يحيي أبو زكريا
تعالت الصيحات في عالمنا العربي والإسلامي بأنّه لا بديل لأوجاع العالم الإسلامي ومشكلاته غير الإسلام ، وقد أقلقت هذه الصيحات وهذه الأطروحة العديد من النظم القائمة في خطّ طنجة – جاكرتا ( خطّ عرض العالم الإسلامي ) . وراحت هذه النظم تكيد بأصحاب هذا الطرح وتزجّ بهم في غياهب السجن ، وقد دافع أصحاب الطرح الإسلامي عن هذا الطرح بقولهم لقد جربنّا الإشتراكيّة فلم ننجح ، وجربناّ الرأسماليّة فلم ننجح فعلام لا نجرّب الإسلام .
وحتى المفكرّون الغربيّون الذين تنبأّوا بإندارس الحضارة الغربيّة الوشيك ، راحوا يشيرون إلى الخريطة الممتدّة من طنجة و إلى جاكرتا وبأنّها ستلعب دورا مهمّا في العقود المقبلة . ويملك العالم الإسلامي البديل الحضاري لمشكلات الإنسانيّة . وكما يقول أحد المفكرّين المسلمين فانّ مشكلة العالم العربي والإسلامي ليست فكريّة ، وما نحتاج إليه هو أن يدرك الفرد المسلم المسؤوليّة الحضاريّة الملقاة على عاتقه ، وينطلق من هذا المنطلق لإحقاق النهضة ، وقد أدرك الغرب هذه المعادلة ولذلك راح يبعث برسائل إلى العواصم العربيّة والإسلاميّة بضرورة الحدّ من الظاهرة الإسلاميّة بل و القضاء عليها .
النهضة والواقع الإسلامي :
لقد ورثنا من الماضي أثقالا تلو الأثقال من الترسبّات الفكريّة ، ولجأنا إليها في حلّ كل مشكلة تطرأ على واقعنا ، ناسين أو متناسين أنّ الفكر وليد البيئة ، والتراث الذي وصلنا إنّما عالج مشكلات كانت مطروحة في الحقبة التي وجد فيها ، وتلك الحقب الماضيّة التي نستلهم منها كلّ علاج لجميع مشاكلنا ،إنّما إكتنفتها ظروف خاصّة وحالات معينّة ومحددّة . وليس المفكّر هو الذي يعالج الواقع من منطلق كتاب دوّن في الطور الأوّل من العصر العبّاسي ، بل الصحيح أن ينطلق هذا المفكّر من الواقع لحلّ المشكلة ، دون التخلّي عن الثوابت الشرعيّة ، وعن الكتاب والسنّة الصحيحة . إنّه من الخطأ بمكان أن ينطلق المفكّر من كتب عالجت المشاكل الإجتماعيّة في حقبة المماليك والتتّار ليستخرجّ منها الدواء الشافي لمجتمعاتنا . وتجدر الإشارة هنا أننّا لا نقصد البتّة لدى حديثنا عن الموروث الحضاري الكتاب والسنّة الصحيحة ، بل المقصود هو النتاج الفكري الإسلامي الذي أنتجته العقول الإسلاميّة من صدر الإسلام وإلى يومنا هذا .
وليس المطلوب على الإطلاق التخلّي عن التراث ، بل المطلوب إعمال العقل ومحاولة الإبداع في كل المجالات . ولعلّ تقصيرنا في مجال الإبداع وصياغة خطاب إسلامي عصري أدّى إلى إرتماء النخب العربية والإسلامية في أحضان مدارس فكريّة لا تمّت بصلة إلى واقعنا العربي والإسلامي . وقد وجدت هذه النخب في الخطاب الغربي سهولة في الفهم وعصريّة في الطرح وإستيعابا لتفاصيل الحيّاة . وحجم الآفات التي تعصف بعالمنا الإسلامي من قبيل الأميّة والفقر و الجهل والمديونيّة وأزمة التغذيّة وكثرة الوفيّات وسوء توزيع الموارد الأوليّة والبطالة وقتل الوقت والبيروقراطيّة وما إلى ذلك ، تتطلبّ فكرا يستوعب كل تفاصيل هذه الأدواء ويقدّم دواء شافيّا واقعيّا لا طوباويّا . وفي هذا السيّاق يلاحظ أنّ المفكرين المسلمين قد تنوعّت معالجتهم لمثل هذه القضايا بتنوّع مشاربهم الفكريّة ؛ فهذا يقول أنّ المسألة تكمن في الصراع المذهبي ، وآخر يراها في النظم السيّاسية ، وثالث يراها في إنعدام المشروع التربوي ، وما إلى ذلك من الآراء . ولا مخرج من كل هذا التوزّع إلاّ بثقافة جديدة قوامها كما قال المفكّر الجزائري الأستاذ مالك بن نبي إمّا أن نتغيرّ و إمّا أن نغيّر . ولابدّ لكي نبنيّ نهضة أن ننظر إلى واقعنا المعيش بدقّة وموضوعيّة ، ونكفّ عن المدلهمّات التي أودت بفاعليتنا وإرادتنا ، وكفانا تعطيلا للفكر والإبداع .
والثقافة الصحيحة هي تلك التي تجعل صوب أعيننا ضرورة إنقاذ الإنسان المسلم من المصائب والمشاكل العويصة التي يتخبّط فيها اليوم . وعلينا أن نركزّ على حقيقة الأزمة وصلب الإشكاليّة ، وأن نتجنبّ المشاكل غير الواقعيّة التي إستنفذنا فيها الجهد والطاقة الفكريّة . فأيّهما أولى بالتفكير فيه، القضاء على الأمراض المؤدية بملايين الأطفال في العالم الإسلامي ، وإقامة صناعة تكفل لنا أن نعيش معتمدين على سواعدنا أم الإسترسال في الخلافات الفقهيّة المفرّقة لكيّان المسلمين .
حول المناهج التربويّة :
لقد وجدت في عالمنا العربي والإسلامي العديد من المعاهد التراثيّة التي كان لها الفضل الواسع في الحفاظ على الأصالة و تمطيط حركة الإجتهاد لتواكب العصرنة . ومن هذه المعاهد القرويين في المغرب الأقصى ، وزوايا الجزائر والأزهر الشريف في مصر و جامع الزيتونة في تونس ومعاهد الأصالة في الجزيرة العربيّة وبقية الديار العربية والإسلاميّة ، ولا يتناقش إثنان في أنّ هذه المعاهد أدّت دورها في الحفاظ على كيّان الأمّة الإسلاميّة وشخصيتها مقابل التغريب اللغوي والفكري ، وأدّت دورها كذلك على مستوى تهييج النفوس وتثوير العزائم والهمم لمجابهة الهجمات الصليبيّة على عالمنا العربي والإسلامي .
ومازال تاريخنا يذكر بجلال شخصيات من قبيل الأمير عبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي وعمر المختار ومحمّد عبده وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي وما إلى ذلك من الشخصيّات العربيّة والإسلاميّة التي كان لها الباع الطويل في إقامة صرح النهضة المعاصرة . ويلاحظ على بعض هذه المعاهد بعض الملاحظات نذكرها بإيجاز .
أولا : بعض هذه المعاهد مازالت من حيث البرمجة التربويّة مقتصرة على ماكتبه القدامى ، وفي هذا المجال ينبغي إدخال مواد علميّة في البرمجة لها صلة مباشرة بمشكلات العالم الإسلامي الراهنة .
ثانيّا : يتمّ الإقتصار في بعض المعاهد على ترديد ما يرد في المتون ، دون أدنى محاولة لإثارة العقل ، وإذا كان السلف قد أبدعوا فيحق للخلف أن يبدعوا أيضا .
ثالثا : بعض المعاهد لا تولي الإهتمام الكامل بالقرآن الكريم ، فالقرآن مازال ولحدّ الآن مصدر الإنطلاق , ومصدر الثقافة الإسلاميّة ولذلك ينبغي أن يعود دوره الذي كان له أيّام السلف الصالح من هذه الأمّة .
رابعا: ضرورة تشجيع النبوغ والعبقريّة والتكفّل بأصحاب المواهب والملكات .
والنوابغ والعباقرة في معاهدنا التعليميّة هم الكفالة الوحيدة لإيصال هذا التراث الهائل لأجيالنا المستقبليّة .
أمّا التعليم العصري وإن حاكى المناهج التغريبيّة بحذافيرها ، فإنّ له مساوئ ومحاسن . من حيث المحاسن , يمكن أن نتحدث عن الجانب العلمي والتكنولوجي الذي صار يدرّس في جامعات العالم العربي والإسلامي ، ولكن الذي حدثّ أنّ التركيز على الجانب النظري أكثر منه على الجانب العملي ، ويمكننا في هذا السيّاق أن نتحدثّ عن الأديب المصري طه حسين الذي ترك الأزهر الشريف وإلتحق بالجامعة المصريّة الحديثة ، وأبدى إعجابه الشديد بالمناهج المعاصرة . والمجموعة التي تركت الأزهر الشريف وإلتحقت بالجامعة المصريّة إنّما فعلوا ذلك سأما من مناهج قالوا وقلنا ، ذكروا وذكرنا التي كانت سائدة في الأزهر الشريف .
ويمكن حصر مساوئ الجامعات في كونها خرجّت جيلا من المستغربين الذين دعوا إلى الإنسلاخ التام عن التراث ونبذ الثقافة الإسلاميّة ، وضرورة محاكاة الغرب حذو القدّة بالقدّة ، ومن إطلعّ على كتاب : مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين يدرك ما أشرت إليه.
كما أنّ العديد من المناهج التعليميّة الجامعيّة لم نساهم لا من قريب ولا من بعيد في وضعها ، خاصّة العلوم الإنسانيّة التي تضجّ برؤى المفكريّن الغربيين والذين فرضوا علينا فرضا بسبب القحط الثقافي الذي يلّف واقعنا والحركة الإستعماريّة التي أخرتنا على مدى قرون .
وقد هجرت العديد من الجامعات العربيّة والإسلاميّة الثقافة الإسلاميّة ، بل هجرت اللغة العربيّة كما هو الحال في كثير من جامعات المغرب العربي حيث اللغة الفرنسيّة هيّ سيدّة الموقف . وكثيرا ما يكون الأساتذة المستعارون من الغرب أعضاء فاعلين في دوائر الإستخبارات العالميّة ، فهم يؤدّون من ناحيّة وظيفة تغريب الأمة ، وفي نفس الوقت يكتشفون النوابغ في بلادنا الإسلاميّة ليتم إستيرادهم الى الغرب ، ليساهموا في بناء النهضة الغربيّة . والذين ينجون من هذه الإغراءات ينالهم ما نال علماء الذرّة المصريين الذين تمّت تصفيتهم من قبل الموساد الإسرائيلي .
وبناءا عليه فالتعليم الكلاسيكي فيه محاسن ومساوئ ، والتعليم الجامعي العصري فيه محاسن ومساوئ أيضا . وهنا لابدّ من تصحيح المنظومة التربويّة كشرط محوري لبناء النهضة المرتقبة ، فعلى صعيد التعليم الكلاسيكي علينا أن نخرج من دائرة التقوقع ، وإيجاد خطاب بنّاء يسير يصل إلى العقول بيسر شديد ، ويجب تنظيف التراث مما علق به من أشواب .
وفيما يخصّ التعليم العصري فينبغي أن ينسجم مع التعليم التراثي ويشكلان سويّة خطّا متكاملا باتجّاه البناء الحضاري . كما أنّ التعليم العصري يجب أن يخرج من دائرة الإنبهار بالغرب ، ومن الناحيّة النظريّة فنحن نعتبر منتجين للفكر النظري والفلسفي وفق الكتاب والسنّة الصحيحة ، ويبقى القول أنّ الإستفادة من الغرب تكون على صعيد الجنبة الصناعية والتقنيّة ، ولكن دون أن يكون ذلك مدخلا باتجّاه السيطرة على قرارنا السياسي أو تحركنّا الدولي ..........