تقوم السيّاسة الأمريكية كما يعترف بذلك أحد أبرز مشكلّيها هنري كيسنجر على إقامة أزرار إنفجار في مواقع السخونة وغيرها والتي لأمريكا فيها مصالح جيوسيّاسيّة واسعة، وأحيانا تلوذ أمريكا بتفجير هذه الأزرار ليتبركنّ الوضع السياسي في هذه المنطقة وتلك ومن ثمّ يفضي ذلك إلى تسهيل مهمة أمريكا الجاهزة جيوشها دوما للتدخّل السريع.
وقد إعترف بعض ضبّاط المخابرات الأمريكان المتقاعدين كيف كانوا يلجأون إلى تفجير الكنائس في أمريكا اللاتينية لتأليب المسيحيين في هذه البلاد على الحركات الثوريّة الشيوعية التي كانت تحارب الوجود الأمريكي .
وقد قامت السياسة الأمريكية على هذا المبدأ، حيث تقوم دوائر صناعة الخطط الأمريكية الخارجية المتحالفة مع الشركات المتعددّة الجنسيات بإجراء مسح على خرائط الكرة الأرضية ويدرس كل إقليم على حدا، وكلمّا كان هذا الإقليم مستجمعا للثروات الظاهرة والباطنة كلما كان ذلك أدعى لكي توليه واشنطن العناية الكاملة، وفي هذا السيّاق يقول أندري تولي صاحب كتاب الجوسسة الأمريكية، أنّه إذا دخلت مقرنا في لانغلي – مقّر المخابرات الأمريكية – فلا تتعجب إذا وجدت أشخاصا يتقنون عشر لغات بما في ذلك اللغة العربية، ويستطرد قائلا بل إنّ فينا فقهاء في القانون الإسلامي!
ويقول في مجال آخر كل دولة يحيطها بالدراسة والتنقيب عن كل صغيرة وكبيرة فيها عشرون حكيما وخبيرا في مختلف شؤون الخبرة، فالملف المصري بيد مجموعة من المخبرين الأذكياء وعلماء النفس والإجتماع شغلها الشاغل مصر وكذلك الجزائر وتونس وليبيا وإيران وسوريا ولبنان واليمن وما إلى ذلك .
وحتى عندما يصادف هؤلاء الخبراء مقومات فتنة نائمة في هذه الدولة أوتلك يقومون بإحيائها وإحتضانها، وهذا ما يفسّر ولع الأمريكان في التعامل مع الأقليات والإثنيّات لا حبّا فيها وإرادة منها في منحها حقوقها بل لإتخاذها جسرا إلى تفعيل مصالحها هنا وهناك . وأدلّ برهان على ذلك هوقيام أمريكا بوأد حقوق الهنود الحمر وبعدهم السود، فإذا كانت هذه الأعراق لم تحصل على حقوقها في الجغرافيا الأمريكية فكيف يحصل الآخرون على هذه الحقوق !
وقد سمحت هذه السياسة بتفسيخ العالم العربي والإسلامي وإحياء المتناقضات وتهيئة كل إقليم عربي لمشروع حرب أهلية حقيقية، بل وتدخلت في صيّاغة النظم السياسية في العالم العربي والإسلامي، فأحيانا تصيغ نظاما قوميا وأحيانا نظاما شيوعيا وأحيانا نظاما إسلاميا لا علاقة له البتّة بالإسلام الحضاري وأحيانا تصيغ نظاما عائليّا عشائريّا، وعلى حدّ تعبير بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في كتابه مبدأ القوّة والذي قال:
"لا تهمّ الإيديولوجيا بقدر ما تهمّ المصلحة الأمريكية والمصلحة الأمريكيّة فقط ."ولأنّ أمريكا لا مبدأ لها فقد تعودّت أن تدوس على الذين قدمّوا لها خدمات جليلة وأبرز مصداق على ذلك تخليهم عن شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي إستنجد بأطبائهم فمنعوه من دخول أمريكا للعلاج، وتخليهم عن ماركوس في الفليبين وإعتقالهم لنورييغا في بنما بعد أن كان ضابطا عميلا للمخابرات الأمريكية بإمتياز، وعدم منحهم تأشيرة دخول لأمريكا بغية العلاج للرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري وهوالذي مكنّ لهم ولمخابراتهم في السودان.
ولطالما أشرفوا على صناعة الطغاة في واقعنا العربي والإسلامي وأمدوهم بالرعاية وتقنية قلع الأظافر وإحراق الأجساد وسكتوا عنهم دهرا، وعندما إقتضت المصلحة الأمريكية أن يرفعوا عقيرتهم بالتنديد راحوا ينددون ببوارجهم الحربيّة وطائراتهم وقنابلهم الفتّاكة وتحديدا ب 52 التي تدمّر أول ما تدمّر كل البنى التحتيّة الإقتصاديّة، لتدعى الشركات الأمريكية بعدئذ لتعيد البناء بأقوات الأجيال الراهنة واللاحقة ولتكبّل هذا الوطن وذاك بمديونيّة ضخمة على مدى قرن بكامله وأبعد من ذلك .
وفوق هذا وذاك فإنّ الولايات المتحدّة الأمريكية تتقن فنّ الإذلال بإحكام، فالحاكم العربي الذي تخصصّ في صناعة السجون وبقر البطون وحلق الذقون وتحويل العاقل إلى مجنون، تحولّ إلى ساعي بريد للأمريكان وجاسوس بإمتياز . وكلما تريد واشنطن إذلال عاصمة عربية أوإسلامية غير مرضيّ عنها أمريكيّا، فإنّ الإدارة الأمريكية توفد هذا الرئيس العربي أوذاك لنقل رسالة أوتهديد، وفي كل الحالات والأحوال على هذا الرئيس العربي ساعي البريد أن يكتب تقريرا مفصلاّ عما سمعه في هذه العاصمة وتلك وماذا دار بينه وبين صنّاع القرار في تلك الدولة التي تريد منها واشنطن شيئا .
وكثير من رؤسائنا العرب يتهافتون بل يتقاتلون للعب دور ساعي البريد لواشنطن ورسائلها السياسيّة والأمنية، وعندها تنتقي واشنطن الأكفاء أمنيا وإستخباراتيا والأقدم في الخدمة .
ولأجل ذلك تنظر أمريكا إلى الشعوب العربيّة والإسلامية بكثير من الإحتقار والإذلال والإهانة والشتيمة والتعالي والرفعة، على إعتبار أنّ هذه الشعوب يحكمها سعاة بريد لصالح الأمريكان، يحكمها جواسيس لأمريكا كشف عن بعضهم بوب وورد في كتاب عن المخابرات الأمريكية وفيه يقول:" أنّ المخابرات الأمريكية وظفّت بعض الرؤساء العرب وكانت تدفع لهم أجورا منتظمة في حسابات مختلفة .
وإذا تبينّت هذه الخلفيّة فكيف يسمح ساعي البريد هذا والجاسوس بإمتياز لأمته أن تنهض من مقوماتها الذاتية ومقدراتها الخاصة بعيدا عن خطّ الأمركة والتأمرك، بل سيكون دوره أن يجيّر كل الأمة وتاريخها وراهنها ومستقبلها لصالح العم السام لصالح الأمريكان. وعندما يطلب من سعاة البريد هؤلاء وهم كثر أن يدلوا بموقف أوتصريح لصالح هذه القضية المستضعفة أوتلك يجيبون بأن أمريكا ترصد وتراقب ونحن لا نقدر أن نزعجها، فهي وليّة نعمتنا، من ذا يدفع لنا المليون والمليار دولار!
ولعمري أعرف بعض الرؤساء العرب يجلسون كالنسوة الأسيرات أمام السفير الأمريكي في عاصمة بلادهم . ولأنّ السفير الأمريكي يعرف أنّه أمام ساعي بريد جاسوس ومرتزق فإنّه يرفع قدمه ونعله ويوجّه نعله إلى وجه الرئيس دون أن ينبس الرئيس ببنت شفة، وربّ سفير أمريكي في عاصمة عربية غيرّ منطلقات وسياسات وبرامج تربوية وإعلامية !
وساعي البريد هذا وعندما يغادر السفير الأمريكي مكتبه، يتوجّه إلى رجال مخابراته ليسألهم هل وصل ترعيب الناس إلى الذروة، ولذلك تأسسّت المعادلة التي مفادها أنّ الرئيس الأمريكي يصفع رؤساءنا ورؤساؤنا يصفعون شعوبهم من باب الحفاظ على الكرامة والرجولة وهيبة الدولة وقدسية الجمهوريّة !
* يحيى أبوزكريا/ مفكر واعلامي جزائري