الفقيد آية الله الشيخ محمد مهدي الآصفي
إهتمام القرآن بالقدوة:
وللقرآن اهتمام بليغ في طرح القدوة للناس من الأنبياء والشهداء. يقول تعالى عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): {لقد كان لكم في رسولِ اللّه اُسوةٌ حسنةٌ}.
ويقول تعالى عن إبراهيم الخليل (عليه السلام): {قد كانت لكم أسوةً حسنةٌ في إبراهيم والذين معه}.
ويقول تعالى: {لقد كان لكم فيهم اُسوةٌ حسنة لمن كان يرجو اللّهَ واليومَ الاخرَ ومن يتولّ فإن اللّهَ هو الغنيُّ الحميد}.
وبعكس ذلك يشجب القرآن الحالات التي ينفصل فيها الفعل عن القول، ولا يكون الكلام نابعاً من إيمان وتفاعل وعمل. يقول تعالى: {لِمَ تقولونَ ما لا تفعلون * كبُرَ مقتاً عند اللّهِ أن تقولوا ما لا تفعلون}.
التأهيل للشهادة:
{إنْ يمسسْكم قرحٌ فقد مسّ القومَ قرحٌ مثلُه وتلك الأيامُ نداولها بين الناسِ وليعلمَ اللّهُ الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداءَ واللّهُ لا يحبُّ الظالمينَ}. فأولئك أولاهم اللّه سبحانه مهمة الشهادة في الناس، واتخذ منهم شهداء.
إن الأمة الشاهدة لا تثبت على طريق الدعوة، ولا تستطيع أن تقاوم عواصف المواجهة، وألوان المكر والكيد، إلاّ من خلال معاناة صعبة ورحلة عذاب طويلة. وهذه المعاناة والعذاب يؤهلانها للشهادة بين الناس، وتدخلانها الجنة.
يقول تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلِكم مسّتهم البأساءُ والضرّاءُ وزُلزلوا حتى يقولَ الرسولُ والذين آمنوا معه متى نصرُ اللّهِ ألا إنّ نصرَ اللّهِ قريبٌ}.
المقاومة والرؤية:
إن المعاناة والعذاب يمنحان الإنسان المقاومة، والمقاومة تمنح الإنسان الرؤية. يقول تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلَنا وإن اللّهَ لمع المحسنينَ}. والآية الكريمة صريحة في أن الجهاد يمنحُ الإنسان الهداية والرؤية، كما يمنحه معيّة اللّه تعالى في الحركة على طريق ذات الشوكة {وإن اللّهَ لمع المحسنين}.
المهمة الثالثة للشهيد: حفظ كتاب اللّه وشريعته من التحريف
{إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونورٌ يحكم بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيونَ والأحبارُ بما استُحفظوا من كتابِ اللّه وكانوا عليه شهداء}.
وهذه هي المهمّة الثالثة للشهيد، لان تحريف الكتاب، وتحريف حدود اللّه وشريعته من الوسائل التي تتبعها الجهة المعادية للدعوة، في إحباط دور الدين، ومسخه، وتفريغه من محتواه الحركي بعد ما تفشل هذه الجبهة في استئصال الدعوة من الأساس. ولذلك نظائر في الشرائع الإلهية السابقة في تاريخ الدعوة والرسالة. وقد أولى اللّه تعالى الشهداء مهمة المحافظة على الكتاب والشريعة من التحريف والتشويه، واستحفظهم كتابه وحدوده.
وأولى الناس بأن يوليهم اللّه تعالى هذه المهمة هم الشهداء، فان الشهداء أكثر الناس وعياً لشريعة اللّه وحرصاً على سلامتها.
شرطا الشهادة العصمة والعدالة.
إن المهمّة التي ينيطها اللّه تعالى بالشهيد مهمّة ضخمة، فهو من جانب مذكّر ومعلّم، ومن جانب آخر قدوة ونموذج، ومن جانب ثالث مسؤول عن حفظ الكتاب والشريعة. وهذه المهام الثلاثة ترتبط بالكتاب والشريعة من جانب، ومن جانب آخر بحياة الناس، ومهمّة الشهيد تطبيق حياة الناس على هدى الكتاب والشريعة. وهذه المهمّة الصعبة تتطلّب من الشهيد أن يكون على درجة عالية من الاستقامة والاعتدال والالتزام. وقد تحدثنا عن ذلك من قبل في البحث عن القدوة وتجسيد الموقع الوسط. وهذه الاستقامة في الأنبياء بمعنى العصمة، وفي الأمة الشاهدة والدعاة والعلماء الشهداء بمعنى العدالة وهي الالتزام بحدود اللّه تعالى في الحلال والحرام. وهذا الشرط في الحقيقة ملحوظ في صلب معنى الشهادة، فلا نحتاج إلى أن نطيل الحديث عنه.
الشهادة في الآخرة :الشهادة من مشاهد القيامة:
من مشاهد القيامة الشهادة، وهو مشهد رهيب. ويتم هذا المشهد بحضور الأنبياء وسائر الشهداء من المؤمنين، ويتم القضاء بحضور الأنبياء والشهداء وبشهادتهم. يقول تعالى: {وأشرقت الارضُ بنورِ ربّها ووُضع الكتابُ وجيء بالنبيّين والشهداءِ وقُضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون}.
ولماذا يتمّ القضاءُ بحضور الأنبياء والشهداء؟
لان هؤلاء الشهداء كانوا مقاييس للناس في الحق والباطل في الدنيا، في الآخرة يقاسون بهم ويحاسبون على كل انحراف عنهم، ويقضى بينهم بموجب هذا المقياس. وبذلك يؤدّي الشهيد شهادته يوم القيامة. ولان الأنبياء والشهداء كانوا مسؤولين في الدنيا عن تذكير الناس وتوجيههم ودعوتهم لذلك يشهدون يوم القيامة على الناس أنهم أدّوا ما عليهم من التذكير والدعوة، ويقطعون على الناس الحجّة. ولان هؤلاء الشهداء كانوا مسؤولين عن توجيه هؤلاء الناس وتذكيرهم، والناس أمتهم وإخوانهم في الدين، لذلك يكونون أشفق عليهم من غيرهم في الشهادة. إنّ الطالب يؤثر أن يؤدّي الامتحان لدى المعلّم الذي علّمه الدرس، فإنه في أغلب الأحوال أشفق عليه من غيره ممن لم يكن له دور في تعليمه.
حضور للشهود في الدنيا وأداء في الآخرة:
ذكرنا من قبل أن للشهادة مرحلتين: مرحلة التلقّي، ومرحلة الأداء. ولابدّ في الأداء من التلقّي، ومن دون التلقّي لا يمكن الأداء، وفي كل تلقٍّ لابدّ من حضور، وما لم يكن الشاهد حاضراً عند الناس لا يتمكّن من أن يتلقّى أعمال الناس. والقرآن الكريم صريح في أن للشهداء حضوراً في حياة الناس وأعمالهم، وأنهم يرون أعمال الناس. يقول تعالى: {وقل اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون وستردّون إلى عالم الغيبِ والشهادة فينبئُكم بما كنتم تعملون}. والشهود الذين يحضرون أعمال الناس في هذه الدنيا، بموجب هذه الآية الكريمة، ثلاثة: اللّه، ورسوله، والمؤمنون. {وقل اعملوا فسيرى اللّهُ عملَكم ورسوله والمؤمنونَ}. ويوم القيامة يكون الشاهد والقاضي والحاكم هو اللّه تعالى. {وستُردّون إلى عالم الغيبِ والشهادة فينبئُكم بما كنتم تعملون}. وفي موضع آخر يبين القرآن أنه يتحد يوم القيامة الشاهد والقاضي، وهذه المرّة ينهض الإنسان بنفسه بهاتين المهمّتين معاً يوم القيامة. يقول تعالى: {وكلَّ إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاه منشوراً * اقرأ كتابك كفى بنفسِكَ اليومَ عليك حسيباً}. و (الطائر) عمل الإنسان، وكأنّ الوجه في التعبير عن العمل بـ (الطائر) أن العمل، بعد أن يقوم به صاحبه، ينفصل عن الإنسان ويستقلّ عنه ويفلت من قبضته، فإن العمل في قبضة الإنسان ما لم يؤدّه، فإذا فعله خرج عن قبضته. و(في عنقه) تعبير عن تثبيت عمل الإنسان في عهدته، وتسجيله عليه، واستحالة تخلّصه منه، وهذه هي مرحلة أداء الشهادة {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً}. فيتّحد في هذه الآية الكريمة الشاهد والقاضي، فيشهد الإنسان على نفسه فيقرأ كتابه الذي ألزمه اللّه تعالى إياه في عنقه، دون أن يتمكّن من نفيه أو أن يشكّ فيه، أو يتخلّص منه، ويحاسب نفسه بنفسه، والمحاسبة هنا هي الحكم والإدانة.
الشهداء يوم القيامة هم الشفعاء:
ومن رحمة اللّه تعالى بالإنسان أن جعل من الشهداء عليه شفعاء بإذنه تعالى، ومهمة الشهيد الرقابة والشهادة، ولكن عندما يكون الشاهد لدى القاضي شفيعاً عنده بإذنه تثبت للشاهد عند القاضي نقطة بيضاء في حياته للتجاوز عن الصفحات السوداء من أعماله، وشفقة الشهيد وشفاعته من فضل رب العالمين ورحمته. يقول تعالى:{ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعةَ إلاّ من شهد بالحقّ وهم يعلمون}. ويوم القيامة لا يتكلّم أحد عن أحد إلاّ بإذن اللّه تعالى، وما لم يأذن اللّه تعالى لأحد في الكلام لا ينطق بكلمة في ذلك اليوم الرهيب. يقول تعالى: {ربّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما الرحمنِ لا يملكون منه خطاباً * يومَ يقومُ الروحُ والملائكةُ صفاً لا يتكلمون إلاّ من أذن له الرحمنُ وقال صواباً}.
وهو موقف عجيب يمتزج فيه الجلال والكبرياء بالرحمة {ربّ السمواتِ والأرضِ وما بينهما الرحمنِ لا يملكون منه خطاباً}. ويصطفّ الملائكة والروح في هذا اليوم الرهيب صفاً، ولا يتكلم منهم أحد بكلمة إلا من أذن له الرحمن. يقول تعالى عن مشاهد هذا اليوم الرهيب الذي لا يحق لأحد التكلم فيه إلاّ بإذنه: {يوم يأتِ لا تكلّمُ نفسٌ إلاّ بإذنه فمنهم شقيٌّ وسعيد * فأما الذين شقوا فف النا لهم فيها زفيرٌ وشهيقٌ * خالدينَ فيها ما دامت السموات والأرضُ إلاّ ما شاء ربّك إن ربّك فعّال لما يُريد * وأما الذين سُعدوا ففي الجنةِ خالدين فيها ما دامت الستُ والأرضُ إلاّ ما شاء ربّك عطاءً غير مجذوذ}.
وفي هذا اليوم لا يتكلم أحد بين يدي اللّه تعالى إلاّ من أذن له الرحمن، ولهذا الإذن نظام وقانون ؛ وقانون هذا الإذن أن من شهد بالحق يحق له يومئذ أن يشهد ويشفع في عباد اللّه {ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلاّ من شهدَ بالحقّ}.
من الشهداء من ينظر في الكتاب المرقوم:
ومن هؤلاء الشهداء من له حضور في أعمال الناس، وينظر في الكتاب المرقوم الذي يضبط ويسجل أعمال الأبرار.
يقول تعالى: {كلاّ إن كتابَ الأبرارِ لفي علّيين * وما أدراك ما علّيون * كتاب مرقومٌ * يشهده المقرّبون}.
إن الشهداء ينظرون في هذا الكتاب المرقوم الذي يضبط أعمال الأبرار، وهذا الكتاب ليس كسائر الكتب، إنما هو أعمال العباد، ينظر فيها المقربون. ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ينظر في أعمال أمّته ويشهدها.