ولذا كان أئمة أهل بيت الرسالة والنبوة والامامة عليهم السلام يولون الأمر أهمية بالغة وفائقة حفاظاً على رسالة السماء السمحاء التي جاء بها خاتم النبيين محمد الأمين (ص) لهداية البشرية وإخراجهم من الظلمات الى النور، ومن الجاهلية للعلم والتقدم والتطور، ومن القبلية للاستقلال وحرية الرأي والموقف الانساني الرافض للظلم والجور والطغيان والجبروت والتحجر وتكفير الآخر الذي تعيشه الأمة بحيل وخطط سياسة الشجرة الملعونة الخبيثة وقوله تعالى “وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا” الإسراء: 60؛ فتوارث أئمة الهدى عليهم السلام مهمتهم السماوية في التصدي للإنحراف والتزييف وتزوير السلاطين ووعاظهم حقيقة الدين وأسس الإتيان به، واحداً بعد آخر وقدموا أرواحهم وأطفالهم وأخوانهم وأهل بيتهم قرابين لتكريس ما أمر به الله سبحانه وتعالى “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ..” – آل عمران:19.
فحياتهم عليهم السلام لم تعرف بما هو المطلوب حتى يومنا هذا رغم آلاف الكتب والروايات والأحاديث، وقد ظلمهم البعض من شيعتهم قبل أعدائهم وشككوا في نزاهة ما قاموا به أو اساؤوا تفسيره، متجاهلين تضحياتهم الجسام وتوصياتهم الواضحة في التصدي لإنحراف وتزوير الدين خلال حوالي 250 عاماً من حياتهم الشريفة، تلك الحقبة التي تسلط عليها بنو أمية وتابعيهم بني العباس، فقطعوا رؤوس المحدثين وأحرقوا ماكتبوه ونقلوه عن الرسول الأمين (ص) لتبقى الأمة في ضلال الجهل والعصبية القبلية التي يبغونها؛ كميثاق صلح الامام الحسن عليه السلام وأبن هند آكلة الأكباد صاحبة الراية الحمراء معاوية بن أبي سفيان، وكذا قبول الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام ولاية العهد في زمن الطاغية العباسي المأمون .
فمنذ بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري حيث تحولت الخلافة الإسلامية بشكل واضح وفاضح الى سلطنة في جميع الجوانب وتبدلت الحكومة (أمانة الله لخيرة خلقه) الى حكومة سلطوية فرعونية قمعية مستهدفة آل الرسول (ص) وأتباعهم وشيعتهم بشكل خاص، فكانت المواجهة السياسية لأهل البيت عليهم السلام تشتد وتتطور بأسلوب يتناسب مع الأوضاع والظروف المستجدة.. بين الصمت والصلح والثورة ودخول السجون والإضطرار للمماشاة والغيبة.. فيما سياسة التابعين لنهج الشجرة الملعونة هي على شاكلتها في القمع والقتل والتعدي والنهب والتحريف والتزييف، وأنهار الدماء جارية من أقصى بلاد المسلمين الى أقصاها خاصة في بلاد الرافدين والشام والحجاز حيث حكم الأراعن والطغاة ممتد وداعم للارهاب التكفيري الطائفي المتجذر ليومنا هذا منذ أكثر من 14 قرناً في صفوف الأمة.
لم يقبل الامام الرضا (ع) خديعة المأمون العباسي بولاية العهد إلا على مضض وجبر في تلك الحقبة القمعية الدموية القاسية التي تلت مرحلة حكم المهدي والهادي والرشيد العباسي ولما آل له وضع آل البيت (ع) وشيعتهم ومحبيهم، ومطاردة العلويين، وهدم دورهم، ومصادرة أموالهم، وإدخالهم السجون وإستباحة دمائهم وشيعتهم دون إستثناء كما هو قائم حتى يومنا هذا ضد شيعتهم في البلاد الاسلامية؛ بالاضافة الى التهديد الذي هدده به المأمون إن لم يقبل الامام الرضا (ع) بولاية العهد بعد رفض الامام (ع) لعرضه الخبيث، ليطلق المأمون تهديده: “إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وشرط فيمن خالف عنهم أن يضرب عنقه، ولابد من قبولك ما أريده منك فإني لا أجد محيصاً عنه” .
لم يكن عرض الطاغية المأمون إلا بهدف جعل الامام الرضا (ع) ورقة مساومة بينه وبين العباسيـين في بغداد، وورقة مساومة بينه وبين العلويـين وورقة مساومة بينه وبين الشيعة في خراسان؛ خاصة وإن الثورات قد تزايدت عليه من كل صوب وحدب من مصر حتى خراسان مروراً بالكوفة والبصرة والحجاز والشام؛ فقبل الامام الرضا (ع) ولاية العهد ليقوم بمهام الامامة المنوطة اليه حيث فتح الباب أمامه لتبليغ الدين القويم والاسلام المحمدي الأصيل، ومن ثم تقديم النصح لإدارة أفضل لشؤون المجتمع في مختلف مجالات الحياة.. خاصة وإن حاجة الأمة الى التبليغ والتوجيه لم تنته، فهناك قضايا غير واضحة، وهناك أمور مستجدة، فلابد من مرجعٍ يرجع إليه الناس في أمور دينهم، ولابد أن تكون هناك ثقة بأن هذا المرجع ينقل أوامر الله (سبحانه وتعالى) القطعية والواقعية، وليس بشكلٍ ظني وحسب اجتهاده وإدراكه، وتم اختياره من قبل الباري تعالى لهذه المرجعية، والقرآن الكريم يتحدث عن الإمامة بمنطق الجعل: “وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ” السجدة: 24 .
البعض من ذوي النفوس الضعيفة وأصحاب النوايا الخبيثة (حاجة في نفس يعقوب) يبرر قبول الامام الرضا (ع) لولاية العهد في خوفه على حياته منوهين بتمسك بالآية الشريفة “وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ” – البقرة: 195، وكذا قوله عليه السلام “اللّهمّ إنّك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أُكرهت واضطررت كما أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية عهده… اللّهمّ لا عهد إلّا عهدك، ولا ولاية إلّا من قبلك، فوفّقني لإقامة دينك، وإحياء سُنّة نبيّك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّك أنت المولى وأنت النصير، ونعم المولى أنت، ونعم النصير“- عيون أخبار الرضا، م. س: 1/19؛ متجاهلين شرط الامام (ع) للمأمون “أنا أقبل ذلك على أن لا أُولّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقضنَّ رسماً ولا سنّة، وأكون في الأمر بعيداً مشيراً” – علل الشرائع، م.س: 237 و238.
قبول الامام علي بن موسى الرضا (ع) بولاية عهد المأمون ليس خوفاً من قتله، وإنّما سيكون قتله سبباً في خسارة الحركة الرساليّة ولحاجتها الى قيادته في تلك البرهة العصيبة من الزمن على الأمة خاصة أتباع أهل البيت (ع)؛ وسيكون قتله مقدّمة لقتل أهل بيته وأنصاره وأتباعه أجمعين، أو يؤدّي الى ردود أفعال مسلّحة غير مدروسة بدافع الانتقام، وبالتالي تنهار القوّة العسكريّة الخيرة دون أن تغيّر من الواقع شيئاً.
كما كان للامام علي الرضا (ع) أهداف عديدة اخرى من وراء قبوله منصب ولاية العهد، منها: 1- استثمار الظروف لإقامة الدِّين وإحياء السنّة، 2- تصحيح الأفكار السياسيّة الخاطئة، 3- إفشال مخطّطات المأمون، 4- تعبئة الطاقات لمواصلة مسيرة الاسلام الناصع، المزعزع لسلطة الطغاة والجبابرة والمتفرعنين غلى طول التاريخ فعزموا على محاربته بشتى الوسائل دون التهاون من إراقة الدماء البريئة، وما يجري في العراق وسوريا واليمن والبحرين وغيرها من بلاد المسلمين إلا نموذجاً لخوف وفزع أتباع الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن الكريم من مدرسة أهل بيت النبوة والرسالة السماوية السمحاء .
* جميل ظاهري/ شفقنا
101/104