الدكتور الشيخ محمد شقير
لم تكن مواجهة الإسلام مع الجاهلية مواجهة لتستثني في جانبها الثقافي والفكري، جملة من المفاهيم التي تنتمي إلى منظومة الثقافة الجاهلية، حيث عمل الإسلام على نقد تلك المفاهيم، من أجل إعادة انتاج بديل لها ينسجم مع رؤيته الكونية، ومن تلك المفاهيم مفهوم العصبية.
عرض القران الكريم نموذجاً لعصبية ساهمت في رسم مسار الخليقة وموطن البشرية، ألا وهي عصبية إبليس، حيث يشير الإمام علي (ع) في نهج البلاغة إلى هذه القضية فيقول: «فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله، فعدو اللَّه إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية...».
ثم يقدم بياناً للعصبية يبرز فيه منشأها فيقول:
«ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصب لشيئء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء، غيركم؛ فإنكم تتعصبون لأمر، ما يعرف له سبب ولا علة، أما إبليس فتعصب على آدم لأصله، وطعن عليه في خلقته، فقال أنا ناري وأنت طيني، وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لاثار مواقع النعم، فقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين».
ولذ ورد عن رسول اللَّه (ص): «من كان في قلبه ذرة خردل من عصبية بعثه اللَّه يوم القيامة مع أعراب الجاهلية».
إذن العصبية قيمة خلقية سلبية تنتمي إلى منظومة القيم الجاهلية، ولقد حاول الإسلام جاهداً إفراغها من مضمونها، الذي ينتمي إلى أي مظهر من مظاهر الدنيا وعالم المادة (عرق، جنس، لون، منطقة، طبقة) ومحاولة ملئها بمضمون آخر، يحيلها إلى مفهوم آخر بغض النظر عن التسمية والتعبير.
ولذا يقول الإمام علي (ع): «فإن كان لا بد من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء النجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة».
ولقد رأى الإسلام أن العصبية تعبير عن حالة الفخر والكبر والحمية والاستعلاء كمرض نفسي، والتي ما إن تأخذ بعداً اجتماعياً حتى تتمظهر في عصبية عرقية أو مناطقية أو طبقية وما سوى ذلك لتشير إلى حالة غير سوية تكمن في البعد النفسي الاجتماعي الذي تمظهرت فيه هذه العصبية أو تلك.
من هنا فإن العصبية تعبر عن أوضاع غير سوية في القيم الأخلاقية السائدة وفي المحتوى النفسي لهذه البنية الاجتماعية أو تلك وعن أكثر من خلل خلقي؛ وهو ما يؤدي إلى ولادة العصبية التي تسعى إلى التعبير عن نفسها بمفاهيم مصطنعة لا تملك بعداً واقعياً أو حقياً (نسبة إلى الحق) يبرر نشوءها ووجودها.
هنا قد يكون مناسباً تقديم مقاربة فلسفية لمفهوم العصبية، باعتبار أنه يبتنى على أساس غير واقعي (بالمعنى الفلسفي)، ليس على مستوى الظواهر التي تنتمي إلى مقولات المادة (جنس، لون...)، وإنما على مستوى صدقية التلازم بين هذه الظواهر المادية، وبين النتائج المعرفية التي يراد لها أن تؤسس لثقافة العصبية، فمن قال إن اللون كظاهرة مادية يبرر ايجاد ثقافة عصبوية ترتكز عليه، ومن قال إن العرق يبرر ايجاد عقيدة عصبوية تنتمي إليه؟ وهكذا الأمر بالنسبة إلى كل المواد العصبوية التي تتخذ كذرائع للقيام بتأسيس عقدي ثقافي لوباء العصبية.
نعم الأمر كما أسلفنا يتجاوز في عمقه هذه الظواهر المادية لتمتد جذوره إلى طبيعة النفس البشرية، التي قد تطغى فتميل إلى الكبر والفخر والاستعلاء، والذي ما أن يأخذ بعداً اجتماعياً حتى يحتاج إلى أن يتمسك بجملة من المواد العصبوية والظواهر المادية ليتخذها أساساً لبناء ثقافته العصبوية، والتي قد تقوم على أساس من القبيلة أو العائلة أو المنطقة أو القوم...
ولذلك إن كان هناك من يفرق بين عصبية مذمومة وأخرى ممدوحة في الإسلام كالتعصب للحق، فهو في واقع الأمر إشارة إلى مضمون يخالف حقيقة العصبية وجذورها، كما يقول الإمام علي (ع): «فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبرّ، والمعصية للكبر...» فالتمسك بهذه الفضائل والمكارم والقيم يؤدي إلى انتاج ثقافة لا عصبوية بالمعنى المصطلح.
وعليه يمكن القول إن الرؤية الإسلامية تستثني التعصب للحق، ليس فقط بالمعنى القيمي، بل أيضاً بالمعنى الفلسفي والمعرفي، حيث إن المراد بالحق هنا كل واقعية تبرر مفهومي الولاء والانتماء، أي تقدم تسويغاً معرفياً للربط بين حقيقة ما، وبين الشعور بالانتماء إلى تلك الحقيقة والتثبت بها.
ومن هنا يصح القول إن مفهوم العصبية الذي ينبذه الإسلام، هو المفهوم الذي يرتكز على أية ظاهرة مادية أو تاريخية تتعدى اطار الحق بالمعنى المعرفي، في حين أن مفهوم العصبية الذي يدعو إليه الإسلام هو مفهوم يرتكز على أساس معرفي أي على فكرة الحق الحقيقة، وهي فكرة تحمل بنفسها نتيجة الشعور بالانتماء لها والولاء، لأن هكذا منظومة فكرية تقوم على أساس الحقانية (الحق)، سوف تستولد بشكل منطقي شعوراً بالانتماء والولاء لكل ما يكون أكثر حقانية. وأشد في الحق (بالمعنى الوجودي)، أي للَّه تعالى، ولكل المفاهيم والقيم التي تحمل تبريرها المعرفي في تلك المنظومة. وفي هذا يقول الإمام علي (ع): «إن كنتم لا محالة متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق واغاثة الملهوف».
لكن إذا تجاوزنا هذا البعد الفلسفي في مقاربة مفهوم العصبية إلى البعد الاجتماعي، يصح القول هنا إن الدين الذي حارب العصبية واعتبرها تنتمي إلى ثقافة الجاهلية قد يتحول نفسه إلى منتج لعصبيات من نوع اخر، طائفية ومذهبية ولربما سياسية وحزبية بل قد يولد حدّة في العصبية لا نجدها في مكان اخر باعتبار أن مفهومي الانتماء والولاء هنا قد أخذا بعداً قداسوياً تفتقده بقية العصبيات الاجتماعية.
فهل تكمن المشكلة هنا في الدين أم في المتدين، وهل هي في الحقيقة الدينية أم في فهم تلك الحقيقة؟ لأنه ليس أمراً مقبولاً ومستساغاً أن ينقلب الشيء إلى ضده، وأن يقود إلى خلاف هدفه عندما يتموضع في الاطار الاجتماعي.
ما ينبغي قوله إن المشكلة هي فهم البعض للدين وحقيقته، وأيضاً في سوء تطبيقه للقيم والمفاهيم الدينية. لأن الدين قبل أي شيء اخر هو انتماء معرفي عقدي وعلاقة باللَّه تعالى، وكل القضايا الدينية الأخرى يجب أن تفهم من خلال ذلك الأساس، لكن ما يحصل أن البعض بدل أن يفهم الدين فهماً صحيحاً يؤدي إلى كنس كل تلك العصبيات المصطنعة، والتخفيف من حدتها، فإنه يحاول أن يسقط عصبياته على الدين نفسه لتأخذ تلك العصبيات تبريراً دينياً وبعداً قداسوياً فتصبح والحال هذه أشد خطورة وأكثر فتكاً، بل إن البعض يتعامل مع أي تمايز ديني أو اختلاف طائفي أو مذهبي من موقع عصبوي مرضي، وليس من موقع معرفي حقاني، فلا يعود الاختلاف أو التمايز وسيلة لاستجلاء الحق ومعرفة الصواب، بل تراه ينتصر لطائفته أو مذهبه كما ينتصر أي جاهلي لقبيلته، وتراه ينافح عن طائفته ومذهبه كما ينافح أي جاهلي عن عشيرته، هنا يصبح واقع الاجتماع الديني مرادفاً لما عليه الاجتماع الجاهلي، ويصبح المذهب الفلاني مرادفاً للعشيرة الفلانية أو لبني فلان أو فلان، وتؤول الطائفة الفلانية إلى تلك القبيلة أو غيرها، أي إن ما هو موجود هو اجتماع جاهلي لكن بتعابير وتسميات جديدة دينية أو غير دينية في حين أن القيم واحدة والمفاهيم واحدة والخلل في البنية النفسية الاجتماعية ما زال موجوداً، وما اختلف هو التمظهرات الجديدة نتيجة اختلاف طبيعة الانقسام الاجتماعي من انقسام جاهلي ذو وجه قبلي إلى انقسام جاهلي ذو وجه ديني، فمحل القبيلة الفلانية تحل الطائفة الفلانية، ومحل العشيرة الفلانية تحل هذه الجماعة المذهبية أو تلك، وبالتالي اختلفت التسميات لكن الروح الجاهلية ما زالت كامنة والأخلاق الجاهلية ما زالت فاعلة وما زال الخلل في بنية الاجتماع النفسي يترك أثره في نسج علاقات وانتاج سلوكيات ومواقف تتنافى مع قيم الإسلام، وتنسجم مع قيم الجاهلية وثقافتها.