مئة عام مرت وهم يضعوننا في صندوق المذهبية المغلق، وأودعوا مفاتيحهُ عند «الفرقةِ الناجية»، بعد أن كنا نقتدي برحلة حج «بولس الرسول» التي مرت من دمشق لأنها عن التعريف غنية.
مئة عام مرت حتى بات هناك من يحمل صليباً مشوهاً باحثاً عن الرعية بين ذئاب إسرائيل وضباعِ السعودية، هل حقاً أن هناك حيث مرابع «آل سعود» أجراساً تقرع وكنائسَ عامرة بالرعية، أم أننا مازلنا نمارس في أكاذيبنا فن التقية؟ 100 عام وفي كل يومٍ لدينا بلفور، لكن من قال إنه لم يعد هناك رغم كل الآلام، من يحمل رايةَ الحق النقية؟
عند تحريرِ أي منطقة من التراب السوري من رجس التطرف بكل أصنافه، يكون السؤال المنطقي ما المنطقة التالية؟ لكن ومنذ أن أعلنت القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة انتهاءَ عمليةِ تحرير مدينة دير الزور كان هناك سؤال أشمل: ماذا بعد تحرير الدير، تحديداً أن داعش الأسود بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد حصار مدينة البوكمال من الجهتين العراقية والسورية، وتبخر الخرافة المسماة «دولة إسلامية»؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نلتفت لثلاثة أحداث مهمة وقعت في الأيام القليلة الماضية، فما هي؟
الأول: وهو ما يتعلق باللقاء المفترض الذي تم بين مسؤول أميركي رفيع ورئيس جهاز الأمن الوطني السوري علي مملوك، هذا اللقاء إن تم، فإنه يمكننا أن نعتبر أن إنجازاً ما قد تحقق بمعزل عن الثقة شبه المعدومة التي تبديها القيادة السورية بالأميركي وسياساته، لكن انعقاد الاجتماع المفترض لا يعني بالضرورة الوصول لنتائج مهمة يمكن البناء عليها مستقبلاً، تحديداً أن زيارة كهذه، تم تسريب خبرها دون الإعلان عنها رسميا، لا تبدو أنها في إطار سعي واشنطن لإعادة ما يسمونه «التنسيق الأمني» في مجال محاربة الإرهاب لأنها لا ترى نفسها حالياً بحاجة لذلك، لكنها قد تبدو تطبيقاً جزئياً لنصائح السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد لإدارته بضرورة الانسحاب من سورية لأن الجيش السوري عازم على استعادة جميع الأراضي السورية، وعندما نقول تطبيقاً جزئياً فهذا يعني أن الأميركي يريد ثمناً سياسياً لرفع الغطاء عن ميليشياته في الشمال السوري والتنف، هذا الثمن يبدو أنه تعدى العبارات المكررة من قبيل انسحاب إيران وحزب اللـه من سورية أو ما يسمونه «كسر النفوذ الإيراني» في سورية، فهل وصل الأمر مثلاً لعرض مقايضة الانسحاب بتشكيل حكومة انتقالية، أو حلّ ما للحكومة المركزية حتى إنجاز الدستور الجديد وإنجاز انتخابات رئاسية وتشريعية بإشراف أممي؟ هذا الكلام يبدو أكثر منطقية لكن لا يبدو أن القيادة السورية بوارد القبول بسخافات كهذه، ولعل ما يؤكد أن الاجتماع أخفق أن «الإسرائيلي» فتح الجبهة الجنوبية لأنه كان يريد أن يستثمر في هذا الفشل للضغط من هذه الجبهة كون الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي يرون أن أي حل لا ينتج رحيلاً لنظام سياسي يتبنى مقاومة إسرائيل بشكل علني هو بمثابة هزيمة.
أما الحدث الثاني، فهو متعلق بتصريحات مستشار المرشد الأعلى الثورة الإيرانية للشؤون الدولية علي أكبر ولايتي أن الجيش العربي السوري سيتحرك لاستعادة السيطرة على الرقة.
قبل الخوض بأبعاد التصريح لابد من توضيح نقطة مهمة بأن الملف السوري في إيران ومنذ الأشهر الأخيرة لولاية الرئيس السابق وصاحب نظرية «أن ما يجري في المنطقة صحوة إسلامية» محمود أحمدي نجاد، هو بيد المرشد الأعلى الثورة الإيرانية علي الخامنئي، بالتالي لا يبدو أن هذه التصريحات الخارجة على لسان مستشاره الذي يتمتع بخبرة وحنكة منذ توليه لسنوات وزارة الخارجية الإيرانية، تأتي في إطار ملء الفراغ الإعلامي ومن على منبر لبناني، تحديداً أنها جاءت بعد الزيارة التي وصِفت بالتاريخية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران وما تلاه من توقيع اتفاقيات تأخذ العلاقة بين البلدين نحو التحالف وليس باتجاه البروتوكولات المبنية عليها العلاقات بين الدول، لذلك تبدو هذه التصريحات كما لو أنها استباقٌ لما سيجري أو كما يمكننا تسميته بالرمي التمهيدي قبل ساعة الصفر، تحديداً أن التركي دخل على الخط وبقوة عندما واصل رئيس هذا النظام رجب طيب أردوغان تهديداته بأن حربه على ميليشيا «وحدات الحماية الشعب» الكردية ستتواصل بذريعة الإرهاب، فهل سيكون هذا الكلام المتصاعد حول ما بعد دير الزور هو وسيلة لحقن الدماء في الشمال تحديداً أن انفجاراً كهذا يمكن ببساطة تفاديهِ لمجرد دخول قوات الجيش العربي السوري لهذه المناطق، لأن الانفصاليين حينها سيسقطون الذريعة الأردوغانية ويجبرونه على القبول بدخولهم العملية السياسية، أم إن هناك سعياً من المتضررين من إخفاق سياساتهم في سورية لإشعال الشمال والجنوب السوري دفعة واحدة؟
الحدث الثالث، هو ما حدث قبل ساعات من إعلان السعودي سعد حريري استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية من مسقط رأسه الرياض، بالتأكيد تبدو هذه الاستقالة مفاجئة للبعض تحديداً في توقيتها الذي يُعد فيه لبنان الرسمي والاقتصادي العدة للحصول على قطعة من كعكة إعادة إعمار سورية، لكن وفق سياق الأحداث لا تبدو الاستقالة بالحدث الغريب..
فمنذ الزيارة التي قام بها سفيرا «آل سعود» و«أحفاد شخبوط» في لبنان لوزير العدل السابق والمنشق عن تيار الحريري «أشرف ريفي» كان واضحاً أن عملية سحب الحريري من الواجهة باتت مسألة وقت لا أكثر، تحديداً أن ريفي الذي تربطهُ علاقات مباشرة مع جميع المجموعات المتطرفة التي تنشط بشكل منظم أو فردي في طرابلس، تجعل منه بديلاً مقنعاً على الأقل في المرحلة القادمة التي يريدها «آل سعود» ممزوجة بالفوضى في لبنان، لأن قرار الحرب الإسرائيلية فيما يبدو لا رجعة عنه، تحديداً أن السعوديين يهددون ومنذ أشهر بفوضى قادمة للبنان، والحريري برر استقالته بما سماه «الخوف من الاغتيال»، فهل تعود سياسة الاغتيالات لشخصيات لبنانية من فريقه السياسي والاتهامات الجاهزة تشعل هذه الفوضى؟ هو احتمالٌ، وبكل الأحوال فإن استقالة الحريري وسحبه من الواجهة في هذا الوقت ليس بالحدث العابر، فماذا ينتظرنا؟
في السياسة قد يبدو من سياق الأحداث، أن الزيارة، غير المؤكدة والتي نفتها واشنطن أساسا، للمسؤول الأميركي إلى سورية قد فشلت، لكن يجب الانتباه أنها ليست الزيارة الوحيدة التي تكسر العزلة عن القيادة السورية، فالحديث عن موفد لملك إمارة شرقي نهر الأردن يتصاعد، والزيارة التي سيقوم بها وزير الخارجية الفرنسي الأسبق رولان دوما لا تخرج عن هذا السياق، لأنها تختلف عن زيارات النواب الفرنسيين لما يمتلكهُ من خبرة في الشرق الأوسط واحتراماً في الأوساط السياسية الفرنسية الحاكمة، لكن علمتنا التجربة في الحرب على سورية أن ارتفاع حرارة السياق السياسي، يلاقيه دائماً صعود في حرارة السياق العسكري، فما جرى من هجوم على بلدة حضر على سفوح جبل الشيخ في محافظة القنيطرة، والصمود الأسطوري لأهلها من مدنيين ولجان شعبية بمؤازرة الجيش العربي السوري، لم يكن مجرد قرار إسرائيلي بدعم المجموعات الإرهابية للسيطرة على القرية، تحديداً بعد إخفاق آخر المحاولات المتعلقة باستصدار قرار في مجلس الأمن تحت الفصل السابع بذريعة تورط الجيش العربي السوري بالهجوم الكيميائي في خان شيخون وما تلاه من تفنيد روسي عقلاني أغلق الأبواب أمام كل المحاولات القادمة، بل هو قرارٌ إسرائيلي بأن آخر العلاج الكي وأن الفوضى المطلوبة في لبنان ستُصرف في سورية ولبنان معاً، لكن على الجميع أن يتذكر أن سحب العدو للمغامرة الكبرى هو بحد ذاته انتصار فكيف وإنْ وقع العدو في فخ المغامرة، عندها عليهم أن يتعظوا أنه لا يزال هناك من بإمكانه أن يبدل التاريخ ويحول زمن الهزائم لانتصارات، فمن كان يتوقع أن تتزامن ذكرى وعد بلفور بذكرى تحرير دير الزور؟! في كلا الجبهتين الشمالية والجنوبية قد تختارون التاريخ، لكنكم حكماً لن تختاروا بعد اليوم ماذا سيقول التاريخ.
* فراس عزيز ديب/ الوطن