بقاء ابنَي الحريري في الرياض بدا أشبه بالشروط التي تُفرَض على الموقوف بعد صدور قرار بإطلاق سراحه. وهذا الأمر (عدم مغادرة جميع أفراد عائلة الحريري معه)، أبلغه «الوسيط» الفرنسي إلى الرئيس ميشال عون أمس، ما سبّب انزعاجه. فعون، الذي سبق أن أعلن أن الحريري موقوف ومحتجز في السعودية، كان قد طالب بخروجه مع عائلته من الرياض، وعودتهم إلى لبنان، لضمان حرية قرار رئيس الحكومة بعد كل ما تعرّض له في الأسبوعين الماضيين. ورئيس الجمهورية بات يملك تصوراً تفصيلياً لكل ما جرى للحريري، منذ صباح يوم 4 تشرين الأول، تاريخ إجباره على إعلان استقالته. صبّت في مكتبه خلاصات تقارير استخبارية ودبلوماسية من دول عديدة، أكّدت أن الحريري موقوف، مع تفاصيل دقيقة لعملية توقيفه.
وكان عون، بالاتفاق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وقيادة تيار المستقبل، قد قرر إلغاء احتفال عيد الاستقلال يوم الأربعاء المقبل، إن لم يشارك فيه رئيس الحكومة. ورغم اتفاق وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان على إطلاق الحريري والسماح له بالتوجه إلى باريس، حيث يستقبله الرئيس إيمانويل ماكرون ظهر اليوم، إلا أن عون بقي مرتاباً. ورفع منسوبَ الحذر عنده، تصريحُ ماكرون بأن الحريري قد يبقى في فرنسا «لأيام أو أسابيع». والكلمة الأخيرة هي التي سببت الكثير من اللغط، ما دفع وزير الخارجية جبران باسيل إلى التلويح بإمكان تنظيم تظاهرة احتجاجية إن لم يعد الحريري للمشاركة في ذكرى الاستقلال، مؤكداً أن خلوّ كرسي الرئاسة الثالثة يعني خلوّ «كراسي كل لبنان الرسمي»، لأن «رئيس حكومتنا هو عنوان سيادتنا».
في هذا الوقت، انتقل البحث السياسي من أزمة اختطاف رئيس الحكومة، إلى «تقدير موقف» للمرحلة المقبلة. وازداد المشهد ضبابية بعدما تبيّن أن خروج الحريري من الرياض أتى كقرار «إطلاق سراح مشروط»، وخاصة أن الوسيط الفرنسي لم يتسلّم لائحة شروط سعودية على الحريري. فبحسب ما قال دبلوماسيون فرنسيون، رفض محمد بن سلمان تسليم ماكرون أي مطالب بضمانات تقدّمها باريس، مكتفياً بالقول إن الحريري «يعرف ما عليه فعله». و«ما عليه فعله»، هو ما تبلّغه الحريري من ابن سلمان ليل أمس، في لقاء سبق السفر إلى باريس. وعلمت «الأخبار» أن رئيس الحكومة اضطر إلى الانتظار 7 ساعات قبل السماح له بمقابلة ولي العهد. وكان الجانب الفرنسي قد أبلغ وسائل الإعلام بأن طائرة الحريري ستهبط في باريس عند العاشرة مساءً، قبل أن تطلب الشرطة من الصحافيين المغادرة، إذ حلّ موعد الوصول، ولم تكن الطائرة قد أقلعت من الرياض بعد.
«ماذا بعد»؟ السعودية لا تزال تصرّ على توتير الأجواء والإيحاء أن ثمّة ما يُعَدّ للبنان، إذ أصدرت سفارتها، أمس، بياناً دعت فيه مواطنيها الزائرين والمقيمين إلى مغادرة لبنان في أقرب فرصة ممكنة، مستندة إلى تغريدة استغلت خلافاً عائلياً (بين لبنانيين) على عقار، تطوّر إلى إحراق سيارتين (قبل يومين)، تبيّن أنهما تعودان إلى ابنتي سيدة لبنانية، متزوجة بسعودي. وشاركت قناة «أم تي في» في الترويج لما جرى تحت عنوان إحراق سيارتين تملكهما سيدتان سعوديتان، بما يوحي بأن العمل يستهدف السعوديين في لبنان. واضطر الرئيس سعد الحريري، قبل انطلاق طائرته من الرياض، إلى كتابة تغريدة حذّر فيها من التعرض لممتلكات السعوديين في لبنان، قبل أن تعلن وزارة الداخلية أن ما جرى خلاف عائلي لبناني- لبناني ولا علاقة لأي سعودي به.
وفيما غادر أمس كل من النائب بهية الحريري ونجليها نادر وأحمد، إضافة إلى وزير الداخلية نهاد المشنوق، لاستقبال الحريري في باريس، كانت مختلف القوى السياسية تنتظر ما سيرشح عن الحريري، لتحديد وجهة المرحلة المقبلة. فالحريري اليوم دخل المرحلة الخامسة من حياته السياسية: مرحلة 14 آذار الصدامية، ثم فترة الـ«سين سين»، فمرحلة إخراجه من السلطة ولجوئه إلى المنفى الاختياري، ثم التسوية الرئاسية، وصولاً إلى ما بعد إجباره على الاستقالة في مرحلة الجنون السعودي.
ورفض مرجع سياسي بارز التعليق على انتقال الحريري إلى باريس، لأن المهم هو «مضمون ما سيقوله»، على اعتبار أنه سيكون «عنوان الفصل الآتي من الأزمة». فإما أن «يثبّت استقالته على قاعدة المضمون السياسي الذي عبّر عنه في خطاب الاستقالة»، أو أن «يُبقي الباب مفتوحاً للعودة عنها كما لمّح في مقابلته التلفزيونية». وفيما رأى المرجع أن «باب العودة عن الاستقالة احتمال ضعيف، لكنه لا يزال قائماً»، أكد أن «أحداً لم يطّلع على مضمون الاتفاق السعودي - الفرنسي»، لكن الأكيد أن «الفرنسيين لم يتعهّدوا ببقاء الحريري في فرنسا، لأن هذا الأمر سيصوّرهم وكأنهم يشاركون في أسره». وكان بارزاً الموقف الذي أطلقه الإيليزيه أمس، وشدّد فيه على أن «ماكرون سيستقبل الحريري كرئيس للحكومة»، وكأنه يؤكّد عدم الاعتراف بالاستقالة.
وفي بيروت، بدأ التداول بالسيناريوهات المحتملة لمرحلة ما بعد العودة. الأكيد أن الحريري سيعود إلى بيروت، وسيقوم بجولة عربية وأوروبية. أما الاتجاه السياسي الذي سيسلكه، فلا يزال غامضاً. السيناريو الأقل كلفة للبلاد هو عودته عن الاستقالة. لكن ذلك يستوجب خروجه نهائياً من حالة «الرهينة» التي يضعه فيها محمد بن سلمان، مشترطاً عليه مواجهة حزب الله وعدم السماح بمشاركته في أي حكومة. وهذا الشرط، إذا التزمه الحريري، يعني أن البلاد مقبلة على فترة طويلة من تصريف الأحمال، بانتظار تغيرات ما في الإقليم تفرض على ابن سلمان تحرير الحريري. بدوره، قال مصدر رفيع المستوى في تيار المستقبل لـ«الأخبار» إن رئيس الحكومة لن يبقى في باريس أسابيع، بل أياماً معدودة. وبرأيه، تبدو العودة عن الإستقالة بعيدة، لأنها ستعني اعترافاً بأنه أُجبر على تقديمها مِن الرياض، «ولكنه قد يتراجع إذا حصل على شروط تلبي كل ما قاله في خطاب الاستقالة، لجهة تقديم صيغة للنأي بالنفي أكثر تقدماً من الصيغة التي يجري التعامل بها». ووافق المصدر على أن المرحلة المقبلة «لن تكون أسهل من المرحلة الماضية، وإن التفاوض في كل العناوين التي ستطرح لتجديد الصيغة الحكومية ستكون صعبة، سواء أصر الرئيس الحريري على الاستقالة، أو دخل في مفاوضات للعودة عنها».
بدوره، قال مرجع رسمي لـ«الأخبار» إنه «في ظل انسداد المخارج، يجري التداول في إمكانية تقديم موعد الانتخابات النيابية، إذ لا شيء يدفعنا إلى انتظار ستة أشهر في ظل حكومة تصريف أعمال».
من جهته، رأى السفير الروسي أليكسندر زاسبيكين أن «ما حصل أخيراً لديه بعدٌ إقليمي سياسي كبير جداً»، مؤكداً أن «روسيا ترفض المطالب بإبعاد حزب الله عن الحكومة»، وأن «كل الأحاديث حول المطالب السعودية بذلك غير واردة».
أما وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، فرأى أن «ما حدث لقطر يحدث الآن بطريقة أخرى للبنان»، لافتاً إلى أن «هناك محاولات للتسلط على الدول الصغيرة بالمنطقة لإجبارها على التسليم».
في المقابل، عبّرت السعودية أمس عن احتجاجها على تصريحات وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل، بعد لقائه باسيل أول من أمس، مشيرة إلى أنها لا تدعم الاستقرار في المنطقة. وقد استدعت الرياض سفيرها في برلين. وكان غابرييل قد انتقد تصرفات السعودية مع الحريري، معتبراً إياهاً تتويجاً «لروح المغامرة التي تتسع في السعودية منذ أشهر، والتي لن تكون مقبولة ولن نسكت عنها». ووضع الوزير الألماني ما جرى للرئيس الحريري في المسار نفسه الذي اعتمدته السعودية في اليمن، وفي «الصراع مع قطر».
الاخبار
22/102