أمل القّطان**
يرتكز وجود المجتمع المسلم الصـالح، عـلى وجـود علاقات سوية بين أفراده، ترتكز على المحبة والتعاون بحيث يعيش المؤمن كعضو في جماعة، وكـفرد في أمة مؤمنة من الناس، يسود بينهم التعاطف والانسجام في السراء والضراء.
هـذه الصلة العاطفية بينهم نـابعة مـن صلتهم العاطفية بالله، فعندما سئل رسول الله (ص): من أحب الناس إلى الله؟ قال: "أنفع الناس للناس"(1).
الأخوة في عهد الرسول:
إن ابتناء الأخوة على أساس الرحمة والاحسان وقضاء الحوائج، من أهم سمات وميزات العلاقات الاجـتماعية في الاسلام. لقد أكد القرآن الكريم على أن الشعور بالإخاء هو الشعور بوحدة النسب؛ نسب الايمان والعقيدة، فقال الله تعالي: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10). هذا النسب يتجاوز معاني النسب إلى العائلة والقوم، لذلك نرى رسـول الله (ص) قـد آخى بين المسلمين في مكة، وآخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة. وكانت هذه المسألة من ركائز بناء الدولة الإسلامية، وإيجاد المجتمع المسلم، ولقد تقاسم الأنصاري مع أخيه المهاجر ماله ورزقه وبـيته، حـتى أن القرآن خلّد هذا التآخي بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيهِمْ وَلاَ يجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيؤْثِرُونَ عَلَي أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يـُوقَ شـُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِك هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9). تبين الآية ثلاث سمات للأنصار؛ المحبة، وعدم الطمع، والإيثار. وقد نقل المفسرون قصصاً متعددة في شأن نزول هذه الآية، فعن ابن عباس قال: قـال رسـول الله (ص) يـوم بني النضير للأنصار: "إن شئتم قـسمتم للمـهاجرين مـن أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيئ من الغنيمة" فقال الأنصار: "بل نـقسم لهـم مـن أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها"، فنزلت "وَيـُؤْثِرُونَ عـَلَى أَنْفُسِهِمْ". وقيل نزلت في سبعة عطشوا في يوم أحد، فجيئ بماء يكفي لأحدهم، فقال واحد منهم ناول فلاناً، حـتى طـاف عـلى سبعتهم، وماتوا ولم يشرب أحد منهم، فأثنى الله سبحانه عليهم. وقيل نـزلت في رجل جاء إلى رسول الله (ص) فقال: أطعمني فإني جائع، فبعث إلى أهله، فلم يكن عندهم شيئ، فقال: "من يـضيفه هـذه الليلة؟" فـأضافه رجل من الأنصار، وأتى منزله، ولم يكن عنده إلا قوت صِبية له، فـأتوا بـذلك إليه، وأطفأوا السراج، وقامت المرأة إلى الصبية، فعللتهم حتى ناموا، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله (ص)، فـظن الضـيف أنـهما يأكلان معه حتى شبع الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبحا، غدَوا إلى رسول الله (ص)، فـنظر إليـهما وتـبسم، وتلا عليهما هذه الآية..(2). وقد رويت نفس القصة عن السيدة فاطمة وأمير المؤمنين، ولعـل مـا ورد مـن قصة أحد وقصة الأنصاري وأمير المؤمنين من باب التطبيق، الذي يدل على شيوع هذه الفـضيلة بـين المسلمين.
* مستلزمات الأخوة:
يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنـَا وَلإِخـْوَانِنَا الَّذِيـنَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: 10). تـصف هـذه الآية بعداً آخر من أبعاد الأخوة الإيمانية؛ وهي الدعاء للمؤمنين، وطلب المغفرة لهـم، والتـماس العـون من الله لتطهير قلوبهم، وتهذيب أنفسهم من الحقد والحسد والبغض والعداء. وهذه الأمور من أصعب مـستلزمات الأخـوة، فالدعاء الصادق للمؤمن في جميع الحالات، خصوصاً حال الغضب والمنع والإساءة والأذيـة، مـن الأمـور المستصعبة والتي لا يقدر عليها إلا من سدّده الله وطهّر قلبه. فكم منّا من لا يطيق من أخيه أدنـى إساءة؟ وكـم مـنّا من يمتلئ قلبه حقداً وغيظاً لأذية لحقت به، قد لا تكون مقصودة ؟ كـم مـنا في هذه اللحظات يستطيع أن يلتمس لأخيه عذراً أو يحمله على محمل حسن، أو يقدر أن يدعو له بالهداية ولا يدعو عليه؟ كـم نـسمع من بعضنا تعبير "الله لا يسامحك" "الله ينتقم منك" "الله لا يوفقك"؟ والسؤال هنا، هـل هـذه المواقف مرضية من الله ورسوله وتنسجم مع سـيرة المـعصومين (عـليهم السلام)؟ لنعرض بعض مواقف أهل البيت ونـقارن بـين ما فعلوه عندما واجهوا الإساءة، وبين ما نفعله نحن.
لقد قدّم لنا أهـل البـيت (عليهم السلام) أسمى وأعلى نـموذج للأخـوة الايمانية، وجـسدوا مـعاني المـحبة والتسامح، حتى مع أعدائهم ومخالفيهم، فـلا نـرى في سيرتهم غير سيرة المحبة والعطف والرأفة. فها هي الزهراء (ع) عند احـتضارها تـذهل عن الدعاء لنفسها، كما هي سـيرة حياتها، وتدعو الله أن يغفر للعـصاة مـن أمة أبيها(3). والإمام الحسين (ع) يـقف يـوم عاشوراء يبكي على أعدائه، لأنهم سيدخلون النار بسببه. وأمير المؤمنين(ع) يوصي ابنه الحـسن (ع) أن يـرفق بابن ملجم، ويرحمه، ويحسن إليـه، ويـقول: "نـحن أهل بيت لا نـزداد عـلى الذنب إلينا إلا كرماً وعـفواً، والرحـمة والشفقة من شيمنا.."(4). وكان الإمام موسى بن جعفر (ع) يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فـيبعث إليـه بصرّةٍ فيها ألف دينار(5).
إن ودّ المؤمنين لبعضهم البـعض مـن أعظم شـعب الإيـمان، فـعن رسول الله (ص): "ود المؤمن للمؤمن فـي الله من أعظم شعب الإيمان. ألا ومن أحب في الله وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله، فـهو مـن أصفياء الله"(6). إن حبّ المؤمنين نتيجة طبيعية لحـب الله تـعالى، لأنـهم مـرتبطون بالله بأسمى مـعاني الارتـباط. وحب الشيئ ينبسط وينسحب على ارتباطاته ومتعلقاته(7). ولاتخاذ الأخ الصالح تأثير كبير على شخصية الإنسان وصلاحه، وعـون له عـلى فـعل الخيرات، واجتناب المنكر، والتحصين من الانحراف. فـالمرء عـلى ديـن خـليله فـلينظر أحـدنا من يخالل. والتحدي الذي يواجهنا هنا هو كيف نكتسب الإخوان؟ والأصعب منه كيف نحافظ على أخوتهم؟
إن الإيمان بالله، والإخلاص له، وحبه ينبسط على المؤمنين حباً ورحمة وإخلاصاً، بحيث أن تمكن مشاعر الأخـوة في المؤمن يخرجه من مشاعر الأنا والاستقلال، ويطهر قلبه من الأثرة. وهذا هو جوهر البناء الداخلي الروحي للمؤمن، فكل ما في الكون هو مورد حب المؤمن، لأنه واقع تحت رحـمة رب العـالمين الرحمانية الشاملة للعالم بأسره "فلم لا يكون من شملته العنايات والألطاف والمحبة الإلهية موضعاً لمحبتنا؟.. ولو زال الحجاب لاتضح لنا أن كل ما هو منه جل وعلا محبوب، وكل ما هو مبغوض فليس مـنه، وهـو بالتالي ليس موجوداً"(8). فأمير المؤمنين يشير إلى أن "الإخوان في الله تعالى تدوم مودتهم، لدوام سببها"(9). والمؤمن الذي يريد اكتساب الإخوان والمحافظة عليهم عليه أن يحسن لهم ويـجتنب المـزاح المؤذي، وكذلك المماراة والمجادلة العـقيمة التـي تعكر صفو القلوب، وكذلك البعد عن المباهاة والتفاخر، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): "يابن النعمان، إن أردت أن يصفو لك ود أخيك فلا تمازحنّه، ولا تمارينّه، ولا تباهينّه، ولا تشارّنّه". وفي حـديث آخـر يقول سلام الله عليه: "يـحتاج الإخـوة فيما بينهم إلى ثلاثة أشياء، فإن استعملوها وإلا تباينوا وتباغضوا، وهي : التناصف، والتراحم، ونفي الحسد"(10).
أخيراً علينا أن نؤمن أن المؤمن يحتاج إلى إخوانه في الدنيا والآخرة، فالله في عون المؤمن ما كان المـؤمن فـي عون أخيه، والأخ الصالح من يعينك على طاعة الله ويصدك عن معاصيه ويأمرك برضاه(11).
الهوامش:
(1) الكليني: أصول الكافي، ج 2، ص 170 .
(2) الطبرسي: مجمع البيان، ج9، ص332.
(3) الهمداني، أحمد: فاطمة الزهراء (ع) بهجة قلب المصطفي، ص 576.
(4) القمي، عباس: منتهي الآمـال، ج1، ص 247.
(5) الريـشهري: محمد: مـنتخب ميزان الحكمة، ص 49 .
(6) الكليني: (م،س)، ج2، باب الحب في الله ح3.
(7) يراجع: معن، حسين: نظرات في الاعداد الروحي، ص 144.
(8) الإمام الخميني: وصايا عـرفانية، ص30 .
(9) الريشهري: (م،س)، ص 13 .
(10) المرجع نفسه، الصفحة نفسها .
(11)المرجع نفسه، ص 15 .
**باحثة إسلامية من لبنان