السيد زكي الموسوي
عندما يدقق الانسان في الصفات الحسنة التي يمتلكها ذلك الرسول العظيم يجد أنه اعظم شخص في آخر سلالة متصلة بالسماء، وهو يعيش في ذاته روح الإنسانية بسماتها الحميدة، واخلاقها الفاضلة، وبنهجه القرآني في التعامل مع امته، كفرد من تلك الأمة المتولدة في تلك البقعة من الأرض، فيأكل مما يأكلون، ويلبس مما يلبسون، ولم ير في نفسه يوما ما انه خارج عن هذا الكيان الإنساني المركب من المادة الترابية والروح الإلهية، رغم ما منحه القرآن من خصوصيات ومميزات عالية، فقال تعالى: {وانك لعلى خلق عظيم} القلم: 4.
وهي شهادة من الله العلي الاعلى برسوله الحبيب محمد (صلى الله عليه وآله)، ومدلول الخُلق العظيم عند الله لا يدرك مداه احد من العالمين، وهو ثناء تتجاوب ارجاء الوجود به. ولا يمكن لأحد ان يجعل لها مقياسا في تحديد مفهوم خُلق الرسول (صلى الله عليه وآله)، وان الروية في اخلاقه السّير على لسان اصحابه، إلا ان الكلمة القرآنية الصادرة عن الله العلي المتعال تبقى لها الثقل القيمي بدلالتها من كلّ شيء آخر.
لا اكراه في الدين
ان صاحب هذه الرسالة الذي يوصف من قبل الحقّ تعالى بهذه الصفات، رسالته تكون ذات بُعد انساني واخلاقي، تقوم على اساس الموعظة والحكمة والدليل، فلم يكن هناك اكراه لتقبل هذا الدين بعد ان تبين الرشد من الغي. واعتبار التسامح والرحمة والعفو من مداليل قوة الرسالة الإسلامية، وقوة الرسول (صلى الله عليه وآله) في التعاطي مع بعض القضايا التي تحتاج الى اتخاذ بعض القرارات الحاسمة والمنسجمة مع هوية الرسالة الإسلامية، قال تعالى: {ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}. فصلت: 34.
القرارات التي اتخذها الرسول (صلى الله عليه وآله) في فتح مكة كانت منسجمة مع قوله تعالى: {فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميد، وبهذا الاسلوب القرآني العظيم ابطل جميع مخططات قريش لاستنهاض ابنائها ضد الرسالة الإسلامية، لأن دخول الجيش الفاتح الى مكة يقتضي سفك الدماء وأخذ الثأر من الكفار والمشركين والمنافقين، وفي هذا المضمار رُفِع شعار من قبل بعض المغرضين (اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشا)، إلا ان روح التسامح والعفو عند المقدرة من سمات شخصية الرسول (صلى الله عليه وآله) غيّر بوصلة القوم من اعداء الى اصدقاء بعد ان استبدل الشعار الانتقامي بشعار آخر يحمل فيه روح الإسلام والمحبة، ويفيض منه الاحسان والكرم، هو (اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله قريشا). بحار الانوار: ج21 ص109.
لقد احدث هذا الموقف النبوي عاصفة في ارض مشركي مكة حتى انه على حد وصف القرآن الكريم، بدأوا يدخلون الى الإسلام افواجا. {يدخلون في دين الله افواجا} النصر: 2.
هذا الاسلوب الذي اتخذه الرسول مع مشركي قريش في فتح مكة وضعت له دراسة من قبل علماء النفس: باعتبار لكل فعل ردة فعل، وبناء على هذا، فان كل من يقوم بالسيئة ينتظر الرد بالمثل، خاصة الاشخاص الذين هم من هذا النمط، واحيانا يكون جواب السيئة الواحدة عدّة سيئات.
اما عندما يرى المسييء ان من اساء اليه لا يرد السيئة بالسيئة وحسب، وانما يقابلها بالحسنة، وهذا هو القانون القرآني الذي سار عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) والقادة من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في تعاملهم مع المسيئين اليهم.
وهذا الاسلوب اللطيف سيحدث تغييرا في وجود الشخص، وفي تفكيره، وستحدث ثورة في اعماقه، وسيخجل ويحس بالحقارة وينظر بعين التقدير والاكبار الى من اساء اليه. وهنا ستزول الاحقاد والعدوات من الداخل وتترك في مكانها للحب والمودة. كأنه ولي حميم.
غلاظة القلب لا تحقق شيئا
من المزايا الاخلاقية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) التي كانت يسطع بها بإنسانيته ونهجه القرآني الا وهي اللين مع الناس، والرحمة بهم، وخلوه من الفظاظة والخشونة. فلم يكن خشنا في كلامه، ولا في سلوكه العملية.
ومن هذا النهج القرآني المحمدي تربى عليه اجيال من الصحابة الذين اخلصوا للرسالة الإسلامية ولقائدها. {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وبه ينتصر الانسان على نفسه في احلك الاوضاع، وعندما تصاب الامة بالهزيمة والانكسار فتبرز الروح الانسانية في ذلك القائد، فيجمع بين تحمل ذلك الانكسار والهزيمة، وبين التعامل مع قومه المنكسرين والمهزومين الذين كانوا هم السبب في الانكسار والهزيمة، بالعفو والرحمة واللين، وفي خلاف ذلك يكون الموقف اصعب واشد، لأن هناك قتلى وجرحى بين صفوفهم، وعدم سعة روح القائد لهم، يعني انفضاضهم من حوله وتفرقهم عنه، فلا يمكنه القيام بمهام القيادة، ومسؤولياتها الجسيمة، ولهذا قال الإمام علي (عليه السلام) مشيرا الى هذه الخصلة القيادية الحساسة(آلة الرياسة سعة الصدر) نهج البلاغة: الكلمات القصار: الكلمة 176
النبي (صلى الله عليه وآله) قطعة من روح الناس
هذه العبارة تمثل حقيقة قوله تعالى: { لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} التوبة: 128.
اذ ان الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يعيش آلام قومه، ويطلع على مشاكلهم، فهو الشريك في جميع الهموم فلا يتصور صدور كلام او فعل منه يؤذيهم، بل ما يصدر منه هو في مصلحتهم ولا يقوم بأي عمل أو يخطو خطوة إلا في سبيلهم. فهو يفرح لفرح الناس ويتألم لألمهم، وحريص على هدايتهم.
ولذا لم يقل تعالى:{منكم} ومع كل هذا هناك من العرب من كان قاسيا في تعامله مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).فقد جاء في كتاب (في ظلال القرآن): (ذات يوم جاء اعرابي لعند الرسول وشده ببرده بقسوة حتى أثرت حاشية البرد في عاتقه، وقال: يا محمد احمل ليّ على بعيري هذين من مال الله، فإنك لا تعطيني من مالك! ولا من مال أبيك! فلم يرد الرسول. ثم قال الرسول: المال مال الله وأعيده، ويقاد منك ما فعلت، قال الاعرابي: لا، قال النبي: ولِمَ؟
قال: لأنك لا تكافئ السيئة بالسيئة، فضحك الرسول، وأمر ان يحمل له على بعير شعير وعلى الاخر تمر). في ظلال القرآن: م3ج11ص1743
الرسول (صلى الله عليه وآله) ومكافحة الطبقية
امتاز الرسول (صلى الله عليه وآله) بإنسانيته العالية وسماته القرآنية في التعامل مع طبقات المجتمع الإسلامي على حد سواء من غير تميز او تفاوت طبقي، إلا ان اعراب قريش لم يرتضوا ذلك وطلبوا منه ان لا يجالس الفقراء اذا كانوا هم معه.
فقالوا: انا نحب ان تجعل لنا منك مجلسا، تعرف لنا العرب به فضلنا، فان وفود العرب ستأتيك، فنستحي ان ترانا العرب قعودا مع هؤلاء الأعبد، فاذا نحن جئناك، فأقمهم عنا، فاذا نحن فرغنا فلتقعد معهم اذا شئت. لأنهم كانوا يرون في جلوسهم منقصة لهم مع ان رسالة الرسول، جاءت لترفع تلك الحواجز الطبقية وتقضي على تلك الامتيازات الكاذبة والجوفاء.
قال تعالى:{ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه} الانعام: 52
جاء في تفسير الدر المنثور: عن عبد الله بن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش على النبي (صلى الله عليه وآله) وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فتعجبوا من ذلك، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟! أنحن نكون لكم تبعا لهؤلاء، أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم ان نتبعك. (لأنهم كانوا يحسبون ان شخصية المرء مرهونة بالثروة والجاه والمقام، ولم يستطيعوا ادراك المنزلة المعنوية لهؤلاء الاشخاص، ولا ما سيكون لهم من دور بناء في ايجاد المجتمع الإسلامي الإنساني الكبير). تفسير الميزان ج7ص109
وفي تفسير الدر المنثور: ان عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة والحارث بن عامر بن نوفل، وغيرهم، قالوا لأبي طالب: لو ان ابن اخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد، فإنهم عبيدنا وعسفاؤنا، كان اعظم له في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا اياه وتصديقه.
فذكر ذلك ابو طالب للنبي(صلى الله عليه وآله)، وكان عمر بن الخطاب حاضرا، واقترح على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ان يقبل عرض هؤلاء الملأ من قريش، ليتبين مدى صدق قولهم؟
فنزلت الآيتان في رفض اقتراحه، {وانذر به الذين يخافون ان يحشروا الى ربهم ـ الى قوله ـ أليس الله بأعلم بالشاكرين} الانعام: 51 و52. المصدر السابق. ان واحدة من دلالة عظمة الرسول، وشخصيته الانسانية الرافضة للطبقية تعلن:
ان الفقر ليس نقصا في اشخاص مثل ابي ذر، وسلمان، والخباب وبلال، كما ان الثروة ليست امتيازا اجتماعيا، او معنويا لهؤلاء الاثرياء.
الرحمة قيمة اخلاقية
الرحمة من القيم الانسانية، وهي قيمة اخلاقية محورية في الاسلام، قال تعالى: {وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين}، إلا ان المسلمين اليوم تبنّيهم لهذه القيمة ضعيفا جدا سواء من الناحية النظرية ام من الناحية العملية.
ولذا تبناها الفكر الغربي ـ عندما وجد المسلمون قد ابتعدوا عن هذه القيمة الإنسانية، والإلهية التي من اجلها بعث الرسول(صلى الله عليه وآله) الى العالم ـ وجعلها قيمة نظرية وعملية، فالقوى العظمى ترفع شعار (الرحمة)، والدفاع عن حقوق الإنسان بجميع اصنافه من المرأة والطفل والسجين و...، وهي في الحقيقة بعيدة عن الرحمة، لأنها تتعامل معها ضمن مصالحها، واهدافها السياسية، والشواهد كثيرة على ذلك في ازدواجية القوى العظمى في تبني هذا الشعار. وابتعاد المسلمين عن ذلك، او ضعف التعامل فيما بينهم اضعف شخص الرسول (صلى الله عليه وآله) ورسالته حتى اظهرت المسيحية،على انها سيدة شعار الرحمة، وكادت تكسح العالم بهذا الشعار :ان المسيح (عليه السلام) رحمة، و انه (عليه السلام) افتدانا من لعنة الناموس، و (انه تحمل جميع الآلام للتكفير عن خطايا البشر. مع ان النصوص الاسلامية مليئة بهذا المفهوم، وان الرسول (صلى الله عليه وآله)، قد عبر عن نفسه :"انما انا رحمة مهداة." بحار الانوار ج16ص115.
السؤال: فماهي وظيفتنا اتجاه هذا الرسول، وهذا الدين، وهو دين الرحمة؟
الكاتب: السيد زكي الموسوي