هو القدوة والأسوة

السبت 18 نوفمبر 2017 - 09:35 بتوقيت مكة
هو القدوة والأسوة

كان الإمام الرضا (ع) بمثابة قرآن ناطق ، فخلقه من القرآن ، وعلمه ومكرماته من القرآن ، أو ليس القرآن هو آية الله العظمى في خلقه ، أولم ييسّره ربنا لمن شاء من عباده أن يستقيم عليه ؟ أوَ يكون ذلك غريباً أن يصبح من تمثل القرآن في حياته آية عظمى لرب العالمين .

كان الإمام الرضا (ع) بمثابة قرآن ناطق ، فخلقه من القرآن ، وعلمه ومكرماته من القرآن ، أو ليس القرآن هو آية الله العظمى في خلقه ، أولم ييسّره ربنا لمن شاء من عباده أن يستقيم عليه ؟ أوَ يكون ذلك غريباً أن يصبح من تمثل القرآن في حياته آية عظمى لرب العالمين .

والنبي (ص) كان أفضل وأعظم ميزاته ، أنه عبد يوحى إليه ، وحين سأل بعضهم عن خلقه العظيم قال : " كان القرآن خلقه ..".

وأعظم ميزات الإمام علي (ع) ان الله قد جعل أذنه واعية للقرآن .وقد ذكّرنا الرسول بأنه يخلّف بعده الثقلين : كتاب الله وعترته أهل بيته ، ثم بيّن أنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض . أوَلا يعني ذلك أن أهل بيت الرسالة (ع) كانوا مشكاة نور القرآن ومعدن خيرات الوحي ومستقر علم الله ؟.

وكان الإمام الرضا (ع) قد تمثل هذا النور ـ بكل وجوده حتى جاء في الحديث : عن ابي ذكوان قال : سمعت إبراهيم بن العباس يقول :ما رأيت الرضا (ع) سئل عن شيء قط إلاّ علمه ، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره ، وكان المأمون يمنحه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه ، وكان كلامه كله وجوابه وتمثله انتزاعات من القرآن ، وكان يختمه في كل ثلاث ليالٍ ، ويقول :" لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمت ، ولكني ما مررت بآية قط إلاّ فكرت فيها وفي أي شيء أنزلت وفي أي وقت ، فلذلك صرت أختم كل ثلاثة أيام "  .

ولكن دعنا نعرف كيف تمثل إمامنا الرضا (ع) القرآن بهذه الدرجة ، أو يمكننا أن نتبعه في ذلك ؟ القرآن كتاب الله ومن لا يتصل قلبه بنور الله لا يعرف كتابه ، أو لم يقل ربنا سبحانه :﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ﴾  .

وبدرجة الإيمان ، وبمستوى اليقين ، وبقدر تجلي عظمة الرب في القلب يستضيء الإنسان بنور الله الذي تجلى به في كتابه ..

والإمام الرضا (ع) عظَّم الله ووقره وسلّم له أمره واستصغر كل شيء سواه ، واستعد لكل بلاء في سبيله ، وكان كل ذلك وسيلته إلى ربه .

دعنا نلتمس بعض الشواهد على ما قلنا لا لنزداد بالإمام معرفة فقط ، بل لكي تخشع قلوبنا أيضاً بهذه السيرة التي تفيض روحاً إلهياً وضياءً .

كان من عبادته (ع) أنه إذا صلّى الفجر في أول وقتها يسجد لربه فلا يرفع رأسه الى أن ترتفع الشمس  ..

وعندما كلّف المأمون العباسي واليه على المدينة بمرافقة الإمام إلى خراسان ، سأله ـ بعد مقدمه إليها ـ عن أحواله في الطريق ففصّل الحديث عن درجات عبادته وذكره وتبتله ، فلما قص عليه ذلك أمره بأن يكتم عن الناس ذلك وكان مما نقله : "كان إذا أصبح صلى الغداة ، فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ، ويصلي على النبي وآله حتى تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدة يبقى فيها حتى يتعالى النهار ، ثم أقبل على الناس يحدثهم ويعظهم إلى قرب الزوال ، ثم جدد وضوءه وعاد إلى مصلاه .. وبعد أن يذكر كيفية صلاته وسجداته ونوافله إلى وقت العصر مما هو معروف في الفقه ، ثم يقول أقام وصلى العصر فإذا سلم جلس في مصلاه يسبح الله ويحمده ويكبره ويهلله ما شاء الله ، ثم سجد سجدة يقول فيها مائة مرة " حمداً لله " .

ثم يذكر كيف كان يصلي بعد غروب الشمس ويسبّح ربه حتى يمضي قريب من ثلث الليل ثم يأوي إلى فراشه .. فإذا كان الثلث الأخير من الليل قام من فراشه لنافلة الليل ، واستمر على ذلك حتى يطلع الفجر ، ثم يجلس للتعقيب حتى تطلع الشمس ، ويسجد حتى يتعالى النهار .

ويضيف : وكان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مر بآية فيها ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوَّذ من النار.

وكان الإمام يرى أن ما له من فضل إنما هو بالتقوى وليس فقط بالانتساب إلى رسول الله (ص) بالولادة .

هكذا ينقل البيهقي عن الصولي عن محمد بن موسى بن نصر الرازي قال : سمعت أبي يقول : قال رجل للرضا والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً ، فقال : "التقوى شرفتهم وطاعة الله أعظمتهم " .

فقال له آخر : أنت والله خير الناس ، فقال له :" لا تحلف يا هذا ، خير مني من كان أتقى لله عزّ وجلّ وأطوع له والله ما نسخت هذه الآية : ﴿ ... وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ...

وهذا الحديث يذكرنا بما يروى عن الإمام الصادق (ع) أنه قال : " لَولايتي لمحمد صلّى الله عليه وآله أحب إليّ من ولادتي منه " .

وهكذا أطاع الله بكل جوانب حياته ، فأحبه الله ونوّر قلبه بضياء المعرفة وألهمه من العلوم ما ألهمه .

وجعله حجة بالغة على خلقه ، أو لم نقرأ سورة (ص) كيف بيّن فيها ربنا مواهبه لعباده الصالحين ، وأنه إنما أتاهم كل تلك المواهب لعبادتهم وإخلاصهم فقال مثلاً :

﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ ، ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾. الى أن يقول : ﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ .

وهكذا أناب الإمام الرضا (ع) إلى ربه فوهب الله له ما شاء من الكرامة والعلم ..

لقد زهد في الدنيا واستصغر شأنها ، ورفض مغرياتها ، فرفع الله الحجاب بينه وبين الحقائق لأن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وهو حجاب سميك بين الإنسان وبين حقائق الخلق ..

يذكر البيهقي عن الصولي : كان جلوس الرضا في الصيف على حصير وفي الشتاء على مسح ، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزين لهم .
وكان ذلك عندما أقبلت الدنيا عليه فلم يقبلها ، وتزينت له فلم يغترّ بها . بل عندما كانت الخلافة العباسية في أوج عظمتها وبذخها وترفها وكان الإمام ولي عهد الخليفة في الظاهر يومئذ عاف الدنيا وشهواتها . هكذا تروي جارية اسمها عذر فتقول : اشتريت مع عدة جواري من الكوفة ، وكنت من ولداتها ( كانت مولودة في الكوفة ) قالت : فحملنا إلى المأمون فكنا في داره في جنة من الأكل والشرب والطيب وكثرة الدنانير فوهبني المأمون للرضا ، فلما صرت في داره فقدت جميع ما كنت فيه من النعيم ، وكانت علينا قيّمة تنبهنا من الليل ، وتأخذنا بالصلاة ، وكان ذلك من أشد ما علينا فكنت أتمنى الخروج من داره . وأعظم الزهد زهده في الخلافة بالطريقة التي عرضها عليه المأمون العباسي ، فإن من الناس من يزهد في الدنيا طلباً لما هو أعظم من متاعها . ولا أعظم من الرئاسة في أعين الإنسان .

يقول الفضل بن سهل الذي شهد حوار المأمون مع الإمام الرضا في شأن الخلافة ما رأيت الملك ذليلاً مثل ذلك اليوم .

يقول المأمون العباسي فيما روي عنه ، فجهدت الجهد كله وأطمعته في الخلافة وما سواها فما أطمعني في نفسه .

السبيل إلى الله

ومن يعظم الله يعظم أولياءه ، ومن يرفض توقير أولياء الله يفقد السبيل الى الله . والإمام الرضا (ع) سلك هذا السبيل إلى ربه . ولعمري إن الشيطان يزين للإنسان مخالفة أولياء الله والتكبر عليهم حتى يضله عن سبيل الله القويم ، ويلقيه في تيه السبل المتفرقة .وكلما ازداد الإنسان تسليماً لقيادته الشرعية ، وحباً لولي أمره ، ولأولياء الله من الأنبياء والأوصياء والصالحين ، كلما يزداد من ربه قرباً .
والإمام الرضا (ع) كان كما سائر الأئمة (ع) أطوع الناس لولي أمره الإمام موسى بن جعفر (ع) فجعله الله حجة من بعده .يقول الإمام الكاظم :
"
علي ابني أكبر ولدي وأسمعهم لقولي ، وأطوعهم لأمري " .
وقال : " علي أكبر ولدي وأكبرهم عندي وأحبهم إلي ".
إن بين الإنسان وبين أولياء الله حجاب من الغرور والكبر ، فمن خالف هواه وتحدى غروره وحارب كبر نفسه ، يخرق هذا الحجاب ، فيدخل في حزب الله وينتمي إلى أوليائه ويستقر في مقامه عند الله . لذلك أكّد القرآن على الكافرين قولهم :
﴿ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ .
وقد جاء في حديث روي عن ابن أبي كثير قال : لما توفي موسى (ع) وقف الناس في أمره فحججت في تلك السنة فإذا أنا بالرضا (ع) فأضمرت في قلبي أمراً فقلت : أبشراً منا واحداً نتبعه فمر كالبرق الخاطف علي ، فقال : " أنا والله البشر الذي يجب عليك أن تتبعني . فقلت : معذرة إلى الله وإليك فقال: مغفور لك  

الشجرة الطيبة

كان الرضا من الشجرة الطيبة التي أكرمها الله ، وبارك لأمة محمد فيها وقال سبحانه : ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ .
ولقد اختار الله يحيى بن زكريا للنبوة وآتاه الحكم صبيّاً ، بحكمته البالغة وإكراماً لوالده زكريا . واختار مريم صديقة حينما نذرت امرأة عمران ما في بطنها محرراً لله . واختار عيسى ابن مريم ( عليهما السلام ) كرامة لوالدته الصديقة فكلم في المهد قائلاً : ﴿ ... إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ ...  . فلماذا نستغرب حينما يختار من أهل بيت محمد (ص) اثنا عشر نقيباً ، أئمة هداة ميامين بحكمته البالغة وكرامة لأقرب الناس إلى الله سيد المرسلين محمد صلّى الله عليه وآله .

الخلق الكريم

وقد فاضت من هذه النفس الكريمة تلك الأخلاق الحسنة التي تحدثنا بها كتب التاريخ ، أوليس الطيب دليل الزهرة ، والشعاع دليل الضياء ؟ وهل الإيمان إلاّ الحب ، وهل دليل الحب غير تلك الأخلاق الحسنة ؟
كان (ع) في قمة التواضع وحسن المعاشرة مع الناس هكذا ينقل إبراهيم بن العباس يقول : ما رأيت أبا الحسن الرضا جفا أحداً بكلامه قط ، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه ، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها ، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قط ، ولا اتكأ بين يدي جليس له قط ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط ، ولا رأيته تفل قط ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط ، بل كان ضحكه التبسم .
وكان إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس ، وكان (ع) قليل النوم بالليل ، كثير السهر يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح ، وكان كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر ، ويقول : ذلك صوم الدهر ، وكان (ع) كثير المعروف والصدقة في السر ، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة ، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه.
وكان من تواضعه (ع) أنه دخل الحمام فقال له بعض الناس : دلكني فجعل يدلكه ، فإذا بالناس يدعون الرجل يعرّفونه بالإمام ، وإذا الرجل جعل يستعذر منه ولكنه يطيب قلبه ويستمر في تدليكه  .
ويروي رجل من أهل بلخ رافق الإمام في سفره إلى خراسان ويقول : دعا يوماً بمائدة له فجمع مواليه من السودان وغيرهم ، فقلت : جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة ، فقال : مه إن الرب تبارك وتعالى واحد والأم واحدة والأب واحد ، والجزاء بالأعمال  .
وكان يكره لغلمانه أن يقوموا له احتراماً عندما يكونون على الطعام ويقول : " إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون ، فلا تقوموا حتى تفرغوا "  .
وكان عظيم الحلم والعفو ، ويذكر من حلمه أن قائداً من أتباع بني العباس يسمى بـ ) الجلودي ) أمره هارون الرشيد بأن يذهب إلى المدينة ويسلب نساء آل أبي طالب ، ولا يدع على كل واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً ، ففعل الرجل ، مما أثار سخطاً عظيماً عند الإمام الرضا (ع) ، ولكن بعد أن عهد إلى الإمام الرضا بولاية العهد عارض ذلك الجلودي ونقم من بيعة الإمام فغضب عليه المأمون ، وأخرجه يوماً ليقتله من بعد أن قتل اثنين قبله فلما تمثل أمامه شفع له الإمام الرضا عند المأمون وقال : " يا أمير المؤمنين هب لي هذا الشيخ " .
فظن الجلودي أنه يعين عليه ، فأقسم على المأمون ألا يقبل قوله . فقال المامون والله لا أقبل قوله فيك ، وأمر بضرب عنقه  .
وكان سخياً كريماً . وكان من آدابه في الصدقات أنه إذا جلس للأكل أتى بصفحة فتواضع قرب مائدته ، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئاً فيوضع في تلك الصفحة ، ثم يأمر بها للمساكين ثم يتلو هذه الآية : ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴾ .ثم يقول :
"
علم الله عز وجل أن ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل الجنة ( عبر الإطعام)" .
وفرّق بخراسان ماله كله في يوم عرفة ، فقال له الفضل بن سهل : إن هذا لمغرم ، فقال (ع) : " بل هو المغنم ، ولا تعدن مغرماً ما اتبعت به أجراً وكرماً ".
وكان إذا أعطى أحداً سعى ألا يذهب بهاءه ولا يراق ماء وجهه ، والقصة التالية تعلمنا كيف نجعل صدقاتنا خالصة لوجه الله لا منّة فيها ولا استعلاء .
يروي اليسع بن حمزة ويقول : كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا (ع) أحدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام ، إذ دخل عليه رجل طوالٌ أدم ، فقال له : السلام عليك يا ابن رسول الله ، رجل من محبيك ومحبي أبائك وأجدادك (ع) مصدري من الحج ، وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلةً ، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله علي نعمة ، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك ، فلست موضع صدقة فقال له : إجلس رحمك الله ، وأقبل على الناس يحدثهم حتى تفرقوا ، وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا ، فقال : تأذنون لي في الدخول ؟ فقال له : يا سليمان قدم الله أمرك ، فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد الباب ، وأخرج يده من أعلى الباب وقال : أين الخراساني ؟ فقال : ها أنا ذا فقال : خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تصدق بها عني ، وأخرج فلا أراك ولا تراني .ثم خرج فقال سليمان : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت ، فلماذا سترت وجهك عنه ؟ فقال :" مخافة أن أرى ذلك السؤال في وجهه لقضائي حاجته ،أما سمعت حديث رسول الله )ص) : "المستتر بالحسنة ، تعدل سبعين حجة ، والمذيع بالسيئة مخذول والمستتر بها مغفور له " أما سمعت قول الأول :متى آته يوماً لأطلب حاجة ، رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه "  .
وقد أعطى أبا نواس ثلاثمائة درهم لم يكن عنده سواها ، وقدّم إليه بغلته التي كان يمتطيها ، وحينما أعطى دعبل الخزاعي ستمائة دينار اعتذر إليه .وكان كثير الصدقة في السر ، وأكثرها كان في الليالي المظلمة .
وكان (ع) مكتمل الجسم عظيم الهيبة . وكأيِّن من ذي حاجة دخل عليه ليطلبها منه فشغله جلاله وهيبته عنها فبادره الإمام بقضائها ، وسنذكر جانباً من ذلك عن بيان علمه .

هكذا أفاض الإمام علمه

أربعة من أئمة الهدى تسنى لهم نشر معارف الإسلام في الآفاق . أولهم الإمام أمير المؤمنين وآخرهم الإمام الرضا والصادقان محمد بن علي وجعفر بن محمد ( عليهم جميعاً صلوات الله) .وبالرغم من أن جميع أئمة الهدى نشروا العلم ، إلاّ أن الظروف ساعدت هؤلاء الأربعة على ذلك أكثر من الآخرين .
و نشير هنا إلى آفاق العلم التي تناولتها أحاديث الإمام الرضا (ع) ونقل عن اليقطيني أنه قال : لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا جمعت من مسائله مما سئل عنه وأجاب عنه خمس عشرة ألف مسألة " .
ولقد قال الإمام مرة :" كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون ، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة أشاروا إلي بأجمعهم وبعثوا إلي بالمسائل فأجيب عنها ".

وقد بدأ بالفتيا في مسجد الرسول ، وعمره الشريف نيف وعشرون عاماً .
ولنعرف دور الإمام الرضا في هذا الحقل لابد أن نعود قليلاً إلى الوراء ، لنعرف أن الحزب العباسي الذي تسلط على رقاب المسلمين بعد الفراغ السياسي الذي أحدثه غياب السلطة الأموية قد وجد نفسه أمام تيارات سياسية معارضة ، تعتمد على الفكر ، وتتسلح بالنظريات الثقافية ، وفي طليعتها التيار العلوي الذي كان يقود المعارضة السياسية إلى جنب قيادة الساحة الفكرية ، والحزب العباسي الذي كان يعيش خواءً نظرياً قاتلاً لم يجد حيلةً إلاّ البحث عن مصادر خارجية للثقافة ، فشجع حركة الترجمة وتوجه إلى الكتب الفلسفية قبل الكتب العلمية ، وبنشاط هذه الحركة حدث في الأمة اضطراب فكري وتوتر ثقافي مما أضحى يهدد وحدة الأمة .وكانت عوامل شتى تساهم في هذا الخطر :

اولاً : انشغال المفكرين بالقضايا السياسية .
ثانياً : ازدياد الإضطراب السياسي ، والحروب الداخلية التي تجر بطبيعتها الأمة إلى المزيد من التوتر الفكري .
ثالثاً :‏ وجود تيارات غريبة عن الأمة كان هدفها إفساد ثقافة المجتمع ومحاربة الإسلام باسم الإسلام ، والتي كانت تغذيها حركات سياسية متصلة بالكفار .
وفي عهد المأمون العباسي بلغ الإضطراب الفكري قمته مما دفع الإمام الرضا (ع) بالتصدي لها . وقد ساعده في ذلك انتقاله إلى حاضرة البلاد الإسلامية ، وقبوله لولاية العهد مما جعله في قلب الصراعات الفكرية .وهكذا كثرت حواراته مع سائر الملل والمذاهب ، مما حدى بعلمائنا الكرام إفراد كتب حول ما روي عنه (ع) ، مثل ما فعل الصدوق ( رحمه الله ) في كتابه عيون أخبار الرضا .
وحينما نتدبر في كلمات الإمام الرضا وحججه التي ألقاها على خصوم الإسلام أو مخالفي المذهب نراها تتسم بمنهجية علمية عميقة . مما يدل على مستوى الثقافة في عصره لأن الأئمة ـ كالأنبياء ( عليهم جميعاً صلوات الله ) ـ إنما يكلمون الناس على قدر عقولهم ، وبمستوى أفكارهم .
كذلك نستوحي من التأمل في كلماته أنها كانت تصد تشكيكات يبثها الأعداء حول الإسلام وبالذات حول عقلانية أحكامه ، من هنا كثرحديثه عن علل الشرائع ، والحكم التي وراء أحكام الدين . كما أن طائفة من كلماته المضيئة تعالج الشؤون الحياتية مثل رسالته الطبية المعروفة بطب الرضا (ع) .
ومما يميز حياة الإمام الرضا (ع) العلمية أن كلماته كانت تلقى قبولاً في كافة الأوساط الإسلامية ، ولعل ورود مدينة نيسابور التي كانت من الحواضر العلمية في العالم الإسلامي أظهرت مدى اهتمام علماء الإسلام بأحاديث الإمام ، دعنا نستمع إلى هذه القصة الطريفة:" لما دخل إلى نيسابور في السفرة التي فاض فيها بفضيلة الشهادة ، كان في مهد على بغلة شهباء عليها مركب من فضة خالصة ، فعرض له في السوق الإمامان الحافظان للأحاديث النبوية أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي رحمهما الله فقالا : أيها السيد ابن السادة ، أيها الإمام وابن الأئمة أيها السلالة الطاهرة الرضية ، أيها الخلاصة الزاكية النبوية بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلاّ أريتنا وجهك المبارك الميمون ، ورويت لنا حديثاً عن آبائك عن جدك ، نَذْكُرك به .فاستوقف البغلة ، ورفع المظلة ، وأقر عيون المسلمين بطلعته المباركة الميمونة ، فكانت ذؤابتاه كذؤابتي رسول الله (ص) فقال (ع) ": حدثني أبي موسى بن جعفر الكاظم ، قال : حدثني أبي جعفر بن محمد الصادق قال : حدثني أبي محمد بن علي الباقر ، قال : حدثني أبي علي بن الحسين زين العابدين ، قال : حدثني أبي الحسين بن علي شهيد أرض كربلاء ، قال : حدثني أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شهيد أرض الكوفة ، قال : حدثني أخي وابن عمي محمد رسول الله (ص) قال : حدثني جبرائيل (ع) قال : سمعت رب العزة سبحانه وتعالى يقول : " كلمة لا إله إلاّ الله حصني فمن قالها دخل حصني ، ومن دخل حصني أمن من عذابي. " صدق الله سبحانه وصدق جبرائيل (ع) وصدق رسول الله والأئمة عليهم السلام .

المصدر : مركز الإشعاع الإسلامي

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

السبت 18 نوفمبر 2017 - 09:26 بتوقيت مكة