الشباب و الجفاف الروحي (القسم الثاني والأخير)

الثلاثاء 7 نوفمبر 2017 - 13:32 بتوقيت مكة
الشباب و الجفاف الروحي (القسم الثاني والأخير)

مقالات - الکوثر

الشيخ حسين الخشن

ثانياً: المواعظ المنعشة للروح (القسم الثاني و الأخير)

بعد أن يكتشف الإنسان نفسه وآفاتها من خلال عمليّة المساءلة والمحاسبة، تأتي الخطوة الثانية على صعيد إصلاح النفس، وهي خطوة ترمي إلى تخلية النفس من الملوثات، بإيقاظها من سباتها.

وأفضل ما يساعد على إيقاظ النفس وإنعاشها، هو المواعظ الروحيّة والتربوية التي تذكّرنا بالله واليوم الآخر، وتعلّمنا أنّ الإيمان الحقيقي ليس في الشكل ولا الذي يقف عند حدود اللسان، وإنّما هو الذي ينفذ إلى الروح والقلب، ليصبح هذا القلب حَرَماً ووطناً يسكنه الله، بحيث إذا ذكر الله باسمه أو بصفات جماله وجلاله أو بآياته اهتز القلب لذكره حباً وعشقاً، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: ٢]، وقال تعالى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد: ١٦].

والحقيقة، أنّ الإنسان مهما عصى وطغى وتجبّر، يظلّ لديه استعدادٌ داخلي كفيل بإيقاظه من كبوته.

والمواعظ المنعشة ليست بالضرورة أن تكون متمثلة بالاستماع إلى المحاضرات المطولة، فقد تكفي آية صغيرة أو كلمة مختصرة لتحرّك وجدان الإنسان التائه أو العبد الضال وتوقظه من سباته. يُحكى عن الفضيل بن عياض "أنّه كان يقطع الطريق .. وكان سبب توبته أنّه عشق جارية، فبينما كان يرتقي الجدران إليها سمع سامعاً تالياً يتلو: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16]، فقال: يا رب قد آن، فرجع وآوى إلى خربة فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتّى نصبح، فإنّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل وأمّنهم، وجاور الحرم حتّى مات"[15].

ورُوي أنّ الإمام الكاظم(ع) مرّ ذات يوم على باب شخص معروف اسمه بِشْر، فسمع من البيت صوت الملاهي والأغاني والرقص، وخرجت جارية من البيت تحمل القمامة فرمتها في الطريق، فقال لها الإمام(ع): "يا جارية هل صاحب هذا الدار حرّ أم عبد؟ فقالت: بل حرٌّ، فقال: صدقتِ لو كان عبداً لخاف من مولاه، فلمّا دخلت قال مولاها: وهو على مائدة السّكر: ما أبطأك علينا؟! فقالت: حدّثني رجل بكذا وكذا، فخرج حافياً حتّى لقي مولانا الكاظم (ع) فتاب على يده"[16].

وقد لا تكون المواعظ من جنس الكلام أصلاً، فربَّ موقف بليغ ومعبّر يؤثّر في النفس أكثر من كل الكلمات والمطولات.

ومن هنا تعرف فلسفة هذه الآداب الإسلامية المشجعة على زيارة المرضى وعيادتهم، وحضور الجنائز وتشييعها، فإنّ ذلك يشكّل واعظاً للإنسان وموقظاً له، وفي هذا السياق تأتي وصية النبي (ص) التي تدعو إلى استحضار الموت واستذكاره، ففي كتاب أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر قال: "وأكثِروا ذكر الموت عندما تنازعكم أنفسكم إلى الشهوات، وكفى بالموت واعظاً، وكان رسول الله(ص) يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثِروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذات، حائل بينكم وبين الشهوات"[17].

ثالثاً: البرنامج الإسلامي للتعبئة الروحية

أما الخطوة التالية (الثالثة) بعد خطوة التخلية، فهي تحلية النفس وشَحْنُها روحياً، فمن يبذل الجهد لتطهير نفسه وتخليتها من كل الملوثات لا بدّ أن يبادر على الفور إلى تحليتها بالفضائل وشحنها بكل عناصر المناعة الروحيّة، والحقيقة أنّ مَهمّة التحلية لا بدّ أن تترافق مع مَهمّة التخلية حتى لا يعيش الإنسان حالة فراغ روحي. وهذه المهمة – أعني التحلية - قد أعدَّ لها الإسلام برنامجاً تفصيلياً متكاملاً لا حاجة لنا معه لابتكار طرق أو أساليب من بنات أفكارنا، وهذا البرنامج - كما أسلفنا - هو عبارة عن منظومة العبادات الواجبة والمستحبة التي شرّعها الإسلام.

أ‌- محطات متنوعة وهدف واحد

والملاحظ في هذا السياق أنّ الإسلام أعدّ لنا محطات متعددة ومتنوعة للتعبئة الروحية:

- فهناك محطّات يومية (الفرائض والنوافل اليومية).

- محطّات أسبوعية (صلاة الجمعة).

- محطّات شهرية (استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، واستحباب العمرة المفردة في كل شهر قمري).

- محطّات سنوية (شهر رمضان، ليلة القدر، الحج).

إلى ذلك، فهناك جملة من الأنشطة العبادية أرادها الله تعالى أن تبقى مفتوحة، فمع أنّها قد تكون مستحبّة ومرغوبة في حالات معيّنة أو أوقات أو أزمنة محددة، ولكن لا مانع شرعياً من الإتيان بها في أيّ زمان أو مكان أو في أي حال، وذلك من قبيل الدعاء، فإنّ بابه مفتوح أمام العبد، وهكذا الصوم أو الصلاة. فصحيح أنّ هناك أزمنة رغّبت الشريعة في اتّخاذها أوقاتاً للعبادة، لكنْ ثمّة مجالٌ للإنسان أن يصوم في أيّ يوم أراد، باستثناء أيام مخصوصة نصّت الشريعة على حرمة الصوم فيها كالأعياد، وله أن يصلي في أيّ ساعة شاء وأحبّ، فالصلاة – كما جاء في الأحاديث الشريفة – "خير موضوع، من شاء استقلّ ومن شاء استكثر"[18]، نعم، عليه أن يلتزم بالطريقة المشروعة والمنصوصة للصلاة، فلا يبتكر صلاة خاصّة به ويعتبر أنّ لهذه الكيفيّة التي اخترعها خصوصيّة يواظب عليها، فهذا يوقعه في محذور الابتداع في الدين. وقد ذكرنا سابقاً، أنّ الله تعالى في الوقت الذي يريدنا أن نعبده، فإنّه يريدنا أن نعبده بالكيفية التي يريدها، ولهذا لا يحقّ للإنسان أن يبتكر صوماً خاصّاً به كصوم يومين متتالين - مثلاً - وهو ما يعرف بصوم الوصال، أو ما إلى ذلك.

ويبقى الباب الأوسع المفتوح أمام العبد والأبعد عن القيود هو باب الدعاء، فالله تعالى يحبُّ أن يرى العبد وهو يدعوه ويناجيه في أي زمان أو مكان، وعلى كل حال، وبأي لغة أو لسان، وإن كان للأدعية المأثورة خصوصيةٌ وميزة لا تبلغها الأدعية التي يخترعها سائر الناس، فالأدعية المأثورة قد صدرت عمّن يعرف أكثر من غيره كيف يخاطب ربّه ويناجيه.

ومن الأنشطة الروحية الهامة: زيارة مراقد الأنبياء (ع) والأئمة (ع) والأولياء، فهي تشكّل فرصةً مثالية للشحن الروحي المعنوي، كما هي مناسبة للتربية والتهذيب من خلال استحضار مواقف الشخصية المزورة وتراثها، واستلهام عطائها الفكري والروحي والرسالي.

ب – دور المسجد في التربية الدينية

وكما أنّ ثمة أزمنة مختلفة أرادها الله أن تشكّل محطات للقائه تعالى، فإنّ ثمّة أمكنة أيضاً تمثّل فرصةً للقاء. صحيح أنّ بإمكان المؤمن أن يعبد الله تعالى في أيّ مكان أحبّ وأراد، لكن ثمّة أمكنة خاصة جعلها الله محفوفة بأجواء روحيّة خاصّة، ومن أبرز هذه الأماكن المساجد، حيث يشكّل المسجد المنطلق والأساس لبناء الشاب المسلم بناءً روحياً وفكرياً متوازناً، فالحضور في المسجد مغمورٌ بألطاف إلهية جمّة، وهو ذو فوائد روحية واجتماعية ورساليّة عديدة، ففي الحديث عن علي (ع)، أنّه كان يقول: "من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله، أو علماً مستطرفاً، أو  آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة تردّه عن ردى، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو يترك ذنباً خشية أو حياء"[19].

ولأجل هذه الأهمية التي يحتلّها المسجد في البناء الروحي والثقافي كانت انطلاقة النبي الأكرم (ص) من المسجد في بناء وإعداد وتربية الجيل الإسلاميّ الأول الذي قاد الرسالة وحمل الإسلام إلى العالم، وعلى هَدْيِ النبي (ص) لا بدّ أن تسير كلّ الحركات الإسلامية وكلّ الدعاة والعلماء الرساليين الذين يعملون على تربية جيل إسلامي يفقه الإسلام ويحمله إلى العالم، ولا يمكننا أن نتصوّر وجود جماعة إسلامية لا يكون المسجد هو أساس انطلاقها وحركتها.

عزوف الشباب عن المساجد

وإنّه لأمر يثير الاستغراب والقلق حقّاً، ما نلحظه ونشاهده من عزوف الكثير من الشباب المسلم عن ارتياد المساجد! وهذا أمرٌ لا بدّ أن يحرّك الرساليين ويستنفرهم لدرس هذه الظاهرة والتعرّف على أسبابها، فهل المشكلة هي في ضعف البرنامج الروحي في المساجد؟ أو في عدم جاذبية الخطاب الديني لأئمّة المساجد بل ومنفريته أحياناً، كما نلاحظ في تلك المطوّلات الخطابية التي يلقيها بعض أئمة المساجد على المصلّين الذين قد يغلبهم النعاس أو يغطّ بعضهم في نوم عميق؟! أو أنّ المشكلة تكمن في تحويل المساجد إلى مراكز حزبية ذات لون سياسي معيّن، ما قد يجعل الآخرين ممّن لا يلتقون مع هذا الخطّ السياسيّ يعزفون عن ارتيادها؟

قد تكون المشكلة كامنة في كلّ ما تقدّم، الأمر الذي يفرض علينا المبادرة إلى رفع الموانع وطرح البدائل والمحفِّزات؛ ومِنْ أهمِّ هذه المحفزات، أن نعمل على تثقيف الناس بأهميّة ارتياد المساجد وفوائد ذلك وآثاره الإيجابية، وأن ننزل من بُروجنا العاجية ونتخلّى – نحن طلاب العلوم الدينية - عن فكرة "أنّ العالم كالكعبة يُزار ولا يزور"، فإنّها فكرة خاطئة ومنفّرة، ولا أساس لها في الدين؛ والصحيح هو ما كان عليه رسول الله (ص) حيث كان يبادر إلى الناس في أسواقهم وبيوتهم ويدعوهم إلى الله تعالى وإلى ارتياد بيوت الله، ولنعم ما وصفه به تلميذُه أمير المؤمنين (ع) عندما قال: "طبيب دوّار بطبه قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه. يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عُمي، وآذان صم، وألسنة بكم. متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة"[20].

ولا يقلّ غرابة عن ذلك ما نلحظه أيضاً من تعالي بعض الأشخاص الذين كانوا ذات يوم في عداد الرساليّين عن الحضور الى المساجد، وذلك بمجرد تسلّم أحدهم لمسؤولية معينة في البرلمان أو الوزارة أو غير ذلك، وكأنّهم يتّخذون المسجد سُلّماً أو مطيّة للوصول إلى تحقيق رغباتهم وأغراضهم! إنّ الإنسان الرسالي هو إنسان مسجدي، وتسلّمه لمسؤولية معينة يفرض عليه أكثر من أي وقت مضى أن يكون بين الناس ومعهم في المساجد وغيرها، وعليه أن يتذكّر على الدوام قول الله تعالى في مخاطبة نبيه الأكرم(ص): وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: ٢٨].

إنّ التزام المؤمن بهذا البرنامج الروحي وفق المنهج الشرعي المذكور كفيل بأن يعمر قلوبنا بحبّ الله تعالى ويجعل حياتنا عامرة بذكر الله، وكما قال أمير المؤمنين(ع) في دعائه: "أسألك بحقّك وقُدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة وبخدمتك موصولة.."[21].

والسؤال الكبير هل نستفيد من هذه الفيوضات والعطاءات؟ هل تنفذ الصلاة إلى قلوبنا وأرواحنا أم أنّها تحوّلت إلى طقوس جوفاء تعوّدنا الإتيان بها وأدمنّاها حتى لو تركناها استوحشنا؟ هل نستحضر الله في كلّ أفعالنا وفي كل حالاتنا وأوقاتنا؟ هل نشعر برقابة الله تعالى ونتحسس وجوده أم أنه أهون الناظرين إلينا؟!

وما أبلغ الموعظة المروية عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، حيث "جاءه رجل وقال: أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية فعظني بموعظة فقال عليه السلام: افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت، فأول ذلك: لا تأكل زرق الله وأذنب ما شئت، والثاني: اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت، والثالث: اطلب موضعاً لا يراك الله وأذنب ما شئت، والرابع: إذا جاء مَلَكُ الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت، والخامس: إذا أدخلك مالك في النار فلا تدخل في النار وأذنب ما شئت"[22].

الهوامش :

[15] تاريخ مدينة دمشق ج 48 ص 382.

[16] تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي ج 1 ص 571.

[17] وسائل الشيعة ج2 ص 437، الباب 23 من أبواب الاحتضار الحديث 9.

[18] بحار الأنوار ج79 ص309، نقلاً عن كتاب الإمامة والتبصرة.

[19] أمالي الشيخ الصدوق ص 474، ومن لا يحضره الفقيه ج 1 ص 237، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج 3 ص 294، وروي نحوه عن رسول الله (ص) ، انظر: الخصال للصدوق 410.

[20] نهج البلاغة ج1 ص207.

[21] مقطع من دعاء كميل بن زياد.

[22] انظر: بحار الأنوار ج 75 ص 126، وراجع حول هذا الموضوع كتاب: "الجفاف الروحي" للسيد عبد الله الغريفي.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

الثلاثاء 7 نوفمبر 2017 - 11:04 بتوقيت مكة