بقلم الشيخ محمد أحمد حجازي
يحدّثنا القرآن الكريم عن حقيقة تكوينيّة تتعلّق بفلسفة خلق الأشياء بمراحل زمنية متدرِّجة وفقاً للأسباب والمسبِّبات والقوانين الطبيعية التي جعلها معياراً لإيجاد الخلق وتقدير المقدّرات الغيبيّة ، وقد أسمى هذه المراحل المتدرّجة "بالأيام" . قال تعالى :" الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ"([1]) ..
فاليوم وإن كان بحسب تعريفه العلمي : بأنه الوقت المحدّد من طلوع الشمس إلى غروبها ، إلا أنَّ هذه الآية الكريمة لا تشير إلى خصوص هذا الوقت القصير إنما هي إشارة إلى المراحل الزمنيّة الستّة ، والتي قد تكون بستة آلاف عام ، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في سورة الحج :" وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ"([2]) ، أو أنها تشير إلى مراحل زمنيّة غيبيّة لا يعلم سرَّها إلا الله تعالى ، لأنَّ كل ما توصّل إليه علماء الجيولوجيا والأنتروبولوجيا في سنيّ بدء الخلق والتكوين ، ما هي إلا احتمالات ظنيّة لا ترقى إلى حقائق الدِّين الغيبيّة والتي لا يعلم سرّها إلا الله تعالى .
وبكلِّ الأحوال ، فإنَّ اليوم هو نتيجة لذلك النظام الكوني الذي جعله الله تعالى متناسقاً فيما بينه ومترابطاً ببعضه طبقاً لمنظومة شمسيّة إبداعيّة يضيع العقل البشري في قدرته للكشف عن أسرارها .
ووفقاً لهذا التنظيم اللامتناهي في دقّته وعظمته ، فقد اختار الله تعالى أياماً من خلقه التكويني والزمني وجعلها سيدة على بقيّة الأوقات .
فكما أنَّ المولى "عزّوجلّ"جعل معياراً للتفاضل في جميع مخلوقاته البشرية والحيوانية والنباتية والجمادية ، كذلك جعل معياراً للتفاضل بين الأيام ، فيوم الجمعة هو سيّد الأيام ([3]) ، والأعياد الإسلامية هي من أيام الله ومفضّلة على الأيام الأخرى ، وكذلك استعمل القرآن الكريم هذه التعابير في أيام الحج كمثل:"الأيام المعدودات" و"الأيام المعلومات" التي تتعلّق بأول أيام ذي الحجّة ، وكذلك نلاحظ أنَّ الأيام هي مؤشِّر على مواقيت معيّنة ومحدّدة وفق تشريعات الإسلام، فمن غير المقدور لأحد أن يغيّر فريضة الصوم من شهر رمضان إلى شهر آخر على سبيل المثال لا الحصر، وذلك لأنَّ الأيام هي من مخلوقات الله، وهو وحده سبحانه وتعالى القادر على فرض عبادته في مواقيت محدّدة وذلك لما فيها من جلب للمصالح ودفع للمفاسد .
من هنا ، تتميّز بعض الأيام عن غيرها لما فيها من ظروف وأحداث لعبت دوراً أساسيّاً في التاريخ البشري، كبعثات الأنبياء ، وهلاك المشركين والظالمين ، أو بحوادث ابتلاء الأنبياء والأولياء ، ولكن مهما اختلفت الأيام بصفاتها ومنازلها ومواقيتها فكلها أيام الله، وهذا التعبير نجده في القرآن الكريم حينما يقول المولى (%): " وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ"([4]) .
ولذلك نجد أنَّ أئمة أهل البيت(ع) أرشدونا إلى مصادقة الأيام وعدم معاداتها ، فقد جاء عن النبي (ص) أنه قال :"لا تعادوا الأيام فتعاديكم "([5]). وعن الإمام علي (ع) أنه قال:" وكل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد"([6]) .
فمن الخطأ تصوير بعض الأيام بالنحوسة، وأخرى بالسعود ، ولو عدنا إلى تعبير القرآن الكريم عن بعض الأيام بالنحس ، كما في قوله تعالى :" فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ"([7]) . فالاستمرار هو صفة للنحس لا لليوم نفسه، وتعني الآية وما يشابهها من آيات الكتاب أنَّ العذاب مستمر على قوم هود وعاد ، فالنحوسة تعود للظروف لا للظرف .
ولو عدنا إلى أحاديث أهل البيت (ع)، فنلاحظ أنهم كانوا يعالجون عقلية العرب آنذاك حول الشؤم والنحوسة اللذين كانا شائعين إلى حدّ أنهما كانا سِمَتين بارزتين في عاداتهم وخرافاتهم .
فمن جملة المعتقدات أنَّ آخر أربعاء من كل شهر هو يوم شديد النحوسة لوقوع العديد من الأحداث التاريخية المؤلمة ، لكن الإمام الرضا(ع) حينما سُئِل عن يوم الأربعاء من آخر كلّ شهر، وعمل فيه خلافاً على أهل الطِيَرة(المتشائمين)، وُقي من كل آفة وعوفي من كل عاهة ، وقضى الله حاجته ([8]) .
وما أجمل ما قاله الإمام الهادي (ع) لشخص يشكو غلبة الدهر عليه : "ما ذنب الأيام حتى صرتم تتشأمون بها إذا جوزيتم بأعمالكم فيها "([9]).
وعلى ضوء الرواية الأخيرة ، فإنَّ الإفساد في الأرض هو الذي يجلب نحوسة الأيام وليست الأيام نفسها مَنْ يجلب الشؤوم والنحوسة .
قال تعالى :" ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ "([10]) . وقال تعالى :" وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ "([11]).
ولهذا ، ينبغي على الإنسان المؤمن أن يربي نفسه على التفأل بخلق الله، سواء تعلّق ذلك بحركة الكواكب والزمن ، أو تعلّق بأفعال البشر ، ولا يضمر في قلبه إلا الخير وفأل الخير. وخير ما قدمه الأئمة (ع) من علاج لهذه النظرة التشاؤمية هو ما قاله الإمام الصادق (ع) :" الطِيرة على ما تجعلها إن هوّنتها تهوّنت، وإن شددتها تشدّدت ، وإن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً "([12]) .
ويعني ذلك أنّه كما نعوّد أنفسنا ، فإن لم نضمر إلا التفأل بالخير والسعادة فلن نَجني إلا ذلك .
يبقى أن نشير إلى أنَّ هناك بعض الأوقات المخصوصة في أيام السنة، كأيام شهر رمضان المبارك ولياليه، وأيام الولادات للنبي (ص) والأئمة (ع) ووفياتهم، أو كليلة النصف من شعبان ، فهذه وما يشابهها تزيد بركتها عن بقيّة أيام السنة ، كما قال تعالى في ليلة القدر :" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ "([13]).
وكذلك يتميّز وقت السَّحر بخصوصيّة التفرّغ للعبادة والاستغفار واستحباب التسحّر في أيام الصوم لما فيها من بركات عظيمة . فصحيح أنَّ الأيام هي أيام الله وكلّها خلق الله تعالى ، لكن بعض الأيام تزداد بركَتها وتتميّز عن غيرها لما جعل الله تعالى فيها من مبادئ دينيّة تؤثّر على إحياء الإنسان .
مضافاً إلى ذلك كلّه، يظهر من بعض الروايات بعض الإستثناءات في مسألة إيقاع بعض الأعمال في أوقات ترتبط بحركة الكواكب ، كما في قضية كراهة عقد الزواج والقمر في برج العقرب ، فإنَّ مثل هذا الطرح لا يتعارض مع فكر الإسلام التفاؤلي ، لكن لا يتنافى مع كون بعض الأمور يكون لها أثر وضعي بحيث يردّ على الإنسان بعض الأمور التي يكرهها، وبالتأكيد ليس بالضرورة دائماً أن يقع ذلك المكروه([14]) .
وفي الختام ، على الإنسان أن ينظر إلى خلق الله كلّهم نظرة إيجابية وألّا يتأثّر بالموروث الشعبي إلا إذا كان هناك ما أُشير إليه في الروايات ونُبّه إليه .
الهوامش:
[1] - سورة الفرقان : الآية 59 .
[2] - سورة الحج: الآية 47 .
[3] - ميزان الحكمة ، محمد الريشهري ، 1/410 .
[4] - سورة إبراهيم : الآية 5 .
[5] - بحار الأنوار ، العلامة المجلسي، 36/413 .
[6] - نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع) ، 4/100 .
[7] - سورة القمر : الآية 19 .
[8] - مكارم الأخلاق ، الشيخ الطوسي ، ص 241 .
[9] - وسائل الشيعة ، الحر العاملي ، 5/161 .
[10] - سورة الروم : الآية 41 .
[11] - سورة الشورى : الآية 30 .
[12] - ميزان الحكمة ، محمد الريشهري ، 2/176 .
[13] - سورة الدخان : الآية 3 .
[14] - راجع : حجازي، محمد ، المفاهيم الدينية عند العوام بين الأُسس الشرعية والمشهورات العرفية، دار المحجّة البيضاء ، 2005 .