الشيخ محمد قانصوه
تنوعت الآراء والإجتهادات وتباينت المواقف والأحكام حول مفهوم الستر ومدلوله في الإسلام، والغاية المرجوة من تشريعه وإيجابه على المرأة، ولكن قبل الدخول في مناقشة هذه الآراء لا بد من الإشارة إلى أن المقصود بالستر في حديثنا هو عينه ما يطلق عليه تسامحاً بالحجاب، وإن كان استخدام كلمة الحجاب بمعنى ستر المرأة استخداما جديدا نسبيا ، فقديما وعلى الخصوص في مصطلح الفقهاء تستخدم كلمة الستر بدلا من الحجاب، كما أن الأيات القرآنية في سورة النور أو سورة الأحزاب ذكرت حدود ستر المرأة وطبيعة تعاملها مع الرجال الأجانب ، دون أن تستخدم كلمة ( الحجاب ) ، نعم هناك آية في القرآن الكريم استخدمت كلمة الحجاب وهي خاصة في نساء النبي (ص) باعتبار أن لنساء النبي أحكاما خاصة لا تشمل غيرهن من النساء بدليل قوله تعالى :" يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ".
إن استخدام كلمة الستر بدل كلمة الحجاب هو الأنسب و الأصرح دلالة ، لغة واصطلاحا على مراد الإسلام من حماية المرأة والحفاظ على جلالها وجمالها ، ولئن استعمل لفظ الحجاب بدل الستر من قبل الكثيرين من العلماء والعامة فإن ذلك لا يصرف عن المعنى الحقيقي لمفهوم الستر الذي أراده الإسلام ، ولعل بعض المعترضين أو الرافضين لثقافة الستر توقفوا عند لفظة الحجاب ليستدلوا بها لغة على الحجب والتغييب ومن ثم يتهموا الإسلام بأنه ظلم المرأة وحكم عليها بالسجن والتغييب في بيتها ، وجعل منها كائنا مهمشا لا قيمة ولا كرامة إنسانية له .
إن الإدعاء بأن الإسلام حين شرع الستر للمرأة فقد ظلمها وغيبها عن مسرح الوجود والحياة الإجتماعية هو محض افتراء وإدعاء باطل تكشف زيفه الآيات القرآنية الكريمة التي تخاطب الرجل والمرأة على حد سواء، وتساوي بينهما في كثير من الحقوق والواجبات وتراعي الفروقات والاحتياجات الطبيعية في بعض منها ، كذلك فإن السنة النبوية والسيرة العملية للرسول الأكرم (ص) خير شاهد ودليل على إنصاف المرأة والإعتراف بكيانها في الإسلام ، كما أن من يتتبع حال المرأة وحركتها في صدر الدعوة الإسلامية يكتشف بلا شك أن المرأة كانت حاضرة في كل الميادين الإجتماعية حتى وصل بها الأمر إلى أن تكون إلى جانب الرجل في المعارك والحروب .
وحاضر المرأة المسلمة يشهد بأن الستر الذي افترضه الإسلام عليها - واعتبره المخالفون للإسلام تغييباً وتجهيلاً وتخلفا ورجعية - لم يكن ليشكل حاجزا لها لإثبات حضورها في هذا العصر في كافة الميادين ولم يكن ليحل بينها وبين ممارسة دورها كإنسانة فاعلة في المجتمع ، لذا فإننا نرى المسلمة اليوم حاضرة وبقوة في المجتمعات الإسلامية وغيرها ، ونرى بصماتها في كل الاتجاهات التي تستطيع من خلالها أن تكون شريكة للرجل في بناء المجتمع الراقي والمنتج .
إن وجود المرأة المربية والحقوقية والطبيبة والمعلمة وو .. لهو دليل على أن الإسلام ليس تخلفا ورجعية كما يتهمه البعض ، بل أن دعوة الرجعية ترتد على أولئك أنفسهم لأنهم يريدون من خلال ثقافتهم المنحلة العودة بالمرأة إلى الزمن الذي كانت تباع فيه وتشترى، وكانت بجلها وكلها متعة للرجال لا قيمة لها سوى فيما تملكه من جمال جسمي يجذب نحوها الرجال الطامحون الذي يسترخصون لحمها العاري بأبخس الأثمان ، إن الإسلام من خلال تشريعه للستر يحفظ للمرأة كرامتها وينظر إليها كأنسانة تمتاز بأنوثتها التي يلفها الحياء ويسورها العفاف ، بحيث تكون بعيدة المنال عن أعين وأيدي اللاهثين وراء غرائزهم وإشباع شهواتهم ، ويريد الإسلام للمرأة أن تحفظ جمالها الجسمي لأنه نعمة الله عليها، وأن تصون هذا الجمال ليكون أمانة عند من يستحقه ويكرمه ويحافظ عليه وعلى كيانية وأنوثة وكرامة صاحبته .
إن الذين يتحدثون اليوم عن حرية المرأة ويتحمسون لحقوقها يسيئون إليها في آن معا ، وذلك عندما تتحول المطالبة بحقوق المرأة إلى دعوة للتمرد على مفهوم الستر ، والإنقلاب على القيم والأعراف التي ترتفع بالمرأة وتحفظ لها أنوثتها ، إن هؤلاء الذين يغلبون منطق الجنسنة على منطق الإنسنة ويوحون إلى المرأة بمكرهم وإعلامهم لتنصرف عن كل ما يغذي عقلها ويصقل روحها ،إلى الإهتمام الحصري بمظهرها الخارجي وإظهار مفاتنها الجسمية لأغراض تسويقية وتجارية رخيصة ، إنما يسعون إلى هدم طاقاتها وقتل ابداعاتها وتغييبها حقيقة عن ساحة الإنتاج والإبداع العلمي والفكري والمادي ، ولا أشك أن هؤلاء وإن كانوا يتشدقون بشعارات تخليص المرأة من العبودية والذكورية خصوصا في عالمنا العربي والإسلامي فإنهم يكرسون وعن سابق تصميم الذكورية والتسلطية ، ويطبّعون النظرة الدونية التي عانت منها المرأة على امتداد حقبات زمنية طويلة .
لذا لا بد لنا أن نتمهل قليلا في إصدار أحكامنا وأن نتحلى بالروية عندما نناقش واجباً من الواجبات الدينية التي افترضها الله تعالى على الرجل و المرأة على حد سواء ، وعلينا أن لا نطلق الأحكام جزافا أو انفعالا وتحمسا ، كما أنه من الضروري أن ندرس نظرة الإسلام للمرأة وثقافة الستر التي أرادها لها وذلك بمنأى كامل عن كل تأثر بتجربة هنا أو حالة هناك من الممكن أن تشوّه صورة الإسلام بسبب سوء في الفهم أو سوء في التطبيق ، وهذا ما نلحظه وللأسف في كثير من المجتمعات الإسلامية التي ما زالت تعيش تحت وطأة الأعراف معتبرة المرأة موجودا ناقصاً لا قيمة له ولا عقل عنده ، أو تلك المجتمعات التي تشوه فيها صورة الإسلام الكريمة للمرأة وذلك من خلال الخطباء والدعاة الذين يعتلون المنابر ويتشدقون بروايات مكذوبة أو أحاديث ملفقة حاشا أن تصدر عن رسول الله (ص) أو أهل بيته وأصحابه الكرام ، كتلك التي تعتبر المرأة عورة أو رجساً شيطانيا ، أو الروايات التي تحذر من فتنة النساء وتدعو إلى سجنهن ووأدهن في بيوتهن ، ولعل هؤلاء البسطاء يظنون أنهم يحسنون صنعا، وأنهم بتهويلاتهم هذه وأبواقهم المرعبة يقربون المرأة من الإسلام ويجعلونها محبة للستر والحشمة ، بل العكس من ذلك تماما إذ إن هذا الأسلوب وهذه الطريقة تنفر من الإسلام وتخدم أولئك الذين يتربصون به السوء وتسددهم بالحجة والدليل على افتراءاتهم وأكاذيبهم .
إن الدعوة إلى الستر والإحتشام هي دعوة إلى الرقي بالمرأة ، والأخذ بيدها نحو الرفعة والعلاء إحتراما لإنسانها وصونا لأنوثتها ، لذا لا بد أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والخطاب الهادئ واللطيف الذي يحاكي العقل ويلامس القلب والوجدان .