بقلم الدكتور الشيخ محمد شقير
إذا أردت أن تفسد علاقة بين إثنين، فازرع لدى أحدهما (أو كليهما) وهماً عن نوايا مبيتة وأفعال معدّة لدى الآخر، ثم دع الوهم يفعل فعله. هذا ما حصل الى حدٍّ بعيد بين السنة والشيعة، حيث عُمل ويُعمل الآن على صناعة الوهم بينهما. فمن هلالٍ الى مدٍّ الى مساعٍ لتشييع السنة، الى غيرها من الدعاوى التي لا يوجد لها أي أساس من الصحة. بمعنى انه لا يوجد مشروع شيعي لتشييع السنة، كما لا يوجد مشروع سنّي لتسنين الشيعة. ولو فرضنا _جدلاً_ أن أحداً ما من الشيعة أو من السنة تبنى شيئاً من هذا، هذا لا يعني أن جميع السنة أو جميع الشيعة لديهم هذا التوجه، وانه تحول الى مشروع عام يتبناه السنة أو الشيعة، أو أن الشيعة أو السنة يوافقون على أي عمل قد يُساء استغلاله لتسميم العلاقة بينهما.
لقد تحولنا الى قبائل، بحيث أصبحت كل قبيلة تخاف على نفسها وأفرادها من أن يتسرب أحد منهم الى القبيلة الأخرى، لأن العدد في المنطق القبلي له أهميته وله حساباته في القوة العددية، واذا ما تعزز ذلك بوهم الاستهداف من القبيلة الأخرى، أصبح مبرراً اللجوء الى اجراءات احترازية عديدة، ولربما غير عقلانية لحماية أفراد القطيع من الشرود والضياع!
والذي يُعمل عليه هو تعميق ذلك الخوف، ومحاولة توظيفه لخدمة أهداف يُفصح عنها بشكل واضح، تتمحور حول إشعال الفتنة بين المسلمين السنة والشيعة، وجعل العلاقة بينهما قائمة على فوبيا التشيع والتسنن، او الشيعة فوبيا والسنة فوبيا.
إن الذي يسهم في صناعة ذلك الوهم، هو استغلال قضايا صغيرة وأحياناً تافهة، وتضخيم لحوادث محدودة، وافتعال لأمور غير صحيحة، أو اختلاق لقصص غير دقيقة؛ وفي الكثير من الحالات فان الذي يحصل هو سوء فهم لأمور تقع، بحيث تفهم على غير وجهها، وتعرض بما يخالف حقيقتها. فضلاً عن بعض القنوات التلفزيونية أو الشخصيات الدينية وغير الدينية، ومدى ارتباطها بجهات تريد تعميق الانقسام بين السنة والشيعة، وتحويله الى حرب مذهبية طاحنة بينهما. وليس بعيداً عن ذلك كلام وزير الخارجية الأميركي الاسبق هنري كيسنجر عن حرب المائة عام بين السنة والشيعة.
ويحسن بنا أن نعترف اننا نعاني ندرة في العقلاء، الذين يمتلكون وعياً يتجاوزون به الكمائن المذهبية والمزالق الطائفية؛ والذي ينتظر من علماء الدين أن يكونوا على مستوى كبير من الوعي والعقل لدرء تلك الفتنة، كما ينتظر من المؤسسات الدينية _والتي يراد لها أن تنزلق الى مهاوي ذلك الوهم وافرازاته_ وخصوصاً التي تمتلك تأثيراً كبيراً في صفوف الأمة؛ أن تُعمل أقصى ما لديها من شعور بالمسؤولية، ومن مخزون في الوعي، حتى لا تسمح بالانزلاق الى شرك ذلك الوهم، والوقوع في شباكه.
أثنى قوم بحضرة الرسول (ص) على رجل..؟ فقال رسول الله (ص): كيف عقل الرجل؟ فقالوا يا رسول الله نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير؟ وتسألنا عن عقله؟! فقال (ص): ان الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر...
ألا نخشى في زماننا من البعض، حتى لو كان يحمل شيئاً من العلم، ممن يمكن أن يصيبنا بحمقه فتنة وانقساماً وتنازعاً وإراقة للدم المحرم، وهو يظن انه يعمل بأمر الدين وينصر الملة؟ اين عقلاء القوم الذين ترجح عقولهم مزالق الفتن، وتغلب ألبابهم شراك العصبية والمحن؟ مع انه في زمن الفتنة فإن صوت العقل يخبو، ونداء الجاهلية يعلو؛ مرة تعليه الحمية ومرة باسم الدين.
ولعل أكثر ما ساهم في تأجيج العصبيات المذهبية، هو ذلك الجدل المذهبي الذي كان يجري على بعض القنوات التلفزيونية -بغض النظر عن دوافعها- حيث كان يعتقد كل طرف انه ينتصر بذلك لمذهبه، غافلين عن ان حجم الضرر الذي سوف تخلفه تلك البرامج والقنوات، سوف يفوق أضعافاً مضاعفة أي فائدة يمكن أن يرتجيها لمذهبه وملته.
ثم ليحدث بعد برهة من الزمن توالد مطرد في القنوات الدينية والمذهبية، يسهم العديد منها في التحريض المذهبي، والانقسام والتنازع وصناعة ذلك الوهم. يحق لأي كان أن يكون له وسيلته التي يعبر من خلالها عن قناعته وأفكاره، لكن بموضوعية وأسلوب علمي، ومن دون أية اساءة أو استفزاز للآخر، ومن دون استخدام تلك الوسيلة في التجريح والطعن في الآخر، في عقائده وقناعاته وأفكاره؛ بل يجب توظيف تلك الوسائل في ممارسة التقريب، وتحقيق الوحدة، وتعزيز ثقافة الحوار والعيش المشترك، والحصانة من التفرق والتنازع والفتنة.
إن الذي يدفع الى التحذير من ذلك الوهم هو خطورة التداعيات التي تترتب عليه، والآثار التي بدأنا نلمسها له، وخصوصاً بعد أن سمع أكثر من كلام من مؤسسات دينية او شخصيات علمية كان ينتظر منها ان تكون من أكثر العاملين على تبديد ذلك الوهم والتحذير من مخاطره وأضراره، لأنه اذا استحكم فانه سوف يؤدي الى ما يلي:
- إيجاد أكثر من تصدع إجتماعي بين الشيعة والسنة، وزيادة الإنقسام بينهم، ونحن نعلم حجم التداخل بين المذاهب الإسلامية والاندماج الحاصل بين ابنائها والزواج المختلط بينها وعلاقات القربى لديها؛ فهل يدرك من يعمل على إستحكام هذا الوهم ماذا يفعل بجميع هؤلاء؟
- نوع من الإرهاب الفكري الذي يمارس بشكل متبادل بين المذاهب الإسلامية؛ بحيث انه كلما اراد احد ما ان يعبّر عن آرائه وقناعاته فسوف يعتبره الطرف الآخر تبشيراً بمذهبه، وسوف يحاول قمعه وممارسة الكبت بحقه.
- تسميم العلاقات بين السنة والشيعة، وزيادة التوترات المذهبية بينهما، والدفع بتلك العلاقات الى أسوأ حالاتها، ومنع اي تواصل ايجابي وبنّاء بين تلك المذاهب الإسلامية.
- تخريب المساعي للوحدة والتقريب بين المسلمين، لأن البعض سوف ينظر حتى الى تلك الجهود التي تبذل في إطار الوحدة والتقريب، من منظار ذلك الوهم والمقولات المستلّة منه.
- الإغراء بحرمان بعضنا البعض من ابسط حقوقه التي قد يطالب بها، فلو طالبت -على سبيل المثال- أية اقلية مذهبية (سنية او شيعية) ببناء مسجد لها، سوف يجابه هذا الامر بالرفض: لماذا؟ لان هذا المسجد سوف يفسر بناؤه تفسيراً نابعاً من ذلك الوهم، كأن يقال مثلاً: سوف يؤدي الى تحول مذهبي في المجتمع!
- إعطاء ذرائع للعديد من المتطرفين في الغرب، او المصابين بالاسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية للإمعان في مواقفهم ضدنا كمسلمين؛ فلو توجهنا اليهم بالسؤال لماذا لا تقبلون ان نمارس حريتنا الدينية؟ سوف يقولون انظروا الى ما تفعلونه -انتم كمسلمين- ببعضكم البعض، ثم عودوا واسألونا؛ نحن لا نفعل أكثر مما تفعلون.
- التجهيل ببعضنا البعض، بمعنى أن كل طرف سوف يكون مدفوعاً من ذلك الوهم الى عدم الاستماع الى الآخر، لأنه يستهدفني مذهبياً! ليُترك الميدان للاشاعات المذهبية، والمخيال الشعبي، ليشكلا فهمنا للآخر! ولنعتمد بدل "تعارفوا" تجاهلوا وتناكروا.
- سوء الظن وعدم الثقة ببعضنا البعض، فلو استشرى هذا المرض(الوهم) بيننا فسوف يهدم اي أسس لعلاقات صحية يمكن ان تقوم بين مختلف المذاهب الإسلامية، بما فيها بين السنة والشيعة، فعندما تنعدم الثقة ويستحكم سوء الظن، لن يكون من السهل ابداً قيام علاقات سوية، بل إن الأوضاع تصبح مهيأة أكثر لتأخذ منحى أكثر انحداراً وخطورة.
- - إن من أخطر ما يمكن أن يؤدي اليه ذلك الوهم، هو ترك الساحة للجهلة والمتعصبين وضعيفي العقول، الذين يسهل لأية مؤامرة تستهدف زرع الفتنة بين المسلمين أن تركبهم وتتخذهم مطية لها.
- - القضاء على ثقافة الوحدة والتنوع، والقبول بالآخر، والاضرار بالعيش المشترك بين المسلمين، والاساءة الى علاقات التعاون والاندماج والتواصل بين السنة والشيعة.
- - التشجيع على ثقافة الإقصاء والإلغاء، والترويج للتكفير وتهميش التفكير، وتغذية ثقافة الرفض للآخر وعدم القبول به، مما يدفع الى رفض المذاهب الإسلامية لبعضها البعض، وتنمية التطرف فيما بينها، والوقوع في آفة الانغلاق والتقوقع على الذات.
- - القضاء على ثقافة التنوع في مختلف المجالات الاجتماعية الأخرى سواءً كانت سياسية او ثقافية او غيرها، لأن من يرفض التنوع سوف يرفضه سواءً في بعده المذهبي، او في اي من أبعاده الاخرى، ومن لا يستطيع ان يتقبل التنوع في اطاره الاسلامي، لن يتسع صدره لاي تنوع آخر، سياسياً كان ام غير سياسي.
- - إنشاء مجتمعات مأزومة تقفل الباب على إمكانيات التنمية والتطوير والحداثة، لأن شرط ما تقدم تعزيز ثقافة النقد والإختلاف، وإعطاء هامش للحرية والتنوع والرأي الآخر، أما عندما يسود التطرف والإقصاء والإلغاء.. فلن تتوفر تلك البيئة الاجتماعية والثقافية المساعدة على التنمية والتطوير.
- - تعقيد أية عملية تعاون فاعل - قد يرتقي الى نوع من التحالف الاستراتيجي لاحقاً- بين الثقل السني والثقل الشيعي في المنطقة (كما بين مصر وإيران مثلاً) لأن هذا الامر يخيف إسرائيل، وترفضه أميركا؛ والسبب في ذلك أنه يضر بمصالحها في المنطقة، ويخدم -لو حصل- هدف تحرير فلسطين، ويساعد مقاومتها والصراع معها؛ ويسد الباب على مشروع الفتنة السنية الشيعية، التي يبشر بها كيسنجر.