الشيخ شفيق جرادي
في هذا الموضوع نريد أن نطرح بعض الأسئلة و هي: ماذا لو اختلفنا في الدين الواحد، بين مذهب وآخر، أو بين مدرسة كلاميّة وفقهيّة، أو لاهوتيّة، ومدرسة أخرى؟ فهل يستدعي مثل هذا الاختلاف أن نوسم صاحب الرأي المذهبيّ المختلف بالكافر؟.
انطلاقًا من هذه الأسئلة، يمكننا أن نقرّر دائرة الكلام، وهي تختصّ بجماعة دينيّة واحدة، وإنّ هذه الجماعة اختلفت فيما بينها بجملة من الأمور منها ما يمكن أن يكون عقائديًّا، ومنها ما يمكن أن يكون أخلاقيًّا، بمعنى قيم الارتكاز الأخلاقيّ، ومنها ما يمكن أن يكون شرعيًّا أو طقوسيًّا…
وهنا، من الضروري أن نفرّق في هذه الاختلافات بين أنواعها ومستوياتها، وهي، في ظنّي، تنقسم إلى:
أوّلًا: اختلاف في أصل عقائديّ أو أخلاقيّ أو تشريعيّ (أي المقرّرات المركزيّة).
ثانيًا: اختلاف في الأصل التفسيريّ للعقيدة والأخلاق والتشريع.
ثالثًا: اختلاف، لا في الأصل، بل في التفسير أو التأويل والاجتهاد.
رابعًا: اختلاف في المرجعيّة التاريخيّة، وهي، وإن كانت من حيث المضمون القيميّ أقلّ رتبةً من سابقاتها، إلّا أنّها، من حيث التأثير، إن لم تكن من نفس المستوى فقد تفوقها مجتمعةً في كثير من الأحيان، وهذا حال كثير من الطوائف والمذاهب والمدارس الدينيّة والمذهبيّة.
وعليه، فإنّ السؤال يكون: متى يُخرج هذا الاختلاف جماعةً ما، من الدين نفسه؟ الأمر الذي يسمح لبقيّة المذاهب أن تعتبرها خارجةً عن أصل الدين.
لعلّ الإجابة تحتاج إلى معايير دقيقة جدًّا بهذا الشأن، وأيّ تهاون فيها قد يؤدي بمخاطر إيمانيّة حقيقيّة… لأنّ الإنسان في الرؤية الدينيّة مُستأمن من قبل الله، وعليه أن يؤدّي الأمانة بإحساس عميق من رقابة الله عليه، فقد نستطيع القول مثلًا: أن تبني أيّ أصل يُحدث خللًا بالأصل الإيمانيّ المحوريّ هو خروج عن دائرة الدين الجامع للمذاهب في دين واحد. فعلى سبيل المثال لو قدّسَت طائفة دينيّة نبيّها أو زعيمها إلى أن نسبته للربوبيّة والألوهيّة، فهذا، بحسب العقيدة الإسلاميّة، مثلًا فيه نسف للمحور العقائديّ التوحيديّ. وأيّ مسّ بأصل التوحيد عند المسلمين يُعدّ تنكّرًا لكلّ الدين وأساسه الباني له. بل هو شرك صريح، لكن لو فرضنا أنّ طائفة ما، كان من الثابت عندها أصل التوحيد ومحوريّته المطلقة، لكنّها تبنّت أصلًا عقائديًّا آخرًا، مثل النبوّة مثلًا، وفسّرته بطريقة يستشعر معها قارئوها، إنّ هذه الطائفة تُنزَّل النبيّ أو الوليّ منزلة “الربّ”. فهل يصحّ حينها، إخراج هذه الطائفة من الدين واتّهامها بالكفر والإلحاد. بمعنى آخر، نفهم أن نتّهم من تعرّض لأصل دينيّ بالكفر، لكن هل مجرّد إعطاء تفسير ما لأمر عقائديّ محوريّ يُفهم عند البعض منه أنّه غير دقيق في مقاربة التوحيد ومبتنّياته، يسمح بمثل هذا الاتّهام والإجراء التكفيريّ الخطير؟! خاصّةً إذا فهمنا أنّ التعاطي مع الأمور العقائديّة يتمّ عبر مستويات ثلاث:
1 - المستوى الأول: الإيمان بروح وأصل المعتقد.
2 - المستوى الثاني: الإيمان بتفسير خاصّ للأصل الاعتقاديّ.
3 - المستوى الثالث: طريقة الإعلان عن المقرّرات العقائديّة.
فممّا لا شكّ فيه أنّ الإخلال بالمستوى الأوّل هو خروج إراديّ عن الاعتقاد، أمّا المستوى الثاني والثالث، فحتّى لو استلزم مثل هذا الخروج، إلّا أنّه غير إراديّ وغير مقصود، بل كان المقصود حفظ المستوى الأوّل. فبأيّ حقّ نتّهم الخاطئ، بالكفر خاصّةً إذا لم يصدر عنه مظلمة أخلاقيّة. وسنوضح فيما بعد أنّ هناك ما يمكن لنا أن نسمّيه بالكفر الأخلاقيّ.
إنّ الخطأ الشنيع في إجراء الأحكام ما بين أصل الإيمان العقائديّ وتفسير ذاك الأصل. مثلًا، هناك من يعتقد حتمًا أنّ الله لا شبيه له وإنّه وجود محض لا مادّة فيه، إلّا أنّه، حينما يفسّر اعتقاده هذا، قد يقع عن غفلة أو ضيق بيان في التجسيم، فكيف نحكم على مثل هؤلاء أنّهم يجسّمون الله؟! أو إنّ بعض الموحّدين يزورون ويتوسّلون بالمعصومين والأولياء والصالحين بقصد التقرّب إلى الله وحده، فكيف ننسب سلوكهم هذا إلى الشرك؟! ثمّ حتّى لو كان هؤلاء مخطئين، ولو جدلًا، بسلوكهم مع أنّ اعتقادهم صحيح فهل يصحّ أن ننسب الخطأ السلوكيّ إلى الكفر؟!
بناءً عليه، ينبغي أن نميّز بين أصل الاعتقاد، وبين تفسير ما نعتقد به، وهو محلّ الاجتهاد المفتوح عند علماء المسلمين قاطبةً، وبين هذا السلوك أو ذاك وهذه الطريقة من الإقرار أو تلك. فالذي يوجب الخروج عن الدين هو الخلل في أصل الاعتقاد، أمّا بقيّة الموارد فحيثيّتها النقد والمراجعة والتصحيح.
بل بالإمكان القول أنّ إدخال بعض القواعد كأصول عقائديّة، طالما أنّه لا يغيّر التوحيد، والنبوّة، والإيمان باليوم الآخر، فإنّه لا يجوز لأحد أن يحكم على أصحاب هذه الأصول بالكفر أو الخروج عن الدين، وإن كان قد يسمح بالقول أنّها، مثلًا، ليست من الأصول الإيمانيّة. إذ فارق بين أن تقول عن قناعة أنّها غير إيمانيّة، وأن تقول عنها بأنّ فيها كفر، أو إنّها عقيدة كفر… هذا فيما يخصّ الأمور الاعتقاديّة. أمّا الأمور الأخلاقيّة والتشريعيّة والتاريخيّة فسنترك الكلام فيها إلى وقت آخر إن شاء الله.