ليث عبد الحسين العتابي
6ـ مراسم باقية ما بقيت الدنيا ، فكل يوم عاشوراء ، و كل أرض كربلاء .
من أدلة انتصار الثورة الحسينية أن كل الطغاة في العالم يمنعون إقامة مراسمها و مراسم تذكرها ، في حين يحيون كل المناسبات الدينية ، لكن فاجعة الطف ممنوع تذكرها و ممنوع إحياؤها ، و ممنوع ذكرها أو جعل ذكر لها في التاريخ ، كل ذلك لأنها الشبح الذي يخيف الطغاة ، و الصوت الذي يصك أسماعهم ، و النور الذي يعمي أبصارهم ، و هي بحق ملك الموت الذي يتربص بهم ، فإن أرادوا التخلص من كل ذلك فلابد من التخلص من فاجعة الطف و كل ما يتعلق بها ، و هذا ما جرى عليه طغاتهم و وعاظ سلاطينهم من حرمة ذلك و المنع منه .
يقول المؤرخ و الكاتب المسيحي الأمريكي فيليب حتى في الإمام الحسين( ع):" أصبح اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي يوم حداد و نوح عند المسلمين ، ففي مثل هذا اليوم ـ أي يوم عاشوراء ـ من كل عام تمثل مأساة النضال الباسل و الحدث المفجع الذي وقع للإمام الشهيد ، و غدت كربلاء من الأماكن المقدسة في العالم ، و أصبح يوم كربلاء و ثأر الحسين ( ع ) صيحة الاستنفار في مناهضة الظلم " .
فإحياء فاجعة الطف مما يثير حفيظة الظالمين ، مما حدا بهم إلى منع ذلك و التنكيل بمن يفعله ، و الإنكار له ، و التشنيع بمختلف الطرق و الأساليب عليه .و ما زاد ذلك الشيعة و المحبين إلا إصراراً و عزماً على مواصلة ذلك ، بل إن الطغاة مارسوا بالإضافةِ للقتل و التشنيع و الترويع سياسة التهجير و الأبعاد مما أدى إلى انتشارِ مذهب التشيع و الفكر الحسيني و فاجعة الطف في جميع دول العالم و بذلك إنقلب السحر على الساحر .
يقول المستشرق الانكليزي وليم لوفتس في الإمام الحسين ( ع ) : " و هل ثمة قلب لا يغشاه الحزن و الألم حين يسمع حديثاً عن كربلاء ؟ و حتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها " .
كما و يقول الرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي تاملاس توندون الهندوسي في الYمام الحسين ( ع ) : “ هذه التضحيات الكبرى من قبيل شهادة الإمام الحسين رفعت مستوى الفكر البشري ، و خليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد ، و تذكر على الدوام " .
7ـ بقاء قبر الإمام الحسين ( ع ) علماً للمؤمنين ، و مناراً للثائرين ، و شوكة في عيون الظالمين و الحاسدين أبد الأبدين .
فهذا قبر أبي عبدالله ( ع ) منار و مزار من سالف الزمان و إلى قيامه ، فأين قبور الطغاة ، بل أين قصورهم ؟ . إن قتلة الإمام الحسين ( ع ) ليس لهم قبر في الدنيا يدل عليهم من يزيد إلى أدناهم ، فهم قد مسخوا في الدنيا و الآخرة .
يقول الشيخ محمد حسين المظفر : " .. و لو رأيت اليوم القبور العلوية المشيدة في دمشق عاصمة بني أمية ، مع اندراس قبور بني أمية ، لعرفت كيف يعلو الحق ، و إن إجتهد أعداؤه طول الزمن في طمسه " .
و أشنع من ذلك ما فعله بهم بنو العباس إذ أخرجوا جميع جثث بني أمية المدفونة و أحرقوها كلها .و يصور الشاعر الطرطوسي السوري محمد مجذوب خريج الأزهر ما شاهده عندما زار النجف الأشرف و رأى قبر أمير المؤمنين( ع ) ، و ليقارن بذلك قبر معاوية بن أبي سفيان، لذا فقد وقف على قبر معاوية و قال :
أين القصور أبا يزيد و لهوها و الصافنات و زهوها و السؤددُ
أين الدهاء نحرت عزته على أعتاب دنيا سحرها لا يـــــنفدُ
ثم يقول :
هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه لأسال مدمعك المصير الأسودُ
كتل من الترب المهين بخربة سكر الذباب بها فراح يعربدُ
ثم يقول :
قم و أرمق النجف الشريف بنظرةٍ يرتد طرفك و هو باكٍ أرمدُ
تلك العظام أعز ربك قدرهــــــا فتكاد لولا خوف ربك تعبدُ
أبداً تباركها الوفود ، يحثــــــــها من كل حدبٍ شوقها المتوقدُ .
يقول المستشرق الفرنسي جوزف عن أسباب ترقي فرقة الشيعة و تطورها : " اليوم لا يوجد نقطة من نقاط العالم يكون فيها شخصان من الشيعة إلا و يقيمان فيها المآتم ، و يبذلان المال و الطعام ، رأيت في بندر ( مارسل ) في الفندق شخصاً واحداً عربياً شيعياً من أهل البحرين يقيم المآتم منفرداً جالساً على الكرسي بيده الكتاب يقرأ و يبكي ، و كان قد أعد مائدة من الطعام ففرقها على الفقراء ! هذه الطائفة تصرف في هذا السبيل الأموال على قسمين ؛ فبعضهم يبذلون في كل سنة من أموالهم خاصة في هذا السبيل بقدر استطاعتهم ما يقدر بالملايين من الفرنكات ، و البعض الآخر من أوقاف خصصت لإقامة هذه المآتم ، و هذا المبلغ طائل جداً ، و يمكن القول بأن جميع فرق المسلمين منضمّة بعضها إلى بعض لا تبذل في سبيل مذهبها ما تبذله الطائفة ، و موقوفات هذه الفرقة هي في ضعف أوقاف سائر المسلمين أو ثلاثة أضعافها . كل واحد من هذه الفرقة بلا استثناء سائر في طريق الدعوة إلى مذهبه ، و هذه النكتة مستورة عن جميع المسلمين حتى الشيعة أنفسهم ، فإنهم لا يتصورون هذه الفائدة من عملهم هذا ، بل قصدهم الثواب الأخروي ، و لكن بما أن كل عمل في هذا العالم لا بد أن يظهر له بطبيعته أثر ، فهذا العمل أيضاً يؤثر ثمرات للشيعة ، من المسلم أن المذهب الذي دعاته من خمسين إلى ستين مليوناً لا محالة يترقى على التدريج ترقياً لائقاً بهم ، حتى أن الرؤساء الروحانية ، و الملوك و الوزراء لهذه الفرقة ليسوا بخارجين عن صفة الدعوة ، فقراء و ضعفاء هذه الفرقة بما أنهم حصلوا و يحصلون على فوائد كلية من هذا الطريق ، فهم يحافظون على إقامة هذه المآتم أكثر من كبرائها ؛ لأنهم رأوا في هذا العمل ثواب الآخرة و أجر الدنيا ، فلهذا ترك جمع غفير من عرفاء هذه الفرقة أسباب معاشهم ، و اشتغلوا بهذا العمل ، فهم يتحملون المشاق ليتمكنوا من ذكر فضائل كبراء دينهم ، و المصائب التي أصابت أهل هذا البيت ( ع ) بأحسن وجه و أقوى تقرير على رؤوس المنابر و في المجالس العامة .... و من جملة الأمور الطبيعية التي صارت مؤيدة لفرقة الشيعة في التأثير في قلوب سائر الفرق هو إظهار مظلومية أكابر دينهم ، و هذه المسألة من الأمور الطبيعية ؛ لأن كل أحد بالطبع ينتصر للمظلوم ، و يحب غلبة الضعيف على القوي ، و الطبائع البشرية أميل إلى الضعيف ، و لو كان مبطلاً و المظلوم منها إلى القوي و إن كان محقاً و الظالم خصوصاً إذا كان بعيداً أو مرت عليه أعوام . و منصفو أوربا الذين كتبوا تفصيل مقاتلة الحسين ( ع ) و أصحابه ( رض ) و قتلهم مع أنه ليس لهم عقيدة بهم أصلاً ، أذعنوا بظلم قاتليهم و تعديهم و عدم رحمتهم ، و يذكرون أسماء قاتليهم بالاشمئزاز .و هذه الأمور طبيعية لا يقف أمامها شيء ، و هذه النكتة من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة."
8ـ الاستبشار و السرور بالشهادة الموجود في معسكر الأمام الحسين ( ع) .
فقد هازل برير عبد الرحمن الأنصاري فقال له عبد الرحمن : ما هذه ساعة باطل ؟ فقال برير : لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلاً و لا شاباً ، و لكني مستبشر بما نحن لاقون ، و الله ما بيننا و بين الحور العين إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم ، و لوددت أنهم مالوا علينا الساعة .
و خرج حبيب بن مظاهر يضحك فقال له يزيد بن الحصين الهمداني : ما هذه ساعة ضحك !
قال حبيب : و أي موضع أحق بالسرور من هذا ؟ ما هو إلا أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور .
و كان معسكر الإمام الحسين ( ع ) يطغى عليه التعبد و التبتل ، و الصلاة و التهجد ، مما أثر في معسكر إبن سعد ، ذلك المعسكر الواجم ، المظلم ، الغارق بالذنوب ، و سواد القلوب مع سواد الليل .و لقد أثر معسكر الحسين ( ع ) في أصحاب ابن سعد فخرج منه من إلتحق بمعسكر الحسين ( ع ) لما شاهد سيماء الطاعة و الخضوع لله تعالى عليه . و فعلاً فقد بشرهم الإمام الحسين ( ع ) بالجنة في يوم العاشر من محرم ، فلما فرغ (ع ) من صلاة الظهر من ذلك اليوم قال لأصحابه : ( يا كرام هذه الجنة قد فتحت أبوابها واتصلت أنهارها و أينعت ثمارها و زينت قصورها و تؤلفت ولدانها و حورها . و هذا رسول الله( ص)و الشهداء الذين قتلوا معه ، و أبي و أمي ، يتوقعون قدومكم عليهم ، و يتباشرون بكم و هم مشتاقون إليكم ..."
و قال عنهم رسول الله ( ص) : " ... و أعلم يا أبا ذر أن للواحد منهم سبعين بدرياً . يا أبا ذر واحد منهم أكرم على الله من كل شييء خلق الله على وجه الأرض ... " .
و قال ( ص ) : " إن أبني هذا ـ يعني الحسين ـ يقتل بأرض يقال لها كربلاء ، فمن شهد ذلك منكم فلينصره ... " .
و قال عنهم أمير المؤمنين ( ع ) : " ... لا يسبقهم من كان قبلهم ، و لا يلحقهم من كان بعدهم " .
و قال سلمان المحمدي : " ... فإن القتيل معه ـ أي مع الأمام الحسين ( ع ) ـ يعطى أجر سبعين شهيداً ، كلهم كشهداء بدر و أحد و حنين و خيبر " .
9ـ الثبات الحسيني المنقطع النظير .
قول عبد الله بن عمار بن يغوث : " ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده و أهل بيته و صحبه أربط جأشاً منه ، و لا أمضى جناناً و لا أجراً مقدماً ، و لقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شد فيها ، و لم يثبت له أحد ."
و قول السيدة زينب ( ع ) لمن قال في مجلس أبن زياد : إن الحسين جاء في نفر من أصحابه و عترته ، فهجمنا عليهم ، و كان يلوذ بعضهم بالبعض ، فلم تمض ساعة إلا قتلناهم عن آخرهم .
فكان جواب السيدة زينب ( ع ) : " ثكلتك الثواكل أيها الكذاب ، إن سيف أخي الحسين لم يترك في الكوفة بيتاً إلا و فيه باكٍ و باكية ، و نائح و نائحة " .
10ـ خوف الأعداء من الأمام الحسين ( ع ) و من أبيه علي ( ع ).
فالإمام الحسين (عليه السلام) يخيف الأعداء حياً و ميتاً فنجد عمر بن سعد يقول لجيشه:" هذا إبن الأنزع البطين، هذا إبن قتال العرب " .
و يقول : "ويحكم اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه و حرمه ، و الله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم ."
11ـ كسر الطوق المفروض على الحديث النبوي .
فقد تعرض الحديث النبوي للمنع و التزوير ، و إن الثورة الحسينية فتحت الطريق لنشر الصحيح منه و الذي خفي عن الأمة بسبب سياسة الخلفاء الثلاثة ، و سياسة بني أمية بعدهم و على رأسهم معاوية ، و بعد الثورة الحسينية فتح الباب على مصراعيه ليطرح أهل البيت (ع) بكونهم الامتداد الحقيقي للرسالة النبوية ، و محور الإسلام ، و الملجأ الصحيح للناس. بعد أن غفل عنهم الناس و تركوهم و أنكروا حقهم ، و حاربوهم . و قد أشار الإمام الحسين ( ع ) لهذا بقوله : " ... فإن السنة قد أميتت، و البدعة قد أحييت " .
يقول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء : " ... و لولا شهادته سلام الله عليه لكانت الشريعة أموية ، و لعادت الملة الحنيفية يزيدية ... " .
يقول الدكتور علي شريعتي : " و ها هم بن أمية يلجأون إلى سلاح غير سلاح القهر و القمع و البطش و المال ، بل أسلحة أفتك ، و أشد و أدهى ، فيطلقون تيار (( الجاهلية الجديدة )) لاجئين إلى مخطط جديد يهدف إلى زعزعة الإيمان و تجميد الفكر و شل القيم و إطلاق الرغبات و إشاعة الإبتذال و خنق الحرية و نشر الفكر العبودي . و كان هدف الحملة الجاهلية الجديدة ؛ العقول و النفوس لهدم البناء الروحي الذي كان أحد معطيات الإسلام و شل قواه و طمس معالمه في القلوب . "
فكانت الثورة الحسينية الفتح الذي أخذ من خلاله أهل البيت مكانتهم في المجتمع بكونهم قادة و أئمة هدى منصوص عليهم من قبل الله تعالى على لسان نبيه الأكرم ( ص (
يقول إبراهيم بيضون :" ... و في ضوء ذلك ، يسقط التفسير الذي توحي به الروايات التاريخية ، رابطة تحرك الحسين بموت معاوية القوي ، و مجييء يزيد الضعيف ، فالمسألة ليست خاضعة في الأساس لهذا الإعتبار ، و لم يكن كلاهما ، الأب و الابن ، هدفاً في حد ذاته، وإنما كانت حالة الإنحراف الآخذة في التفاقم ، و إن كان الإبن قد فرض تسريعاً لهذا التحرك بما يحمله استخلافه من ضرورة للمواجهة ، فيما كان حكم الأب ما يزال يمثل في رأي الرافضين له ، حالة اغتصابية للخلافة ، تم التعامل معها و كأنها حالة مؤقتة لابد من تصحيحها و إن طال الزمن ...و الجماهير الخاضعة رغماً عنها كانت في أمس الحاجة إلى تلك ( الهجرة ) الجديدة ، لتحصين الأمة من الإنحراف الذي أستفحل و إستعادة قيمها التي التبست ، و تقويم المسار الذي افتقدت معالمه ، و كاد ينقطع بها عن الهجرة الأولى .
12ـ أصبحت كربلاء مدرسة للأجيال .
فكربلاء و نظائرها من ملامح التاريخ الإنساني ، هي التي سارت بالبشرية نحو الكمال ، و خلقت لدى الناس حس التضحية في سبيل الحق و العدل و الإنسانية ، فلقد تجلى في ملحمة كربلاء الإستعداد البشري للتضحية عن دين الله ، و الكرامة الإنسانية ، كما و قد تجلت فيها حقيقة المواجهة مع الظلم و الطغيان أياً كان و كيف كان ، فلا حسابات عسكرية ، و لا عدة أو عدد فقط ( لا سكوت عن الظلم(
كما و تجلت في كربلاء حقيقة عدم التعلق بالمغريات الدنيوية ، أو التمسك بالحياة و الحرص عليها ، فقد كان المهيمن عليها " إن الموت لابد منه " ، “ خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة “ . فلابد إذاً من الحرص على موتةٍ كريمة كالحرص على الحياة الكريمة بل أكثر ، فإن لم تكن هنالك حياة كريمة فهنالك موت كريم ، موت به رضا الله تعالى .
و هذا ما جسده الإمام الحسين ( ع ) بقوله : "ألا و إن الدعي إبن الدعي قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلة ، و الذلة ، و هيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك و رسوله و المؤمنون و حجور طابت و طهرت و أنوف حمية و نفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، ألا و إني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد و خذلان الناصر " .