الشيخ إدريس العكراوي
في ذكرى رحيل سيّد الخلق أجمعين وأشرف الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبدالله (ص) نرفع أسمى آيات الحزن والعزاء إلى مقام وليّ الله الأعظم الحجّة المهدي (ع)، وإلى مقام الفقهاء العظام وعلماء الدين الكرام وجميع الأمّة الإسلاميّة، ونودّ أن نتأمّل - في هذه المناسبة - في الدور الذي قام به رسول الله (ص) في سبيل هداية هذه الأمّة والذي عبّرت عنه السيّدة الجليلة فاطمة الزهراء (ع) - في خطبتها الشهيرة التي ألقتها في المسجد النبويّ بعد وفاة أبيها (ص) مخاطبة فيها جميع المسلمين - بقولها: "وكنتم على شفا حفرة من النار، مُذقة الشارب، ونُهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القِدَّ والورق، أذلّة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم النّاس من حولكم فأنقذكم الله تعالى بمحمّد (ص) بعد اللتيّا والتي، وبعد أن مُنِي ببُهم الرجال وذؤبان العرب ومَرَدة أهل الكتاب"[1]، حيث بيّنت (ع) فيها مكانة الأمّة قبل أن يصدع رسول الله (ص) فيها بالأمر، إذ كانت [على شفا حفرة من النار] وشفا الحفرة هو جانبها المشرف عليها، وبتعبيرنا: (حافّة الحفرة)، وكانت الأمّة على شفا حفرة من النار بسبب كفرها بالله تعالى واختلال النظام وانتشار الفوضى، [مُذقة الشّارب] والمُذقة - بضمّ الميم - هي الشربة من اللَّبن الممزوج بالماء، [ونُهزة الطامع] والنُهزة - بضمّ النون - هي الفرصة، [وقبسة العجلان] والقبسة هي الشعلة من النار، والعجلان من العجلة، والمراد بها هو الشخص العاجل - وبتعبيرنا: المُسْتَعْجِل -، والمراد أنّها كانت أمّة فاسدة ومفسدة، لا يحكمها قانون سماويّ ولا إنساني، رجالها تستعبد نساءها، وأغنياؤها تستعبد فقراءها، وأقوياؤها تستعبد ضعفاءها... وهكذا، ممّا أدّى إلى ضعفهم جميعاً فكانوا كالشربة المغشوشة بالنسبة لمَن يطمع فيهم، وكالفرصة لمَن يغتنم فيهم الفرصة، ومحلاًّ لاستغلال الآخرين مقدّراتهم فهم كالشعلة التي يستغلّها الرجل المسرع في طريقه المظلم ليقضي بها حاجته في الخلاص من الظلام ثمّ يرميها أو يهملها إلى وقت حاجته، وبذلك كانوا أذلاّء؛ لأنّهم كانوا تحت وطأة قدم المستكبر والطامع والمستغِل؛ ولأنّهم استسلموا لجبروت هؤلاء استشعروا المذلّة والمهانة في نفوسهم فقبلوا بها وخضعوا لها، ولذلّتهم ومهانتهم كانوا يشربون الطَرْق - وهو الماء الذي يتجمّع في المستنقعات والحفائر التي تدخلها الحيوانات وتبول فيها الإبل - وهو ماء قذر مستقذر، تمجُّه النفوس السليمة، وتأباه الطباع الكريمة، وكانوا يأكلون القِدَّ - وهو اللحم المجفّف بواسطة الشمس، وقيل: الجلد اليابس - وأوراق الأشجار، فكانوا [أذلّة خاسئين] والذليل هو المستضعف المهان، والخاسئ هو المنبوذ المطرود الذي لا يطمع أحد في الاقتراب منه لحقارته عنده، فهم أذلّة لضعفهم، وخاسئين؛ لأنّهم منبوذين من غيرهم، يعيشون بعيداً عن الناس وحضاراتهم وكأنّهم مطرودين من قِبَلهم، ولأنّهم كانوا كذلك كانوا يعيشون الخوف من الداخل والخارج، فالفقير يخاف الغني، والضعيف يخاف القويّ، والمرأة تخاف الرجل، ومن الخارج يخافون أن يتخطّفهم النّاس من حولهم حتى شاء الله تعالى أن ينقذهم ممّا هم فيه، فأنقذهم بمحمّد (ص) الذي أخرجهم من الجحيم إلى النعيم، ومن الشرّ إلى الخير، ومن العصيان إلى الطاعة، ومن الضعف إلى القوّة، فكانوا خير أمّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله تعالى، ويسودهم الحبّ والودّ، فهم سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد منهم على الآخر لا بمال ولا بجاه ولا بقوّة، وهكذا لا فضل لأبيضهم على أسودهم، ولا لحرّهم على عبدهم إلاّ بالتقوى، فالتقوى - التي كانوا يملكون كلّ شيء في السابق إلاّ هي - أصبحت هي ميزان التفاضل بينهم ومضمار السباق لديهم، قال تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وقال رسول الله (ص): "لا فضل للعربي على الأعجميّ، ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى"[2].
وقد بذل الرسول (ص) جهوداً عظيمة، وقاسى آلاماً عديدة في سبيل هدايتهم: من استهزائهم به، وسخريتهم منه، ونسبة الأباطيل إليه، واتهامهم إيّاه بالسحر والشعر والجنون، ووضع الأشواك في طريقه، واشعال النار على باب بيته، وضربه بالحجارة، وقذف قاذورات الشياه على ظهره ورأسه أثناء صلاته، وتحذير الوافدين إلى مكّة منه، وتكذيبه أمامهم وغير ذلك، أضف إلى ذلك معاناته في أصحابه من تعذيبهم وتقتيلهم وتجويعهم وتشريدهم وغير ذلك، وقد اختصرت السيّدة الزهراء (ع) معاناة أبيها قبل الهجرة إلى المدينة بقولها: [بعد اللتيّا والتي] وهو مثل يضرب في بيان الجهد والتعب في حصول المطلوب، فهي تريد أن تقول لهم: لقد تعب أبي كثيراً في سبيل هدايتكم، ثمّ أشارت إلى بعض جهوده (ص) وأتعابه بعد الهجرة إلى المدينة وتأسيس دولته الفتيّة بقولها: [وبعد أن مُنِيَ بِبُهَمِ الرجال] أي بعد أن ابتلي بالرجال الأقوياء، والأبطال الأشدّاء الذين لا يهتدون السبيل، ولا يعرفون الطريق الصحيح، ولا يهتدون إلى خير، [وذؤبان العرب] وهم الذين انسلخوا عن انسانيّتهم وتجرّدوا منها فنسوا القيم الإنسانيّة والأخلاق الفطريّة ونزلوا إلى مستوى الذئاب الشرسة التي تأنس بسفك الدماء وقتل الأبرياء، فأقلّ ما يُقال فيهم أنّهم ذئاب بشريّة؛ لأنّهم كالذئاب يأنسون بالمذابح التي يقومون بها، وترتاح نفوسهم للمجازر التي يحدثونها، وهم دائماً متعطّشون إلى دماء الأبرياء، وقيل: أنّ المراد بـ (الذؤبان) هنا هم اللّصوص والصعاليك أي السفلة من النّاس السّاقطين، [ومردة أهل الكتاب] والمردة جمع (مارد) وهو (العاتي)، والعاتي هو المستكبر الذي يتجاوز حدوده، فيوغل في الفساد ولا يقبل موعظة من أحد، فهؤلاء جميعاً كانوا يعملون على إشعال الحروب في وجه رسول الله (ص)، وكان (ص) يذبّ عن المسلمين ودولتهم بجهوده الكبيرة وقيمه الرفيعة وأخلاقه العالية حتى انتصرت كلمة (الله أكبر) وانتشرت في جميع بقاع الأرض، فكلّ ما نحن فيه من الخير والسعادة يعود الفضل فيه - بعد الله تعالى - إلى رسول الله (ص) وجهوده.
فمَن عرف الرسول (ص) أحبّه بقدر معرفته به، ومَن أحبّه اتبّعه بقدر حبّه له، ولاشكّ أنّ مَن عرف الرسول (ص) وأحبّه قد افتجع بمصيبته ورزيّته بقدر معرفته به وحبّه له، ولذلك كانت المصيبة أشدّ ما تكون على (عليّ) و (فاطمة)و (الحسن) و (الحسين) عليهم السّلام، الذين عرفوا الرسول (ص) وخبروه، وقد عبّر عليّ أمير المؤمنين (ع) عن لوعته بفقد رسول الله (ص) بقوله: [بأبي أنت وأمّي يا رسول الله] وهذه الكلمة عنوان للتفجّع والألم حيث يفتدي الإنسان فيها مندوبه بأقرب النّاس إليه وأحبّهم عنده وهما أبوه وأمّه، ولا ضير أنّه (ص) كان أقرب إلى عليّ (ع) من أبيه وأمّه بل وينبغي أن يكون (ص) أقرب إلى كلّ مؤمن من نفسه لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}) الأحزاب: 6)، إلاّ أنّ هذه الكلمة أصبحت عنواناً للتفجّع وإن قيلت لرسول الله (ص)، وهو بها أولى من غيره، [لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والإنباء وأخبار السماء] فمصيبة عليّ (ع) - وهو الذي خبر الرسول (ص) وما يمثّله - في موت النبي (ص) مضاعفة، فهو كما يبكي عليه يبكي على انقطاع الوحي بعده، فالنبي (ص) هو خاتم الأنبياء وبموته تنقطع النبوّة؛ إذ لا نبي بعده، وينقطع الإنباء أي الإخبار والمراد به الوحي؛ إذ لا وحي إلاّ مع نبوّة، فإذا انقطعت النبوّة انقطع الوحي، وبالتالي تنقطع أخبار السماء، فوفاة النبي (ص) عند عليّ (ع) لا تمثّل غياب جسده الشريف (ص) عن عينه فقط وإن كان غيابه عظيماً بل تمثّل غياب الوحي أيضاً، فوفاته (ص) وفاة للنبوّة، وفاة للوحي، ثمّ يصف الأميرُ (ع) النبيَّ (ص) بقوله: [خَصَّصْتَ حتى صِرت مُسلِّياً عمَّن سواك] والمعنى أنّ الله تعالى أعطاك من الخصائص والميزات ما لم يعطها لأحد غيرك فكنت أشرف خلقه وأفضلهم وأحبّهم إليه، ليس لك منافس ينافسك، ولا قرين يعادلك فكانت مصيبتك أرقى مصيبه فلا تعادلها مصيبه مهما ارتقت وعظمت؛ لأنّ عظم المصيبة من عظمة صاحبها ولا أعظم منك، وبذلك كنت السلوى لغيرك، فبعدك لن نكترث لأيّ مصيبة تصيبنا مهما عظمت؛ لأنّها لا يمكن أن تصل إلى مستوى مصيبتك، [وعَمَّمْتَ حتى صار الناس فيك سَواء] بمعنى أنّك عممت النّاس وشملتهم برحمتك وخلقك ومزاياك دون أن تفرّق بينهم فهم عندك سواء حتى شعر كلّ واحد منهم بامتدادك في أعماقه فعمّت مصيبتك عليهم، ثمّ قال (ع):[ولولا أنّك أمرتَ بالصبر ونهيتَ عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون]، والشؤون هي عروق الدموع من الرأس إلى العين، والمعنى: لولا أنّك أمرتنا بالصبر على المصيبة، ونهيتنا عن الجزع - والجزع نقيض الصبر، وهو انقطاع قوّة القلب عن حمل ما نزل - لبكينا عليك حتى تنفد دموعنا، [ولكان الداء مماطلاً] أي ولكان جرحنا بك بطييء الشفاء، [والكمد محالفاً] والكمد هو الحزن الشديد ومحالفاً يعني ملازماً ومصاحباً، والمعنى أنّ حزننا الشديد عليك سيبقى ملازماً لنا دون فراق، [وقلاّ لك] أي وكان ذلك قليلاً في حقّك، [ولكنّه ما لا يُملك ردّه، ولا يُستطاع دفعه] وهو قضاء الله تعالى المحتوم الذي لا يمكن ردّه ولا يستطاع دفعه، والمعنى أنّ هذه هي إرادة الله تعالى فلا اعتراض على إرادته ومشيئته، ثمّ قال (ع):[بأبي أنت وأمّي اذكرنا عند ربّك، واجعلنا من بالك][3]، والسلام عليك يا رسول الله، حيّاً وميّتاً ورحمة الله وبركاته.. والحمد لله ربّ العالمين .
[1] فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللّحد، للقزويني: ص276.
[2] مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، للطبرسي: ج12، كتاب الجهاد، (75- باب كراهة الافتخار)، ح [13598/6]، ص89.
[3] شرح نهج البلاغة، للمعتزلي: م7، ج13، 230- ومن كلام له (ع) قاله وهو يلي غسل رسول الله (ص) وتجهيزه، ص18.