج العيني القائم لنظام حكومة إسلامية يمكن تحليلها، وها هي مسألة مهمة يمكن فيها للإخوة والأخوات المشاركين والمشاركات في هذا المحفل، والعلماء الأجلاء المحترمين في الجلسة، أن تتظافر مساعيهم لتحليل هذه المسألة على أحسن وجه، ففي ذلك عون لنا على إيصال نظامنا الى الكمال، وستكون حصيلة هذه التحليلات موضع التطبيق عندنا، كما أن فيه أيضاً تنويراً لسائر الأمم.
إنني أطلب وأرجو من العلماء المحترمين والخطباء والمتنورين في الدول الإسلامية في العالم أن يتناولوا موضوع الحكومة الإسلامية بالشرح والتوضيح للناس، فهذا من أهم المواضيع التي يجب أن تُدرس وتُبلّغ لعموم الناس. عليهم أن يبيّنوا للناس مدى المسافة التي تفصل واقع الحياة حولهم عن الحقيقة التي يريدها الإسلام ويريدها الله.
إن هذا هو الذي يحدو بنا الى أن نقدّر هذا الاجتماع الجليل القيّم وأن نجلّه، سائلين الله تعالى أن يوفقكم، أيها الإخوة وأيتها الأخوات، آملين أن تعرض في جلساته العامة وفي لجانه في أيام انعقاده بحوث نافعة تعمل على تحسين المعرفة بالقضايا الخاصة بالحكومة الإسلامية.
مرة أخرى أرحب بضيوفنا الأعزاء، وعلى الأخص ضيوفنا الأجانب من الدول الإسلامية وغيرها ممن تفضلوا بقبول دعوتنا للمشاركة في هذا المؤتمر، وكذلك أرحب بضيوف عشرة الفجر، سائلاً الله تعالى التوفيق لكم جميعاً أيها الأعزة، وكذلك للقائمين على أمر هذا المؤتمر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته